بين «مارين لوبان» و «صادق خان»: من الأوروبي حقا؟
باريس .. 2022
تنتهي ولاية الرئيس الفرنسي الحالي «فرانسوا أولاند» في عام 2017. سينجح الرجل في الفوز بولاية جديدة بعد منافسة شرسة مع «مارين لوبان»، زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني شديد التطرف، والحانقة دوما علي ساكني البلاد المسلمين. ستعيد الأخيرة تنظيم صفوفها وتخوض الانتخابات بشكل أقوى بعدها بأربع سنوات، وفيما ستصبح شقراء اليمين علي بعد خطوات من الإليزيه، ستحدث المفاجأة.يظهر الزعيم الكاريزماتي المسلم «محمد بن عباس» في الصورة، ويتلقي الدعم من أحزاب اليمين واليسار علي السواء لإيقاف التقدم المجنون لـ«لوبان». ينجح ابن عباس في الوصول للرئاسة، ويبدأ في تنفيذ خطته الخاصة لأسلمة البلاد: يُجبَر الطلاب علي تعلم القرآن، وتجبر النساء علي ارتداء الحجاب وترك أعمالهن. ويباح تعدد الزوجات، أما الشعب الفرنسي فيتأقلم -كعادته- مع الوضع، ويقبل بفرنسا المتأسلمة الجديدة.لم يكن ما سبق من خيالي الخاص،ولا هي إحدى نبوءات نوستراداموس الشهيرة، بل هي حبكة رواية «الخاضع» التي نشرها «ميشيل ويلبيك» أحد أشهر الأدباء الفرنسيين المعاصرين،متخيلا نموذجا «كارثيا» يحكم فيه المسلمون فرنسا. والحال أن الرجل رغم أنه حاول جاهدا في تصريحاته نفي أن يكون معاديا للإسلام، وقال إنه عندما قرأ القرآن وجده أفضل بكثير مما كان يتصور، فإن السيناريو الذي يطرحه يظل حاضرا بشكل حقيقي في توقعات النخبة الفرنسية، وإن كان الرجل قد قصَّر المدى الزمني الذي يمكن أن يحدث فيه «الكابوس الإسلامي». سنعود لاحقا للرواية ونجري عليها تعديلا بسيطا لتصير أكثر دقة.
لندن .. 2016
«صادق خان»، مرشح حزب العمال الفائز بمنصب عمدة لندن الجديد، يؤدي القسم كأول مسلم يتولى المنصب. يقف «بول غولدينج» المرشح الخاسر عن حزب «بريطانيا أولا» اليميني المتشدد معطيا ظهره لخان أثناء القسم، تعبيرا عن رفضه لما آلت إليه النتائج، في تصرف عنصري أثار استياء الكثيرين.
كيف انتُخب الرجل لأهم منصب في بريطانيا بعد رئاسة الوزراء؟ وما الذي دفع أهل لندن للتغاضي عن ديانته في ظل حملة إعلامية مشحونة بخطاب معاد للإسلام ؟ سيتعين علينا أولا أن نتعرف علي المجتمع الذي نشأ فيه صادق، قبل أن نتعرض إلي تفاصيل حملته الانتخابية و الحملات التي خاضها المنافسون ضده، وتحليل أسباب فوزه.
المسلمون في بريطانيا
تمثل باكستان وبنجلاديش المورد الأساسي لمسلمي بريطانيا، إذ تزيد نسبة المسلمين العائدين لأصول باكستانية أو بنجلاديشية على 50% من إجمالي مسلمي بريطانيا؛ وصادق خان هو واحد من الجيل الثاني من هؤلاء.
تعود أصول أول هجرة مسلمة إلي بريطانيا إلي القرن الثامن عشر، حيث هاجر مجموعة من بحارة البنغال للعمل بشركة الهند الشرقية البريطانية؛ ليزداد عدد المسلمين في البلاد تدريجيا منذ ذلك الحين، مع تدفق موجات جديدة من المهاجرين المسلمين من آسيا وافريقيا، أو الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين الذين ولدوا على الأراضي البريطانية، أو حتى تحوُّل أعداد من البريطانيين أنفسهم إلي الإسلام، ليناهز الـ 3 ملايين مسلم بريطاني في يومنا هذا بنسبة 4.8% من سكان البلاد مشكلين بذلك ثالث أكبر مجموعة دينية، بعد المسيحيين واللادينيين. وفي العام 2014 كان اسم مُحمّد «بطرق كتابته المختلفة» هو أكثر الاسماء انتشارا بين المواليد في بريطانيا.
أما مسائل الانتماء والهوية فيثور حولها الكثير من الجدل. فوفقا لمسح أجري في العام 2006، فإن 80 % من المسلمين يعتبرون أنفسهم منتمين إلى الإسلام أولا، و 83% يعتزون بانتمائهم إلى التاج البريطاني -وهي أكبر من النسبة ذاتها لدى عموم المجتمع: 73%- غير أن نسبة قليلة من هؤلاء 29% هي من توافق على تطبيق «الشريعة الإسلامية» في بريطانيا بشكل كامل.شهدت أعوام ما بعد 11 سبتمبر توترا متصاعدا تجاه الأقليات الأوروربية المسلمة. لم تكن بريطانيا استثناء من هذه الحالة، إذ شاركت حكومة توني بلير في الحرب على كل من أفغانستان والعراق وتصاعدت موجات الإسلاموفوبيا في الإعلام والصحافة، وعزز منها تعرض البلاد لسلسلة من الهجمات نفذها أو اشتبه في الضلوع فيها مواطنون مسلمون، أبرزها تفجيرات لندن 2005 والتي راح ضحيتها 52 شخصا، واغتيال الجندي السابق في القوات البريطانية «لي ريجبي» الذي خدم في العراق. وفي المقابل شكا مواطنون مسلمون من تلقيهم تهديدات بالقتل،بالإضافة إلى التعرض للعنف والإيذاء اللفظي، والاعتداء على المساجد، والتمييز ضدهم في أماكن العمل.
أعاد ظهور تنظيم «داعش»، الذي التحق به 500 بريطاني على رأسهم «الجهادي جون» الذي تخصص في قطع رؤوس الرهائن الأجانب،الحياة لتيارات الإسلاموفوبيا في أوروبا ككل، بالتوازي مع ظهور حركة «ييغيدا» اليمينية المتطرفة المعادية للإسلام والمهاجرين في ألمانيا. مما أدى إلى علو نجم «رابطة الدفاع الانجليزية» ذات الأهداف المشابهة في الفضاء الانجليزي. يسعى اليمينيون بشكل عام إلى الربط بين المجتمعات المسلمة والإرهاب، والحديث عن تأثيرات سلبية للمهاجرين من جهة الاقتصاد والاجتماع والثقافة، وانطلاقا من هذا يتخدذون موقفا سلبيا من سياسات قبول اللاجئين التي يصفونها بالـ «متسامحة للغاية»،ويتخوفون مما يسمونه «أسلمة اوروبا»، تماما كما توقعها «ميشيل ويلبيك» في روايته.لدى حركات اليمين المتطرف أسباب أخرى للخشية، تتعلق بديناميات الديمغرافيا في البلاد. ففي العام 2001 كان عدد السكان المسلمين 1.55 مليونا، ليقفز إلى 2.71 مليونا في 2011، وهي نسبة نمو تتجاوز بأضعاف الجماعات الدينية الأخرى، وبالنظر إلى أن النسبة الأكبر من هؤلاء هم من الشباب (33% من إجمالي المسلمين في مقابل 19% للمجتمع البريطاني ككل)، وتزاداد نسبة التعليم بين تلك الأجيال الشابة، وفيما يمكن أن تمثل هذه النسبة بارقة أمل للاقتصاد البريطاني بما تحمله من فرص للتجارة والتبادل مع المجتمعات الأم، فإن هواجس اليمين من هيمنة إسلاموية سياسية- ثقافية في المستقبل ظلت حاضرة دوما في الوجدان.
صادق خان والطريق إلى منصب «العمدة»
يمكن قراءة صعود نجم صادق كبداية متوقعة لصعود الدور السياسي للمسلمين في عموم القارة الأوروبية. ولد صادق خان لعائلة مهاجرة باكستانية الأصل، وترتيبه الخامس بين إخوته. عمل أبوه سائق حافلة فيما اشتغلت أمه بالخياطة. بدأ اهتمام صادق بالسياسة وانجذابه لحزب العمال منذ سن الـ 15، فدرس القانون في جامعة شمال لندن، وافتتح مكتبا للمحاماة عندما كان عمره 27 عاما، ورافع في العديد من القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان كان بعضها ضد الشرطة البريطانية، إلى أن انتُخب في عام 2005 عضوا بمجلس العموم عن منطقة «توتينغ»، ولمع اسمه حتى تولى عام 2009 منصب وزير النقل والمواصلات، قبل أن يخرج حزب العمال من الحكومة بعد هزيمته في الانتخابات لأول مرة منذ 13 عاما.
أدى بروز صادق خان كمدافع عن الحريات ومؤيد للحركة النقابية إلى اختياره مرشحا لحزب العمال لمنصب عمدة لندن، منافسا لمرشح المحافظين العتيد «زاك جولد سميث» صاحب السمعة الطيبة. اعتمدت حملته على التركيز على القضايا الخدمية، فتعهد بمعالجة أزمة الإسكان، طامحا أن يجعل 50% من المنازل الجديدة ذات أسعار مقبولة، فضلا عن إعلانه -وهو وزير المواصلات السابق- أنه سيجمد أسعار تذاكر المواصلات في لندن لمدة أربعة أعوام، وسيزيد من الإنفاق على برامج الدرجات الهوائية والطرق الهادئة. ويقول صادق خان إنه في سبيل الحفاظ علي نقاء هواء لندن، فإنه سيغلق شارع «أوكسفورد» أمام السيارات وسيجعله للمارة فقط، كما ستضع هيئة النقل في لندن هدفا يتعلق بشراء الحافلات النظيفة التي تعمل بالكهرباء أو الهيدروجين بحلول عام 2020؛ بالإضافة بالطبع إلى موقفه المنسجم مع موقف حزب العمال بدعم بقاء بريطانيا عضوا بالاتحاد الأوروبي، بخلاف عمدة لندن السابق. تحت شعار «لكل اللندنيين»، خاض خان حملته الانتخابية منطلقا من تجربته الشخصية، إذ تعهد بأن يجعل الظروف في لندن مشابهة لما كانت عليه في السابق حين تمكن والداه من دفع أقساط مريحة لامتلاك سكن، وتابع هو وأشقاؤه تعليمهم في مدارس حكومية، وأنهوا دراستهم الجامعية وتكوينهم المهني دون التورط في ديون كبيرة.في مقابل التركيز علي القضايا المطلبية، كان تركيز حملة «زاك جولد سميث» علي ديانة منافسها. ركزت الحملة على أصول صادق الباكستانية، متهمة إياه بالتعاطف مع المتطرفين، ووزعت منشورات على المصوتين الهنود والسيخ والتاميل وُصف فيها صادق بالـ«خطير»، تلميحا بذلك إلى ديانته، كما أثارت المخاوف من فرضه ضرائب على تجارة الذهب التي يمتهنها الكثير من الهنود. لم تلق هذه السياسات تجاوبا كبيرا إذ اعتبر الكثيرون هذه الوسائل صبيانية للغاية، ولاقت معارضةحتى من داخل حزب المحافظين نفسه، إذ وصفتها البارون سعيدة وارسي بـ «نباح الكلاب المروع» الذي جعل الحزب يخسر الانتخابات، ويخسر مصداقيته، ويخسر كل شيء. عمدة لندن المحافظ، المنتهية ولايته، نفسه اعتبر أن الإرث السلبي الذي ولَّدته تلك الحملة سيحتاج إلى وقت طويل للغاية حتى يمكن تناسيه.
كانت شعبية صادق خان قد شهدت تراجعا نسبيا قبيل الانتخابات مباشرة نتيجة تصريحات بعض قيادات حزب العمال المناهضة لإسرائيل، والتي أثارت المخاوف من اتجاه معاد للسامية يسري في أوساط الحزب؛ ومع ذلك فقد تمكن الرجل في النهاية من الحصول على 57% من الأصوات، ليصبح أول عمدة مسلم في تاريخ لندن، المدينة الأكبر والأكثر ديناميكية في أوروبا الغربية كلها،ممثلا لنحو 8.9 مليون شخص، ومتحكما في نحو 17 مليار جنيه استرليني هي حصيلة الخرينة سنويا. صار صادق خان، نجل المهاجر الفقير، والخارج من رحم الأقلية المستضعفة الموصومة بالعنف والإرهاب أحد أكبر السياسيين البريطانيين، وأكبر سياسي مسلم في أوروبا حتى الآن، وربما تخبئ له أقدار المستقبل ما هو أكبر.
صادق خان: الإسلام الأوروبي
أؤمن بالإسلام الأوروبي، ذلك الإسلام المتحد في مبادئه والأوروبي في ثقافته. ما يجعل الإسلام دينًا عالميًا هو مبادئه المتحدة والتي يتفق عليها كل المسلمين في العالم، وليس ثقافته. في أفريقيا إسلام ذو ثقافة أفريقية، وفي آسيا أيضًا هناك إسلام ذو ثقافة آسيوية؛ نحن الآن في أوروبا، ومن الطبيعي الحديث عن إسلام أوروبي، ولكن هناك فروق، فالمسلم الألماني ليس كالمسلم البريطاني أو المسلم الفرنسي.
المفكر الأوروبي المسلم طارق رمضان -بتصرف-
لسنا في معرض تقييم الفقرة السابقة بشكل كامل، وليس هذا مجال النقاش حول حدود التقاطع والتنافر التي قد تنشأ بين الثقافة الإسلامية وبين غيرها من الثقافات المحلية المذكورة؛ لكن الأكيد أن «الإسلام الأوروبي» الذي يتصوره طارق رمضان هنا يختلف تماما عن سيناريو «الهيمنة» الذي طرحته الرواية التي عرضناها في مقدمة المقال، بل هو إسلام متآلف مع المجتمع الذي يعيش فيه، يتشكل بشكله -وإن احتفظ بخصائصه الأساسية- ولا يسعى إلي فرض «قوالب ثقافية» معينة ليست من صميم أحكامه.
وعلى عكس باريس المتخيلة التي حوّل فيها «ابن عباس» كل شيء وكل شخص إلى النمط الإسلامي التقليدي، فإن لندن الحقيقية تشهد الآن نموذجا آخر من السياسيين المسلمين، إذ خاض صادق خان مثلا الانتخابات بوصفه مواطنا بريطانيًا قبل أي شيء،وإن أبدا اعتزازا بكونه مسلما: «أنا لندني، أنا بريطاني، أنا مسلم الديانة، وبالطبع أنا فخور بإسلامي».
لو تجاوزنا بعين الخيال الحدود القائمة بين الدول، ورأينا سباقا انتخابيا بين «مارين لوبان» و«صادق خان»، لوجدنا أن الأخير -مشجع ليفربول العتيد الذي يؤيد زواج المثليين، وينأى بنفسه عن «معاداة السامية»، ويدعم استمرار بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي- هو أكثر تعبيرا عن الروح الأوروبية من لوبان –اليمينية المتطرفة التي تكره الهجرة والمهاجرين، وتشبِّه صلاة المسلمين في الشوارع بالاحتلال النازي، وتسعي إلى إخراج بلادها من منطقة اليورو-، حينها فقط يمكن أن تفهم لماذا فضل اللندنيون صادق على منافسيه، ولماذا دعمت أحزاب اليسار ويمين الوسط في رواية ويلبيك «محمد بن عباس»، -مع تجاوزنا للتفاصيل الأخري في الرواية-. انتصر صادق خان ببساطة لأنه «أوروبي» حقا، أوروربي أكثر من الأوروبيين أنفسهم، هذا كل ما في الأمر.