هل يهدد الذكاء الاصطناعي مستقبل الأطباء؟
ربما لم يكن يخطر في مخيلة الأطباء قديمًا أن تُصبح أدواتهم على الشكل الذي أصبحت عليه الآن، فقد تطورت كثيرًا الأدوات والتجهيزات التي كان يستخدمها الأطباء منذ بعيد الزمان. اعتمدت الحضارات الأولى على الشعوذة والسحر وطرق أخرى كانت كمحاولات بدائية قريبة للعلم كطريقة التخمين Divination، هذه الطريقة التي كانت تسعى لاكتشاف ما يحدث أو ما يمكن أن يحدث كمثل ظهور أعراض مرض ما من خلال تفسير بعض الظواهر والإشارات التي تطرأ على المريض. تطور الأمر عبر مئات السنين حتى وصل لاختراع السماعة الطبية Laennec’s stethoscope في عام 1816 ميلادية على يد الفيزيائي الفرنسي رينيه لينيك، الأداة التي أصبحت علامة مميزة لكل طبيب حتى وقتنا الحالي، رغم التطور غير المسبوق الذي وصلت إليه الأدوات الطبية حاليا. الآن وبعد أن صرنا داخل العصر الرقمي فكان لابد من بصمات تقنية رقمية تلتحق بالمجال الطبي لتصبح جزءًا منه.
تاريخ من العجز الطبي
ظهور الذكاء الاصطناعي في المجال الطبي ليس بالصدفة، فهناك العديد من الأسباب التي أدت إلى التفكير والاستثمار بهدف دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في العديد من الجوانب الطبية، يأتي على رأسها العجز الشديد في الطواقم الطبية كما قالت منظمة الصحة العالمية، والتي ذكرت في تقرير لها في عام 2014 وجود نقص بلغ 4.3 مليون فرد في أعداد الأطباء والممرضات والعاملين، بنسبة 15 %، وهي نسبة كبيرة للغاية. كما أصبح الخطأ الطبي في التشخيص والعلاج في الولايات المتحدة الأمريكية هو ثالث أكبر عامل مسبب للوفيات، حيث وصل متوسط عدد الوفيات 251.454 حالة وفاة في المستشفيات الأمريكية كل عام. الأمر كارثي للغاية خاصة مع وجود ارتفاع شديد في تكاليف التأمين الصحي والرعاية الطبية، والذي وضع حدودًا للوقت الذي يقضيه المريض مع الطبيب، فتبعًا لتقرير ميد-سكيب لأجور الأطباء Medscape Physician Compensation Report لعام 2016، يقضي الطبيب مع كل مريض وقتًا يتراوح من 13 إلى 16 دقيقة.
دفعت هذه العوامل كثيرًا من الشركات للاستثمار في المجال الطبي بتقنية الذكاء الاصطناعي بعدة طرق مختلفة، حيث أطلقت شركة Google العملاقة مشروع Google Deepmind Health الذي يعمل على تجميع وتحليل السجلات الطبية المختلفة للمرضى، وذلك لتقديم خدمات طبية بصورة أسرع وأكثر كفاءة. لم تقف شركة IBM دون الالتحاق بهذا المجال هي الأخرى، حيث أطلقت مشروع IBM WatsonPaths المكون من اثنين من تقنيات الحوسبة المعرفية التي تعتمد على خوارزمية ذكاء اصطناعي، تهدف هذه التقنية إلى مساعدة الأطباء في اتخاذ قرارات بصورة أكثر دقة في مدة أقصر من الزمن.
ماذا عن الشركات الناشئة؟
الأمر لا يقف عند الشركات الكبرى فقط، لكن هناك عشرات الشركات الناشئة التي خاضت التجربة لدخول هذا المجال وتقديم أفكارها وخدماتها للمجال الطبي، سنذكر بعضها هنا.
شركة Careskore
تملك هذه الشركة منصة تجمع عليها بيانات الأنظمة والمؤسسات الطبية المختلفة كالعيادات والمستشفيات والمعامل. من خلال تحليل هذه البيانات، تتمكن هذه المؤسسات من تحسين خدماتها الطبية كما يستطيع المريض الحصول على تفاصيل أكثر دقة عن صحته وسجله المرضي. استطاعت هذه الشركة في أغسطس 2016 الحصول على تمويل بمبلغ 4.3 مليون دولار أمريكي؛ مما يساعدها على الاستمرار في تحسين منصتهم من خلال تطوير خوارزميتهم.
شركة Sentrian
تسوّق هذه الشركة نفسها تحت شعار «الشركة الذكية للتعامل مع المريض عن بعد» حيث تطور مجموعة من الخوارزميات التي تستطيع أن تخبر الأشخاص بأنهم مرضى حتى قبل أن يشعروا بأعراض المرض، وتركز الشركة بشكل خاص على الأمراض المزمنة، حيث تساعد هذه التقنية المستشفيات على مراقبة المريض عن بعد. تتكون تقنيتها من عمليتين متتاليتين؛ تقوم أولاً بجمع بيانات المرضى على نطاق واسع جدًا، وبعد أن تجمع هذا الكم الهائل من البيانات، تعمل الآليات لديها من خلال خوارزميات معقدة على رصد وتحليل بيانات كل مريض كل فترة، والبحث باستمرار عن أي علامات أو مؤشرات خفية تُحذر من مشكلة وشيكة الحدوث ثم تمد المستشفى والمريض بتحذير.
استطاعت هذه الشركة أن تحصل على تمويل بمقدار 12 مليون دولار حتى تستكمل رحلتها في تطوير خدماتها وربط شبكاتها بعدد أكبر من المستشفيات والعيادات الطبية.
Ada
تقدم هذه الشركة تطبيقًا مسئولاً عن صحتك الشخصية حيث صُمم لمساعدتك من خلال التعرف على الأعراض التي تظهر عليك وتشخيص حالتك ومدك بمعلومات عن السبب وراء ذلك، بعد ذلك ينصحك بالذهاب إلى طبيب بشري على حسب حالتك وتشخيصه لك.
يساعد ذلك في إخبار الأشخاص متى عليهم الذهاب إلى الطبيب ومتى لا، كما يمنحهم أسبقية في نيل رعايتهم الصحية دون الحاجة إلى الأطباء إن لم يكن هناك أي داعٍ.
أيضًا هناك مجموعة من الأنظمة المحلية التي طُورت من أجل مساعدة الأطباء في توفير التشخيص والعلاج الصحيح للمرضى. مجموعة من الأطباء بالمركز الطبي لجامعة Vanderbilt يستطيعون الحصول على مجموعة من الإخطارات من خلال السجلات الإلكترونية للمرضى من خلال أحد الأنظمة التي تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي المطوّرة، فعلى سبيل المثال تخبرهم هذه الإشعارات بعدم جدوى أحد الأدوية مع بعض المرضى، ومن خلال ضغطة زر واحدة يُمكن للطبيب أن يقوم بوصف دواء آخر للمريض بعد تلقيه هذه الإخطارات.
دعنا نتخيل بأن هناك بعض المرضى في حاجة إلى نوع من أدوية منع تجلط الدم Plavix، يحذر النظام التقني الأطباء من إعطائه لبعض المرضى على حسب بياناتهم، حيث إذا تعاطوه قد لا يستطيعون الإقلاع عنه، وينصحهم بعمل اختبار يوضح هل بإمكانهم تناول هذا الدواء أم لا، وإن لم يكن فيمدهم باقتراحات أدوية بديلة.
هل يحل الذكاء الاصطناعي محل الأطباء؟
يخشى العمال في جميع أنحاء العالم أن تحل تقنيات الذكاء الاصطناعي والروبوتات محلهم في العمل، الآن انضم الأطباء لهم في مخاوفهم، فهل حقًا من الممكن أن يحدث ذلك؟.
هناك العديد من الأسباب التي تدفعنا أن ننفي هذا، لكن دعنا في البداية نقول إن تقنيات الذكاء الاصطناعي ستعمل على تقليل تكلفة الرعاية الصحية على المدى البعيد، كما أنها ستطور من أداء وكفاءة عمل المستشفيات والعيادات والتقليل من خطر الموت نتيجة التشخيص الخطأ للمرض والاستخدام الخاطئ للأدوية كذلك.
لكن هناك أسباب توضح صعوبة استبدال الأطباء؛ أولها أن هناك بعض المرضى يأتون في حالة اضطراب وقلق وفي حالة نفسية سيئة يحتاجون فيها إلى تعاطف ودعم نفسي، هذا ما لا تستطيع أن تستمده من آلة وإن كانت ذكية. كما أن مهنة الطب ذاتها في تطور مع تطور الأمراض وظهور ما هو جديد من تحديات طبية دائمًا، الآلة لا تستطيع أن تقوم بطرح أفكار جديدة لمرض جديد ظهر فجأة، كما أنها لا تقدر على اقتراح دواء له لم يُخلق بعد.
لا يتوقف الأمر على ذلك، فمن سيقوم بتحديث البيانات الخاصة بالمرضى خاصة إن جد في الأمر جديد؟. دعنا نتخيل ظهور دواء أفضل من دواء سابق أو ظهرت أعراض مرضية جديدة فستحتاج هذه التقنيات إلى مدها بالمعلومات الصحيحة من أوراق ودراسات بحثية تم نشرها من قبل الباحثين والأطباء أنفسهم، ويُشرف عليها أطباء ليتأكدوا من حسن استيعاب التقنيات لهذه البيانات، وهنا نستطيع أن ننتقل إلى نقطة جدلية: ماذا إن أخطأت التقنية وأدت بشخص إلى الوفاة؟، هل ستُحاسب التقنية على خطأها، أم ستحاسب الشركة المصنعة لهذه التقنية الذكية والتي قد تكون حينها قد قدمت خدماتها لآلاف من العملاء والهيئات الطبية على مستوى العالم؟!.
مهنة الطب في النهاية تتطور أدواتها وتقنياتها المساعدة، وتبعًا لهذا التطور لابد أن يُطور الطاقم الطبي كاملاً من أنفسهم والتدرب على فهم التقنيات المختلفة، ومنها الذكاء الاصطناعي، وكذلك على كيفية التعامل معها، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تظل المهارات المطلوبة من الطبيب على حال اليوم. ولم يقم حاسوب ذكي باستبدال الطبيب يومًا ما، فعلى الأقل سيكون بجاوره في غرفة الفحص كمساعد أساسي له.