حمل زجاجات المياه يسهل فوز فرنسا «ديشامب» باللقب

أصغر المتباعبين – سنًا – لمونديال روسيا، وحتى الأقل منهم دراية بأبعاد كرة القدم ومطالبها، سيخبرك بشكل مباشر عند سؤالك له عن تلك البطولة وسيرها، أن عنوانها الأبرز أنها لم تعرف التوقعات أبدًا. تلك هي التيمة الأساسية التي سيطرت على مونديال روسيا منذ لحظاته الأولى، وتأكد ذلك مع الوقت بشكل بات لا يجوز معه نفي. بالتالي يمكن أن نعنون وصول المنتخب الفرنسي إلى نهائي المونديال وفوزه باللقب بأنه حدث طبيعي جدًا، لكنه كذلك غير متوقع.

منذ الوهلة الأولى في البطولة، فرنسا تقدم أداءً باهتًا نسبيًا، أو يمكن القول بأنه دائمًا لا يرتقي لكونه خارقًا أو غير طبيعي، حيث كان المتوقع من كوكبة نجوم بهذا الشكل أن تقدم حيلًا كروية أبعد بكثير مما رأيناه منهم خلال ما مضى من البطولة، وحتى خلال مباراة نصف النهائي ضد المنتخب البلجيكي، بالتالي أداء فرنسا فعلًا غير متوقع بالمرة، لكن في الوقت ذاته لا يمكن أبدًا أن نُصنف صعودهم على بلجيكا بكونه مفاجأة أو حادثًا غريبًا، ذلك الصراع الوصفي يكوّن أبعاد المشكلة بالكامل.

لا مشكلة في الانتقاد

لم يُعرف عن «ديديه ديشامب» أنه ذلك المدرب التكيتكي المحنك الذي يصنع المعجزات بإمكانيات بسيطة، لكن كان المتوقع منه أن يقدم توليفة ناجحة من مجموعة المواهب التي يمتلك في فريقه، وهو ما حدث فعلًا والنتائج في صالحه، لكن الأزمة الحقيقة في نظري كانت في التوقعات لدينا، وهو ما لم يشغل بال الفرنسي بالمرة.

قبل حوالي 20 سنة، افتخر «ديشامب» بالوصف الذي ألحقه به إيريك كانتونا، بعد أحد لقاءات مانشستر يونايتد ضد فريق يوفينتوس عام 1996، حيث قال إنك يمكن أن تجد من نوعيته كلاعب في كل ركن في العالم، وإنه مهما تطور فإنه لن يرتقي إلى مكانة أكبر من كونه حاملًا لزجاجات المياه في فريقه.

الغريب أن الفرنسي افتخر بذلك الوصف طوال فترته كلاعب، مؤكدًا أن كل فريق لا يمكن أن يتخلى عن وظيفة مثل هذه، وأنهم في أمس الحاجة لمثله. ذلك الوصف كان نابعًا من مجهوده الكبير جدًا لكن بمهارة ضئيلة وجماليات تكاد تكون منعدمة. دفعه ذلك الوصف إلى انتهاج شخصية جديدة يبدو أنه يحافظ عليها حتى هذه الأيام، وهي شخصية لا تعرف سوى الفوز، وطالما كان المتوقع منك أنك لا تقدم صورة جميلة خلال رحلتك للفوز، فلا داعي لنفي ذلك، فقط حاول أن تستمتع بكونك تمتلكه.

ففي نصف النهائي على سبيل المثال، كانت المهمة الأساسية أمام الفرنسي ونظيره روبيرتو مارتينيز متشابهة تمامًا، قوام قوي من لاعبين أقوياء، كلاهما يمكن أن تجد مدربين أمثالهما في كل ركن في العالم، لا يقدمان عملًا ضخمًا تكتيكيًا ولا نفسيًا لكن فقط يُسيران العملية التدريبية نحو النجاح، وما ساعد «ديشامب» خلال رحلته الطويلة نحو النهائي، أنه دائمًا لا يتوقع منه أي شيء كبير، فيحقق دائمًا أي شيء ويوصف بالكبير، وهو عكس ما حدث مع مارتينيز خصوصًا بعد الفوز المفاجئ ضد منتخب البرازيل في ربع نهائي البطولة.

عمل ديشامب البسيط المثمر

المدرب الفرنسي ديشامب عن منتخب بلجيكا قبل مباراة فريقه أمامهم.

ديشامب اختار منذ بداية البطولة 4-2-3-1 متحولة، كرسم تكتيكي غير ثابت، لكل لقاء متطلبات، فأمام الفرق الضعيفة نسبيًا، يمكن أن تتحول إلى 4-2-2-2 بنمط هجومي أكثر من المعتاد أمام فرق أقوى قليلًا. تشكيلة فرنسا تملك عمقًا ساعد كثيرًا على صنع أي تحولات يمكن أن يتوقعها أي مدرب، وبالتالي في الشكل الهجومي نجحوا تمامًا بعناصر كـ«جريزمان» و«مبابي» وحتى «جيرو» و«ديمبلي» برغم أدائهم السيئ، ودفاعيًا كان الفريق متوازنًا لأكثر درجة ممكنة، ويتمكن دائمًا من حماية مرماه بصورة كبيرة، سواء كان يتم ذلك بارتكان دفاعي ملحوظ واعتماد تام على المرتدات، أو بزيادة عددية كبيرة في وسط الملعب كما كان الوضع ضد بلجيكا.

أمام بلجيكا كان أمام فرنسا تحدٍ قوي في خط الوسط، فرنسا شاهدت بوضوح العمل الذي قدمه خط الوسط ضد المنتخب البرازيلي، سواء بفيلايني وفيتسل أو بدي برونه وهازارد في خط الهجوم، بالتالي البداية بكانتي وماتويدي ثم أضيف إليهم نزوزي ومن قبله توليسو، كان الحل الأمثل والواضح من أجل قتل المساحات التي ينمو فيها افتراس خط وسط بلجيكا. بالزيادة العددية هو الحل الذي يقوم به أي مدرب عادي، مثله مثل ديشامب.

ديشامب متحدثًا عن أداء بلجيكا أمام البرازيل، وملاحظته حول خط الوسط البلجيكي.

الخريطة الحرارية للفريقين، تحديدًا التي تخص المنتخب البلجيكي، تظهر تمامًا ما نجح فيه ديشامب بحصر العمل في خط الوسط بكثافة واضحة تمنع وجود أي ممرات بالعمق، يمكن وصف ذلك بقلب السحر على الساحر، حيث نفذ ديديه أمام بلجيكا، ما فعله مارتينيز أمام البرازيل. حوالي 50% من تحركات الفريقين كانت في قلب الملعب.

صورة بوجبا غير المعروفة

بجانب العمل البسيط المباشر الذي يقوم به ديشامب، يملك ذلك المحظوظ أكبر فائدة ممكنة من العناصر الفردية. تحديدًا في وسط الملعب وعناصره، فمضافًا إلى الكثافة العددية التي اختلقها في عمق الملعب، فقد استفاد في هذه النسخة المونديالية بأداء بوجبا الدفاعي، غير المعتاد من شخص بمهارته، والذي كان عاملًا مؤثرًا جدًا لصالح منتخب فرنسا خصوصًا خلال المباريات التي قرر الفرنسيون فيها التراجع إلى مناطقهم الدفاعية.

بوجبا نجح في أن يكون أعلى لاعب في نصف النهائي في عدد تدخلاته الدفاعية الناجحة بـ7 تدخلات أغلبها في وسط ملعب فريقه، ومتفوقًا في ذلك على كانتي الذي نجح في 4 فقط، بالإضافة إلى نجاحه في تنظيف الكرة من مناطق الخطورة مرتين، بجانب اعتراض دفاعي وتمكن من الفوز بثلاثة صراعات هوائية.

تدخلات بوجبا الدفاعية ضد المنتخب البلجيكي، أعلى لاعب في الفريقين – هوكسورد

بطولة الإجابات السهلة

يمكن لأي منا أن يعدد الأسماء القوية في تشكيلة فرنسا، ومع ذلك فإنه يمكن القول بأن الفوز في كل مرة قد أتى بشكل سهل المنال، أو بمعنى آخر، فإن تلك التشكيلة من الأسماء الكبيرة لم تقدم ما يشعر خصومها بالعجز تجاهم في أغلب الأوقات، تحديدًا فيما يخص الأهداف. ركلات جزاء، ضربات ركنية، وحتى كرات تسجل بعد تخبط شديد، فقط الهجمات المرتدة التي يصنعون فيها الفارق بسبب الإمكانيات الهجومية التي يملكونها.

إن فتحنا قاعدة النقاش بشكل أكبر، فإننا سنصل لاستنتاج واضح، وهو أن تلك البطولة إنما هي بطولة الإجابات السهلة، أو بتصريح يوهان كرويف العبقري، فإن كرة القدم لعبة بسيطة جدًا، وفي هذه البساطة يكمن التعقيد لأنه ليس بإمكان الجميع الحصول على نجاحات في كرة القدم بهذه البساطة.

4 فرق وصلوا لنهائي المونديال، كلهم يملكون عناصر قوية ومميزة فرديًا، لكن أغلب اعتمادهم صبّ حول الأشياء البديهية، وهو ما يمكن وصفه بأن هذه البطولة فعلًا خارج التوقعات، لكنها كذلك الصخرة التي حُطم عليها كل اللغط الذي أثير في السنوات السابقة عن أن المُعقدين فقط هم من ينجحون في هذا المستطيل.