لماذا نحن في حاجة ملحة إلى الحديث عن الأوقاف؟
يمكن القول إن من أبرز سمات الدولة الحديثة؛ الثقل والسيطرة. لقد حلت الدولة الحديثة على المجتمع بمؤسساتها الضخمة الثقيلة لتجثم على صدره وتحكم قبضتها على أطرافه وتتحكم في أنفاسه؛ فهذه الدولة لا تقبل بأي حال من الأحوال أن يمضي المجتمع كما اعتاد – في السياق التاريخي الإسلامي – على حريته سواء أكان يقيم مسجدًا أو مدرسة أو حتى مصنعًا للسلاح، تلك المؤسسات التي كان يشيدها المجتمع كتعبير حقيقي عن إرادته في تسيير معاشه، ورعاية أبنائه، والحفاظ على ثقافته، والمساهمة في الذود عن البلاد والعباد إذا ما دعت الضرورة.
إن ما يحدث في مصر منذ عقود ما هو إلا مثال فج لنهج الدولة المتواتر في محاربة منظومة الوقف، تلك المنظومة التي كفل الإسلام بها للمجتمع حياة كريمة عمادها الصدقات الجارية التي يصلح معها حال الفرد والمجتمع، ومع تفاقم معدلات الفقر، وتراجع مستويات التعليم، وانحدار الثقافة، وفشل خطط الإصلاح الاقتصادي، تتجلى ضرورة الحديث عن الأوقاف والوقوف على تطورها وبحث إمكانات إحيائها حتى يتمكن المجتمع من النهوض مجددًا عبر تلك المساحات التي ثبت فيها عجز الدولة.
الأوقاف والمجتمع والسياسة في مصر
هنا يبرز أمامنا مرجع مهم يُفصّل نظام الوقف وعلاقته بالدولة الحديثة في مصر، موضحًا الصلة الوثيقة بين الجماعة والدولة، والأدوار التي تجلّت فيها تلك الصلة وتبعاتها الاجتماعية والسياسية، ونعني كتاب «الأوقاف والمجتمع والسياسة في مصر»[1] لمؤلفه الدكتور إبراهيم البيومي غانم [2] أستاذ العلوم السياسية.
يتضمن الكتاب دراسة تفصيلية لنظام الوقف، وللتطورات المؤسسية والإدارية التي لحقت به، بالإضافة إلى الأنشطة والخدمات المتعددة التي ارتبطت به عبر تاريخ مصر الحديثة. ويأتي الكتاب، وهو في أصله أطروحة للدكتوراه، في خمسة فصول، يتناول الكاتب في الفصل الأول «العلاقة بين الأوقاف والسياسة في إطارها الفقهي والتاريخي»، فقه نظام الوقف وأصوله الشرعية، ويبين صلته بالسياسة، ويقارنه بالصيغ المعاصرة للعمل التطوعي من حيث الشبه والاختلاف بينهما، فيعرّف الوقف في الاصطلاح الفقهي بأنه «حبس العين على حكم ملك الله تعالى، والتصدق بالمنفعة حالا أو مالا»، وهو المعنى الذي ميّز منظومة الوقف منذ نشأتها في القرن الأول الهجري وحتى بدايات العصر الحديث، إلى أن ظهرت الدولة الحديثة. قدم غانم بيانًا لأهم الأسس التي وفرت الحماية الشرعية لنظام الوقف ضد احتمالات سيطرة الدولة عليه؛ وهي: احترام إرادة الواقف، واختصاص القضاء وحده بسلطة الإشراف العام على الأوقاف، والاعتراف للوقف بالشخصية المعنوية الاعتبارية.
يفرق المؤلف بين مفهومين للسياسة؛ الأول: يستخدمه علماء السياسة في العصر الحديث، وجوهره التخصيص السلطوي للقيم والموارد المتاحة للدولة. والثاني: طبقا للتراث العربي الإسلامي ويعني تدبير شئون الناس بما يصلح أحوالهم في الدنيا والآخرة. ويرى غانم أن الثاني ربما يتضمن وظيفة الأول إلا أنه يحققها بطابع اجتماعي تلقائي خارج سلطة الدولة وأجهزتها من خلال نظام الوقف. ويبحث الكاتب هذه القضية تحت عنوان «التأسيس الاجتماعي للأوقاف في مصر الحديثة وأبعاده السياسة»، من خلال الفصل الثاني، معتمدًا في ذلك على وثائق وإجراءات تأسيس الأوقاف، تلك الوثائق التي عكست التطور في الدوافع المعنوية والمضامين السياسية ومجالات عمل نظام الوقف عبر تاريخ مصر الحديث وخاصة بعد عام 1952.
ويلفت المؤلف النظر إلى أن أهم المجالات الاجتماعية التي ساهم فيها نظامُ الوقف مجالَ التعليم والثقافة العامة، من خلال التركيز على مؤسسات التعليم الموروث المتمثلة في الكتاتيب والمعاهد والأزهر، إلى جانب الاهتمام – بصورة أقل – بمؤسسات التعليم الحديث، وتطور الأمر إلى وجود وقف على البعثات العلمية إلى الخارج.
ولم يقتصر دور الوقف على التعليم، وإنما شمل مجالات أخرى مثل الصحة فساهمت الأوقاف في بناء المستشفيات، والخدمات العامة، حيث إقامة أسبلة المياه والتكايا ودور الضيافة ومدافن الصدقة، والرعاية الاجتماعية فظهرت الملاجئ ودور الإيواء، وقدّم المساعدات للمحتاجين، بل ودعّم النظام الاجتماعي والمحافظة على تماسك الأسرة التي هي وحدة المجتمع، هذا بالإضافة إلى دعم الحركة الوطنية. ويؤكد الكاتب – في الفصلين الثالث والرابع – أن المجتمع عظَّم من أدوار الوقف في فترات الاستعمار لخدمة أهداف التحرر وللمحافظة على الثوابت الوطنية للأمة وأصولها المعنوية والمادية، مما يدل على مرونة نظام الوقف وقابليته للتكيف والاستجابة لتحديات الواقع.
الدولة الحديثة والقضاء على الأوقاف
يشير المؤلف إلى أن ازدهار الأوقاف أو انحسارها ظل مرتبطًا بتطورات بناء الدولة الحديثة. فقد بدأت محاولات السيطرة الحكومية على الأوقاف ببطء مع بدايات تحديث الدولة على يد محمد علي، وتوالت ثم تراكمت آثارها مما أدى إلى تقويض استقلالية نظام الوقف وما ارتبط به من مؤسسات، فتحوّل من نظام أهلي/خيري يعبر عن إرادة المجتمع وحركته إلى نظام حكومي خاضع لتوجهات الدولة، على أن الضربات القاضية التي تلقاها نظام الوقف تلك التي وجهتها الدولة منذ عام 1952. ويتناول الفصل الخامس من الكتاب تحليل السياسات التي أدت إلى القضاء على استقلالية الأوقاف وتجفيف منابعه الاجتماعية.
يذكر المستشار طارق البشري في تقديمه للكتاب أنه «قد انفصلت في وعينا التاريخي نظم الماضي وتكويناته عن نظم الحاضر وتشكيلاته. وأهم من ذلك، سقط من وعينا التاريخي أهم ما يتعين أن تهتم به الدراسة التاريخية، وهو فترات التبدل والتحول من شأن إلى شأن آخر». هذه الفكرة الأساسية هي التي يعالجها الكتاب بصورة أساسية من خلال تناوله لموضوع الأوقاف؛ لأنه يربط تفصيل تكوينات الأوقاف في الماضي بالكيفيات التي آلت بها إلى تشكلاته في الحاضر، مما يساعدنا على فهم واستيعاب تفاصيل المشهد الحالي للأوقاف، والخلفيات التي اعتمدت عليها سياسات الدولة حتى يومنا هذا.
يمكن القول: إن الكتاب يفتح لنا بابًا واسعًا للتعرف على منظومة الوقف التي نحن في أمس الحاجة إليها، فربما تكون السبيل الوحيد لخلاص المجتمع وحريته وصلاحه، إلا أن ذلك يتطلب حسن إدراك لأسباب تراجعها الشديد، والتحديات التي يفرضها حتى يمكننا البدء بالحديث عن الحلول الممكنة لإحيائها.
[1] الكتاب له طبعتان، الأولى صادرة عن دار الشروق عام 1998، والثانية منقحة صادرة عن مدارات للأبحاث النشر عام 2016.[2] إبراهيم البيومي غانم باحث ومفكر إسلامي، وأستاذ العلوم السياسية، ومستشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة.