يعيش الجميع في حالة ترقب بعد فوز إيمانويل ماكرون، مرشح الوسط في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، فالداخل والخارج يترقب سياساته لإدارة الإليزيه، ويترقب النظام المصري عن كثب ما سيُقدم عليه الرئيس الجديد من تغيير في السياسة الفرنسية، فهو يريد أن يعرف هل سيسير على خطى سلفه فرانسوا هولاند، صاحب العلاقات العسكرية والاقتصادية الأثيرة مع مصر، أم سيلجأ للبحث عن طرق أخرى لإمكانية التوافق معه، مثلما حدث مع ساكن البيت الأبيض الجديد دونالد ترامب؟


هولاند ودعم النظام المصري

الرئيس الفرنسي السابق فروانسوا هولاند

عقد الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته علاقات قوية مع نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، من الصعب لماكرون التراجع عنها أو إضعافها، فكما احتاج هولاند إلى الاستفادة اقتصاديًا من مصر مستغلًا حاجة النظام الجديد لتثبيت شرعيته خارجيًا وتغيير النظرة الأوروبية تجاهه، إلى جانب اتخاذ حلفاء له بمنطقة الشرق الأسط، سيحتاج إليه ماكرون أيضًا الذي يركز على الاقتصاد، بجانب ضرورة التعامل مع الإرهاب في العالم.

وأهم ما ميز علاقات «السيسي – هولاند»الصفقات العسكرية، التي أفادت الخزينة الفرنسية، وكذلك مصر بدعم قدراتها الدفاعية والهجومية، واقترب مجموع الصفقات الموقعة والمحتمل إتمامها بين الجانبين حوالي 10 مليارات دولار، فقد حصلت مصر على حاملتي طائرات مروحية «ميسترال» بقيمة 1.2 مليار يورو، وصفقة 24 مقاتلة «رافال»، بـ 5.2 مليار يورو، كما حصلت على فرقاطة صواريخ موجهة طراز «فريم» بـ 800 مليون يورو.

وإلى جانب ذلك تم التعاقد على أربع كورفيتات صواريخ شبحية ثقيلة طراز «GOWIND 2500»، دخل أولها الخدمة في سبتمبر/أيلول 2015، وتم الاتفاق على بناء الثلاثة المتبقية في مصر، مع احتمالية طلب التعاقد على كورفيتين إضافيتين من النوع نفسه بقيمة 500 مليون يورو. وبلغت قيمة الصفقة مليار يورو يضاف إليها قيمة التسليح المضاف للكورفيتات، والذي سيكون في حدود 400 إلى 650 مليون يورو.

ووقعت مصر في أبريل/نيسان2016 عقدًا لشراء قمر صناعي عسكري طراز «هيليوس» للمراقبة بـ 600 مليون يورو، وهناك مفاوضات حول صفقات أخرى، منها 24 طائرة نقل هليكوبتر طراز «إيرباص»، وليس هذا فقط، حيث تعتزم مصر شراء 4 مقاتلات «فالكون إكس ـ7» بتكلفة 300 مليون يورو.

وإلى جانب الصفقات العسكرية التي كان لها النصيب الأكبر من علاقات «السيسي – هولاند»، وُجد تعاون اقتصادي وإن كان بدرجة أقل، إذ بلغت المبادلات التجارية الفرنسية – المصرية ملياري يورو في 2015، فبلغ حجم الصادرات الفرنسية 1.5 مليار يورو وحجم الواردات 0.5 مليار يورو، كما اتسع الحضور الاقتصادي الفرنسي بمصر ، وتمثل هذا في وجود 160 فرعًا لمنشآت فرنسية تُوظف أكثر من 30.000 شخص.

كما حصلت فرنسا على حصة في المشروعات الجارية الآن في مترو الأنفاق، وفازت شركات فرنسية بعقود للمشاركة في تنفيذ المرحلة الرابعة من مشروع الخط الثالث من مترو الأنفاق بقيمة (440 مليون يورو)، فضلًا عن العقود المتعلقة بتنظيم الإشارات (170 مليون يورو) والكهروميكانيكية (480 مليون يورو)، إلى جانب العقد الخاص بالهندسة المدنية لهذه المرحلة (بقيمة 1.12 مليار يورو)، وفي المقابل حصلت مصر على قروض من باريس لتنفيذ هذه المشروعات بلغت حوالي مليار يورو.


ماكرون: فرنسا وأوروبا أولًا

رفع ماكرون شعار «فرنسا أولًا»، وتعتمد رؤيته على الاهتمام بالداخل ومستقبل فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي، الذي يدعمه بشدة، بعكس منافسته الخاسرة مارين لوبان، زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة.

ومن غير المتوقع أن ينخرط الشاب الصغير في مشاكل دولية مبكرًا، تكلفه خسارة فرنسا حلفاءها وتغيير علاقتها الخارجية بطريقة غير مدروسة، فجل اهتمامه سينصب على تحقيق مواءمة داخلية خاصة مع قرب الانتخابات البرلمانية الشهر المقبل، أملًا في أن تحقق حركة «إلى الأمام» أكبر عدد من المقاعد البرلمانية، حتى يتسنى له العمل بحرية وفاعلية، وإذا لم يحقق ذلك ففوزه بالرئاسة لن يساعده كثيرًا، وسيكون بمثابة منصب معطل بأغلبية من في الجمعية الوطنية.

والأولوية الثانية لماكرون مكانة بلاده داخل الاتحاد الأوروبي، إذ توجد قطاعات داخل الشعب الفرنسي رافضة للقيود التي يضعها التكتل الأوروبي عليهم، وهذا ما فرض نفسه على برامج المرشحين جميعًا، وأكسب منافسته لوبان قدرًا كبيرًا من الأصوات في الجولة الثانية، والأولى، إضافةً لما حصل عليه مرشح اليسار الراديكالي، جون لو ميلينشون.

ووعد مرشح الوسط في تصريحات له في مارس/آذار الماضي بضرورة إجراء الاتحاد الأوروبي عملية إصلاح أو مواجهة احتمال خروج فرنسا من الاتحاد «فريكست»، قائلًا: «أنا مؤيد للاتحاد الأوروبي، لكن يتعين علينا أن نواجه الوضع القائم، والاستماع إلى شعبنا الغاضب، فالاختلال الوظيفي في الاتحاد الأوروبي لم يعد قابلًا للاستمرار بعد الآن».

وباهتمام ماكرون بقضايا الداخل ومحاولة تشكيل جبهة سياسية داعمة له، إلى جانب الانشغال بمستقبل بلاده في الاتحاد الأوروبي وعلاقتها بإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ليس من المرجح أن يقدم على تغيير السياسة الخارجية لسلفه هولاند فيما يخص قضايا الشرق الأوسط، وعلى رأسها علاقته مع مصر، سواء الاقتصادية أو العسكرية، والتي كان جزءًا منها حين كان وزيرًا للاقتصاد في حكومة هولاند (2014-2016).

ومن غير المتوقع كذلك لجوء ماكرون إلى إثارة قضايا حقوق الإنسان في التعامل مع مصر، وهي الورقة التي تخلى الغرب عن توظيفها مع أنظمة دول الشرق الأوسط الحالية، بسبب انكفائهم ذاتيًا على مشكلاتهم والخوف من الصعود الروسي وتراجع الالتزام الأمريكي في الدفاع عن أوروبا، إلى جانب الخوف من المهاجرين والإرهاب، وبالتالي سيقبلون بالتعاون مع أنظمة سلطوية لحماية مصالحهم.

وبالتالي سيسير ماكرون على خطى هولاند في التعامل مع النظام المصري بتجاهل قضية حقوق الإنسان والتركيز على المصالح الاقتصادية والعسكرية، كما تفعل حليفته حاليًا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فخلال لقاء الرئيس السيسي بنظيره الفرنسي في القاهرة في أبريل/نيسان 2016، أكد أنه لا يمكن قياس مستوى حقوق الإنسان في مصر حسب المعايير الأوروبية، وقد قبل هولاند العلاقة مع مصر على هذا الأساس.


الاقتصاد والصفقات يدفعان ماكرون إلى مصر

أكد هولاند على حقيقة أنه لا يمكن تقييم حالة حقوق الإنسان في مصر طبقًا للمعايير الأوروبية، وعلى هذا الأساس تقوّت علاقاته بالرئيس المصري

حينما كان ماكرون وزيرًا للاقتصاد في عهد هولاند دعم الاتفاقيات الاقتصادية مع مصر، إلى جانب تسهيله تمويل الصفقات العسكرية، فمثلًا وقعت وزارة الدفاع المصرية اتفاقية مع البنوك الفرنسية للحصول على قرض قيمته 3 مليارات و375 مليون يورو، تُمثل نسبة 60% من قيمة أربعة عقود لتوريد معدات تسليح لمصر، وبالطبع لعب ماكرون دورًا في التخطيط لمثل هذه الاتفاقيات وكيفية تمويلها بحكم منصبه في الحكومة.

ومع نظرة ماكرون الاقتصادية، والتي ساهمت في اقتراح اتفاقيات اقتصادية وعسكرية نُفذ بعضها وبعضها لم يتم بعد، ومن المرجح أن يستمر على هذه الوتيرة ويسعى لإبرام المزيد من الصفقات، ومع محاولة السيسي كسب ود ساكن الإليزيه الجديد، فلن يمانع في عقد صفقات أخرى بغض النظر عن حاجة مصر إليها أو لا وقت الحصول عليها، كما أثير في السابق حول دلالات وتوقيت الصفقات التي وقعتها مع هولاند.

لن تضحي أوروبا بوكلائها في الشرق الأوسط في ظل الخروج البريطاني والتذبذب الأمريكي، وسيكون للقاهرة نصيب في هذه الشراكات في ظل ميركل وماكرون، إذ ليس ثمة ما يدعو لتعطيل الشراكة

وأوضح آلان جريش، رئيس تحرير جريدة «لو موند ديبلوماتيك»، هذه المعادلة،مؤكدًا أن المبرر العلني في فرنسا للتحالف بين «هولاند – السيسي» هو الحرب على الإرهاب، وأن مصر حليف قوي. لكن الجانب الأكثر أهمية في هذه العلاقة هو الاقتصاد، وهو ما تمثل في الصفقات العسكرية.

وسواء أراد ماكرون محاربة الإرهاب فعليًا أو اتخاذه كستار ومبرر لعلاقته مع مصر، فهو لن يقدر على تجاهل التعاون مع الدول الفاعلة في الشرق الأوسط لمكافحته، ففي أول كلمة له عقب فوزه بالانتخابات أكد أن باريس ستكون في الصفوف الأمامية لمكافحة الإرهاب، ومحاربته داخليًا وخارجيًا، وهذا يقتضي وجود علاقات قوية مع القاهرة.

وكان الأفضل للنظام المصري في هذا الملف لوبان وليس ماكرون، فقد وعدت بحظر جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما سيفيد النظام كثيرًا، لأنه سيكون بمثابة القضاء على وجود الجماعة في أوروبا وليس فرنسا فقط، ومن المستبعد أن يحصل السيسي على هذا المكسب لأن ماكرون حليف لميركل التي رفضت هذا الأمر وكذلك سلفه هولاند.

وفيما يخص الأزمة الليبية فيوجد تقارب بين مصر وفرنسا هولاند في هذا الشأن، وسيسير ماكرون على هذا الطريق على الأغلب، فكلاهما يدعم خليفة حفتر زعيم الجيش الوطني الليبي، وتعديل اتفاق الصخيرات السياسي، وبالتالي لن يوجد خلاف مع مصر في أحد القضايا الجوهرية، أما ما يخص الأزمة السورية، فإنها لن تؤثر على علاقات البلدين لأن كليهما ليس له اليد العليا في هذه القضية، وإنما أطراف أخرى.

وختامًا يمكن القول بأن ماكرون سيسير على خطى هولاند في علاقته مع مصر، بالتركيز على الاقتصاد، تحت غطاء مكافحة الإرهاب، وسيساعده في إدامة هذه الشراكة ألمانيا صاحبة العلاقات القوية مع القاهرة، فأوروبا بحاجة لشركاء ووكلاء لها بالشرق الأوسط، وخاصة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتذبذب الأمريكي.