أي اتجاه نحو إعادة التفاوض حول الاتفاق السياسي لن يساهم إلا في عرقلة مسار التسوية السلمية للأزمة، الوضع في ليبيا في غنى عن إعادة التفاوض.

جاء هذا التصريح على لسان المفوض بوزارة الخارجية في حكومة الوفاق الوطني «محمد سيالة»، تعليقًا على المساعي الإقليمية والدولية لحل الأزمة الليبية، التي فشلت حتى الآن في حل النزاع.

فجميع الأطراف لديها مصالحها ورؤاها المختلفة سواء في الداخل الليبي أو الخارج. ويعد «المشير» خليفة حفتر، الذي يبحث عن دور له في ليبيا مدعومًا من الخارج، أحد أهم هذه الأطراف على الساحة الليبية.

ويستعرض هذا التقرير تحركات «حفتر» الأخيرة، وضعف حكومة «الوفاق»، وموقف الأطراف الخارجية في هذا الصراع، ومستقبله.


هل تنجح تحركات «حفتر»؟

كان حفتر أحد رجال القذافي وشارك معه في انقلاب 1969، ولكن مع دخول ليبيا في حرب ضد تشاد في الثمانينات، أُسر حفتر، قبل أن تعمل الولايات المتحدة على إخراجه ودعمه. حاول حفتر بعد ذلك القيام بانقلاب على «القذافي» عام 1993، ولكنه فشل ولجأ لأمريكا حتى عاد مع ثورة فبراير/شباط 2011، وحاول أن يقود الأمور لصالحه ولكنه فشل في ذلك.

في فبراير/شباط 2014 حاول القيام بانقلاب، لكنه فشل. وفي مايو/آيار 2014، قاد عملية «الكرامة»، واستطاع من خلال دعم «برلمان طبرق» له، تعزيز سيطرته، وخاصة في الشرق، إلى أن استولى على منطقة الهلال النفطي في سبتمبر/أيلول 2016،وأصدر عقيلة صالح، رئيس البرلمان، قرارًا بترقيته إلى رتبة مشير.

بسيطرة حفتر على الهلال النفطي الذي يضم موانئ رأس لانوف والسدرة والزويتينة والبريقة اكتسب قوة اقتصادية، بجانب الدعم العسكري له من الخارج وخاصة مصر والإمارات، رغم افتقاده الدعم السياسي حيث يعترف المجتمع الدولي بحكومة «الوفاق الوطني».

وقد دفعت تحركات حفتر وسيطرته على منابع النفط دولًا عدة إلى تغيير توجهها من توازنات القوى. فرغم استبعاد «اتفاق الصخيرات» الذي وقع في المغرب في ديسمبر/كانون الأول 2015 لحفتر، دعت العديد من الدول على إثر التطورات الأخيرة إلى إعطائه دورًا أكبر.


«الوفاق» والشرعية الناقصة

اعترف مجلس الأمن بحكومة «الوفاق» كسلطة وحيدة في ليبيا في ديسمبر/كانون أول 2015، إلا أنها لم تستطع حتى الآن فرض سيطرتها، بل تواجه تحديات عدة، أبرزها رفض برلمان طبرق لتشكيلة الحكومة التي تقدم بها فايز السراج، رئيس المجلس الرئاسي، في أغسطس/آب الماضي.

بجانب الرفض من قبل برلمان طبرق، تواجه حكومة «الوفاق» تحديًا آخر، هو دعم أطراف خارجية لخصومها، وخاصة مصر والإمارات وفرنسا.

وبما أن البرلمان لا يعترف بحكومة «الوفاق»، فقد طالب رئيسه الهيئات والمؤسسات الرسمية بعدم تنفيذ أي قرارات صادرة من المفوضين بمهام الوزراء في الوفاق، معتبرًا أن حكومة «عبد الله الثني» هي الحكومة الشرعية حتى تشكيل حكومة وفاق وطني تمنح الثقة من قبل البرلمان.

بجانب الرفض من قبل البرلمان، تواجه «الوفاق» تحديًا آخر، وهو دعم أطراف خارجية لخصومها، وخاصة مصر والإمارات وفرنسا، الذين يبدو أنهم يدعمون حفتر بشكل كبير. وقد ساهم ذلك في إضعاف الوفاق وإجبارها على الدعوة للتفاوض مع حفتر والتخلي عن ترتيبات «اتفاق الصخيرات».

باعتبار الإرهاب أحد التحديات التي أرادت حكومة «الوفاق» إثبات قدرتها عبر مواجهتها، أطلقت عملية «البنيان المرصوص» لتطهير مدينة سرت من داعش في مايو/أيار 2016، وأحرزت تقدمًا كبيرًا ضد التنظيم رغم عدم القضاء عليه نهائيًا حتى الآن؛ إلا أنه أكسبها زخمًا في البدء يبين قدرتها على مواجهة الإرهاب، ولكن هذا الإنجاز قد تضيعه تحركات حفتر الأخيرة.

ومع فشل تحركات «الوفاق» وعدم وجود ضغط دولي أو إقليمي حقيقي على رافضي حكومة «الوفاق»، سيكون هناك احتمال كبير لتغيير التركيبة الحالية للحكومة وخاصة منح دور أكبر لـ«حفتر»، وهو ما كانت ترفضه سابقًا، وإن حدث ذلك فمن المرجح أن تستمر الخلافات لأن «حفتر» وداعميه يريدون إقصاء أطراف معينة والتي تتمسك هي الأخرى بمواقفها.

ولتأكيد التغيير في موقف الوفاق،أكّد السراج، أواخر سبتمبر/أيلول الماضي، أن العمل جارٍ على تشكيل الحكومة الجديدة لتقديمها إلى مجلس النواب الذي رفض الحكومة السابقة وأوضح أنه ليس لديه اعتراض على أي شخص من أجل ضمه إلى الحكومة.


المواقف العربية

غابت الجامعة العربية عن حل أزمات أعضائها، ومنها ليبيا، حيث لم تقم بدور ناجح حتى الآن في حل الأزمة، ولكن استبعدت إما لضعفها، أو لانكفاء أعضائها على مشاكلهم الذاتية، بجانب اختلافهم، وهذا ما أضعف موقف الجامعة. فقد أبدى المتحدث الرسمي باسم الأمين العام للجامعة في 3 أكتوبر/تشرين أول الحالي، استغرابه لعدم دعوة الجامعة للمشاركة في الاجتماع الوزاري الذي دعت إليه فرنسا حول الأزمة الليبية، وهو الاجتماع الذي عقد في باريس.

نظرًا لعدم عمل الدول العربية بشكل منسجم تحت مظلة الجامعة، تتخذ بعض دولها سياسة مختلفة عن الأخرى في الأزمة الليبية، وتدعم جماعات وتشكيلات مختلفة؛ مما ساهم في استمرار تشرذم ليبيا وجعلها عرضة للتدخلات الدولية وانتشار الإرهاب والتقسيم.

فمثلًا، تدعم قطر الإخوان المسلمين وجماعات أخرى موالية لها، بينما تدعم مصر والإمارات حفتر والموالين له، سواء أكان دعمًا سياسيًا أو عسكريًا؛ مما ساهم في تزايد الشقاق بين الليبيين وجعلهم عرضة للدخول في حرب داخلية قد تؤدي لعواقب وخيمة على ليبيا وباقي دول المنطقة.

مؤخرًا،استدعت حكومة الثني السفير الليبي في قطر، وهددت بقطع العلاقات بين البلدين، واعتبرت أن الدوحة تدعم الإرهاب في ليبيا على خلفية كلمة أمير قطر بشأن الأوضاع الليبية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي التي دعم فيها حكومة «الوفاق»، مستغربًا من رفض «دول معينة» للقرارات الدولية، ودعا لمعاقبة هذه القوى، بجانب إدانته لسيطرة حفتر على موانئ النفط.

في المقابل، دعمت مصر تحركات حفتر، حيث دعت في أكثر من مناسبة لرفع حظر السلاح المفروض على ليبيا من أجل مساعدتها على محاربة الإرهاب، ولكنها تريد دعم سيطرة حفتر أولًا، ومنع وصول أطراف معينة للسلطة أو مشاركتها في السلطة بشكل مؤثر. فقد أيدت الخارجية المصرية سيطرة قوات حفتر على منطقة الهلال النفطي.

فيما تعمل الجزائر على اتخاذ موقف وسط باستضافتها كافة أطراف الأزمة للبحث عن حلول تنهي هذا النزاع. وآخر هذه المساعي،استقبال الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، يوم 4 أكتوبر/تشرين أول الحالي، السراج لبحث التسوية السياسية.

ولدعم جهودها، عرضت الجزائر تجربتها في المصالحة السياسية على الليبيين لتساهم في حل الأزمة،وقدمت مقترحًا لإنشاء مجلس عسكري أعلى يضم في تشكيلته أعضاء من المجلس الرئاسي وحفتر ورئيس البرلمان عقيلة صالح.


المواقف الدولية

دعم مجلس الأمن اتفاق «الصخيرات» وحكومة «الوفاق» المنبثقة عنه، وفرض حظر أسلحة على ليبيا حتى التوصل لتوافق داخلي. ولكن مع تحركات حفتر الأخيرة، عملت بعض الدول على إعادة النظر في مواقفها من أجل إعادة ترتيب الداخل الليبي وفقًا لمصالحها، وهذا ما سيؤدي لاستمرار الأزمة وتحويل ليبيا لساحة صراع جديد في المنطقة قد يطول.

فمثلا، أكد الأمين العام للأمم المتحدة على ضرورة الاعتراف بدور حقيقي لحفتر؛ من أجل تحقيق الاستقرار في ليبيا، وصرح بمثل ذلك باولو جينتيلوني، وزير الخارجية الإيطالي، وهو كذلك موقف فرنسا.

وعرضت روسيا رسميًا لأول مرة وساطتها لحل الأزمة وذلك باستضافة محادثات سلام بين الليبيين، وذلك بعقد مشاورات واجتماعات برعاية روسية لتوسيع دائرة اتفاق «الصخيرات». أما الولايات المتحدة ورغم دعمها لحكومة «الوفاق»؛ إلا أنها لم تعارض سيطرة «حفتر» على الموانئ النفطية. ولرفع الحرج، دعت لتسليم عوائد النفط للوفاق، وهذا من الصعب أن يحدث بشكل كامل.


مستقبل الصراع

نظرًا لغياب العمل العربي المنسجم، تتخذ كل دولة عربية سياسة مختلفة عن الأخرى في الأزمة الليبية، وتدعم جماعات وتشكيلات عسكرية مختلفة.

مع استمرار تحركات حفتر العسكرية، وفشل حكومة «الوفاق» في تعزيز شرعيتها الداخلية، واستمرار التدخلات الخارجية، بجانب تواجد الجماعات الإرهابية، تتجه الأوضاع الآن إلى إعادة النظر في الترتيبات السابقة، وخاصة اتفاق «الصخيرات»، وهذا قد يدفع في المرحلة القادمة إلى:

  • قبول حكومة «الوفاق» بدور أكبر لحفتر مما قد ينهي الخلاف مرحليًا، ولكنه قد يتأجج، وبشكل أكبر؛ لإصرار الجنرال وداعميه على إقصاء أطراف معينة.
  • استمرار تحركات حفتر العسكرية، وتوجهه نحو طرابلس وبنغازي وباقي المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السابقة (حكومة الإنقاذ) مما يؤدي لتأجيج الصراع المسلح.
  • إصدار قرارات دولية جديدة تفرض عقوبات على معرقلي العملية السياسية، ولكن هذا قد يصعب التوافق عليه في الفترة القادمة لوجود اختلافات بين القوى الكبرى، وخاصة مع دخول روسيا على خط الأزمة.