ولى زمن البندقية إذن، إلى أجل قريب ربما ليأتي زمن السياسة المرنة. وولى زمن الخيارات التكتيكية ليأتي زمن الخيارات الاستراتيجية في ظل ملامح صفقة القرن التي تبدأ خيوطها في التشكل الآن.

زمن السياسة المرنة، حيث لا عدو دائم. حتى وإن كان «محمد دحلان» رئيس جهاز الأمن الوقائي السابق بقطاع غزة، الجهاز الذي أذاق حماس وأهلها كل ويل والذي طالما اتهمه قادة حماس بالعمالة الصريحة لإسرائيل. الآن يبعد دحلان خطوات معدودة عن العودة إلى غزة، وبأحضانٍ حمساويةٍ مفتوحة. أما حماس فقد كان لمرونتها ثمن عظيم. ووفدها الرفيع في القاهرة منذ عدة أيام، وقد تلقى وعودًا مصرية برفع الحصار جزئيًا عن القطاع، وتدفقت الأموال الإغاثية لتنتشل الناس من كارثة إنسانية محققة وأصبح لحماس مكتب رسمي في القاهرة.

كان تحولًا مفاجئًا حقيقة ذلك الذي أعلنت عنه حماس منذ عدة أيام بحل مكتبها الإداري في غزة ودعوة حكومة الوفاق لإدارة القطاع، فوجئ «محمود عباس»، ولا ريب فدحلان -عدوه اللدود- أصبح قاب قوسين من أن يطيح بعباس نفسه، وذلك كله بدعم إماراتي-مصري وبصمت حمساوي. فمن أين بدأت قصة المصالحة الأخيرة، وهل يصل دحلان حقًا إلى كرسي السلطة الفلسطينية الذي لطالما شبق إليه؟

اقرأ أيضًا:مصر وحماس: انفراجة مرحلية أم تعاون استراتيجي؟


رصاصات عباس التي ارتدت إلى صدره

الرئيس الفلسطيني محمود عباس

في مارس/آذار الماضي، أعلنت حركة حماس عن تشكيل لجنة لإدارة الشؤون الحكومية في قطاع غزة، بذريعة تخلي حكومة «عباس» عن القيام بمسؤولياتها تجاه القطاع. وردًا على ذلك،قرر الرئيس الفلسطيني، «محمود عباس» في نهاية شهر أبريل/نيسان الماضي، تشديد الخناق على حركة حماس، وأبلغت السلطة الفلسطينية إسرائيل أنها ستتوقف عن دفع ثمن إمدادات الكهرباء الإسرائيلية إلى غزة، في تحرك قد يؤدي إلى انقطاع الكهرباء بالكامل عن القطاع الذي يعاني سكانه انقطاعها بالفعل في معظم أوقات اليوم، كما قلص عباس رواتب موظفي السلطة الفلسطينية في القطاع وأحال بعضهم للتقاعد المبكر، كما قطع تمامًا رواتب 400 موظف بحجة تعاونهم مع القيادي السابق بفتح «محمد دحلان»،واشترط للتراجع عن هذه الإجراءات حل اللجنة الإدارية.

أتت هذه الخطوات في ظل حصار مطبق منذ سنوات على أهل القطاع، أدى لتفاقم معاناتهم الإنسانية وكذا صعوبة الحصول على الخدمات الصحية والعلاجية في المستشفيات ونقص إمدادات الوقود، التي نتج عنها انقطاع التيار لساعات طويلة.

أدت الإجراءات العقابية هذه لغضب في الضفة وغزة، وكذا غضب إقليمي طال «محمود عباس» نفسه، الأمر الذي فرض على حماس أن تتحرك لحلحلة الوضع في القطاع ومن هنا بدأت خيوط المصالحة تتشكل.

في مايو/آيار من هذا العام، أعلنت الحركة عن وثيقة سياسية توضح موقفها من التطوّرات السياسية في الساحة الفلسطينية، وتوافق «حماس» في الوثيقة على إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967، دون الاعتراف بشرعية دولة إسرائيل.

وفي تصريح صحفي قال القيادي في حركة «حماس»، محمود الزهار إن حركته تقبل بقيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، دون التنازل عن «كامل أرض فلسطين التاريخية».

تعد هذه الوثيقة تطورًا تاريخيًا في توجه الحركة، وكان واضحًا أن الحركة قد أدركت انسداد الأفق السياسي الفلسطيني وأن الأزمة بحاجة لمغامرة ما. وفي ظل تناقص الحلفاء تدريجيًا اتجهت حركة حماس لمصر وتحديدا للمخابرات العامة المصرية، التي طالما تبنت قضية المصالحة الفلسطينية.

بدأت العلاقات بين مصر وحماس تأخذ منحى آخر بتولى اللواء «خالد فوزي» رئاسة المخابرات، حيث هدأت الشيطنة الإعلامية للحركة عبر وسائل الإعلام وبدا أن التوجه المصري القديم نحو التعاون مع الحركة آخذ في السيطرة على مجريات الأمور.تُوج ذلك بتوجه وفد من الحركة لزيارة مصر برئاسة رئيس «حماس» في قطاع غزة «يحيى السنوار» وعدد من مسؤولي «حماس». التقوا خلال الزيارة التي استمرت ثمانية أيام، قادة المخابرات العامة المصرية وعلى رأسهم اللواء «خالد فوزي» رئيس المخابرات العامة.

اقرأ أيضًا:المال الإماراتي في غزة على حساب قطر

ورغم النفي الرسمي للحركة أن لقاءً جمع السنوار ودحلان في القاهرة، إلا أن الكثير من الشواهد والمراقبين يؤكدون حدوث ذلك، حيث تواجد كلا الفريقين في القاهرة في نفس التوقيت.

وفرت حالة الخصومة المتزايدة بين كلٍ من حماس ودحلان من جانب ومحمود عباس من جانب الطريق لحوار بين حماس ودحلان، فلم يعد لكليهما طريق آخر، فـ«حماس» لم يعد لديها خيار بعد خطة «أبو مازن» العقابية تجاه قطاع غزة، والهادفة إلى تركيعها وإخضاعها عن طريق تشديد الحصار وفرض العقوبات المتدرجة لدفع القطاع للثورة على سلطة «حماس» إذا لم تقبل مطالب الرئيس، وإذا لم تخضع فلتتحمل «حماس» وحدها المسؤولية عما سيحدث.

كانت «حماس» تفضل -كما يقول قادتها- الاتفاق مع «فتح» والرئيس، ولا يزال يحدوها بقايا أمل بحدوث ذلك، لأن الرئيس خصم بينما دحلان عدو، ولكن خطة تشديد الحصار على القطاع لم تترك للصلح مجالًا.

أما دحلان فهو لا يزال يتجرع وجماعته مرارة الإقصاء من «فتح» بعقد المؤتمر السابع من دونهم رغم الدعم من الرباعية العربية. وحاول منذ مدة إقناع «حماس» بالاستجابة لعرضه الذي يكفل إنهاء أو تخفيف الأزمات التي يعيشها القطاع، ولكن حماس كانت تفضل الاتفاق مع «أبو مازن» حتى لو كان على شروط أسوأ.

وحتى وإن استسلمنا لتصريحات «حماس»، فإن بوادر التنسيق بين حماس ودحلان قد بدأت تظهر في الأفق منذ ذلك اللقاء. وعلى رأسها انعقاد المجلس التشريعي بحضور دحلان وكتلته وتفعيل لجنة التكافل الاجتماعي المدعومة بأموال إماراتية، والتي ستنفذ أعمالًا إغاثية في القطاع للتخفيف من وطأة الأزمة.

وصلنا إذن إلى اللحظة التي عادت فيها العلاقات المصرية-الحمساوية إلى أفضل حالاتها منذ سنين، وبدأت محادثات بين حماس ودحلان في خطوة لو أقسم أحدهم أنها ستحدث منذ سنوات لاتهمه الناس بالجنون. فما القادم إذن لدحلان وعباس، وكيف ترى إسرائيل أثر تلك الخطوات عليها؟


صراعٌ حول السلطة

في السادس والعشرين من يونيو/حزيران لهذا العام، سُربت وثائق اتفاق مصالحة بين كلٍ من حماس ودحلان، ورغم عدم تمكننا من التأكد من صحة هذه الوثائق، إلا أن الأحداث التي نشهدها الآن تدعم صدقها.

استُهلت الوثيقة باستبعاد كامل لمحمود عباس من مجريات الاتفاق حيث قالت في نصها: «تمت صياغة هذه الوثيقة بعد انسداد أي أفق للمصالحة غير المشروطة، والتي تحمل شراكة وطنية حقيقية واقعية مع السلطة والرئيس أبو مازن، وهذه الوثيقة تحمل الخطوط العريضة للوحدة الوطنية الفلسطينية ابتداءً من غزة وانتهاءً بلحمة قطاع غزة والضفة الغربية».

كما أفادت الوثائق المنشورة عن اتفاق بين حماس ودحلان، يتولى بموجبه دحلان رئاسة حكومة القطاع بينما تمسك حماس بزمام الأمن عن طريق توليها وزارة الداخلية وجاء في الوثيقة: «الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية على أساس برنامج وطني لا أبعاد سياسية له، يرأسها النائب محمد دحلان بمشاركة من يرغب من الفصائل بما فيها حماس وفتح، على أن تكون وزارة الداخلية من مسؤولية مرشح حركة حماس في الحكومة بالكامل بما يضمن استقرار حالة الأمن في القطاع».

كما أتى في نصها: «هذا الاتفاق لا أبعاد أو أثمان سياسية له ويُمنع التطرق في أي وقت من الأوقات لسلاح المقاومة والمواقف السياسية لها، و لا يعنى انفصال غزة عن باقي أجزاء الوطن أو تأسيس لدولة في قطاع غزة»، ونؤكد على أن الوثائق المزعومة لا تزال غير مؤكدة لدينا.


فكيف يمكننا قراءة هذه الوثيقة في ظل قرارات حماس الأخيرة؟

محمود عباس، أبو مازن، فلسطين، حماس، فتح، غزة

أتت قرارات حماس الأخيرة لتشكل نصرًا لفريق دحلان من جهة، نصر شعبي لتمكنه من تخفيف وطأة الحصار عن أهل غزة ونصر سياسي لتمكنه من حل اللجنة الإدارية المشكلة في القطاع. الأمر الذي يعني ضمنيًا أنه نجح فيما فشلت فيه إجراءات «محمود عباس» العقابية بحق غزة.

كما أتت قرارات حماس لتشكل إحراجًا كبيرًا لعباس نفسه، والذي استقبلها في فتور متوقع، فلا يمكن لعباس الترحيب بحماس أو افتراض دخولها في حكومة وحدة وطنية مع فتح وهي الموجودة على قائمة الإرهاب الأمريكية وذلك قبل أيام فقط من لقاء عباس بترامب على هامش الأمم المتحدة، فكان أن تأخر عباس في الرد على مبادرة حماس بعقد انتخابات وطنية جديدة.

وإذا أخذنا في الاعتبار الحالة المرضية لعباس وتقدمه في السن (82) عامًا، وعدم الرضا الدولي عن أدائه وعلى جانب آخر الدعم اللامحدود الذي يحظى به دحلان من كل من الإمارات ومصر والأردن والسعودية فإن فرص عباس في مواجهة انتخابية أمام دحلان أو غيره تتراجع بشدة ويصبح كرسي عباس في السلطة في خطر حقيقي.

ويشير استطلاع للرأي أُجري في الخامس من يوليو/تموز تابع للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية و المسحية، إلى أن موقف دحلان الشعبي ليس جيدًا، فقد حصل على نحو 18 في المائة من الدعم الشعبي في غزة كمرشح ليحل محل عباس، وعلى 1 في المائة فقط في الضفة الغربية. في المقابل، حصل القائد المعتقل من حركة فتح «مروان البرغوثي» على نسبة مماثلة في غزة، لكن نسبة تأييده في الضفة الغربية بلغت 44 في المائة. هذا إلى جانب قول 60% من المشاركين في الاستطلاع إن على عباس الاستقالة.

فما خيارات عباس وهو في الزاوية الآن وفقًا لتعبير صحفيين إسرائيليين. هل سيساوم لمحاولة إتمام مصالحته الخاصة مع حماس أم سيقطع أكثر علاقة السلطة الفلسطينية بغزة، وبالتالي يفاقم حالة الانقسام القائمة لتتجه الأمور نحو حل درامي وهو واقع من ثلاث دول في غزة والضفة وإسرائيل، وفقًا لتعبير الكاتب الصحفي آفي اسكاروف.

أما دحلان فلا ريب أن حظوظه تتزايد يومًا بعد يوم، فهل سيكون بمقدور القوى الخارجية أن تحمل دحلان إلى كرسي السلطة أم أن الشعب الفلسطيني سوف يكون له موقف مغاير؟

أما إسرائيل فترى في التهدئة وفتح معبر رفح مكاسب حمساوية بحتة، فبفتح المعبر وما يعنيه ذلك من تدفق لمواد البناء ومشتقات النفط والأسمدة الزراعية، يمكن لحماس إعادة بناء ترسانتها من الأسلحة كما ستتمكن أيضًا من مد شبكة الأنفاق المتشعبة بالفعل داخل القطاع وتحصينها، الأمر الذي سينعكس سلبًا على إسرائيل في حال اندلاع حرب قادمة، صحيح أن تلك الحرب قد تتأخر قليلًا كنتيجة للتهدئة التي تجري الآن، لكنها وفي حال اندلعت ستكون حماس قد استعدت جيدًا لها.