بعد 50 عاما على وفاته: لماذا كان التخلص من عامر ضروريا؟
كان برتبة صاغ (رائد) عند قيام ثورة يوليو/تموز، وبعد أقل من عام ترقى لرتبة اللواء، متخطيًا 3 رتب، مع تعيينه قائدًا عامًا للقوات المسلحة، ثم ترقى بعد حوالي 5 سنوات إلى رتبة المشير، وأصبح أول شخص يشتهر بهذه الرتبة التي لم تكن معروفة من قبل على مستوى العالم العربي.
إنه المشير عبد الحكيم عامر، قائد القوات المسلحة المصرية لـ 13 عامًا، كان الجيش المصري فيها قوة رئيسة ومحورية في العالم العربي. وكان تحت تصرفه أيضًا الشرطة العسكرية، والمباحث الجنائية العسكرية، والبوليس الحربي، والمخابرات الحربية، ولجنة تصفية الإقطاع، والاتحادات الرياضية، وقطاع النقل العام، بحيث كان يتولى مسؤوليات سياسية وتنفيذية كثيرة جعلته غير متفرغ للقوات المسلحة التي تحتاج إلى تفرغ كامل، خاصة في بداية تأسيسها، وما كانت تواجهه من صراعات إقليمية ودولية.
صراع على القمة
من هنا بدأ الصراع بين رأسي الدولة المصرية: زعيمها، ورجلها الأول «جمال عبد الناصر» وقائد جيشها، ورجلها الثاني «عبد الحكيم عامر»، حيث كان الصراع على السلطة بين الرئيس والمشير ساخنًا؛ فناصر هو زعيم الأمة المؤيد بجماهيرية الشعوب، وعامر هو قائد الجيش المؤيد بجماهيرية ضباطه، وهنا مكمن الخطر الذي كان يستشعره عبد الناصر، انقلاب المشير والجيش عليه، فكان لابد من التخلص منه قبل احتمالية حدوث هذا الانقلاب.
بدأ الأمر عندما أراد عامر أن يهيمن على كل شيء، ويجمع كل السلطات في يديه، مطمئنًا إلى أن صداقته بعبد الناصر ستظل درع الحماية الدائمة، وأن مناصبه ستجعله مركزًا للقوى لا يمكن الإطاحة به، كما أن المحيطين به بثوا في نفسه الحقد، وأقنعوه بأنه لا يجب أن يكون الرجل الثاني، بل الأجدر به أن يكون الأول، بحجة أنه يفعل كل شيء ويحمي البلاد، بينما يحتكر عبد الناصر وحده المجد والزعامة وحب الجماهير.
ازداد السوء في العلاقة بينهما بسبب لوم ناصر لعامر وأسلوب إدارته للمعارك في أعقاب العدوان الثلاثي 1956، ثم فشل الوحدة بين مصر وسوريا 1958، ثم تدخل مصر في اليمن 1962، وأنهت نكسة 1967 على ما تبقى من ود بينهما، بعد قصف المطارات العسكرية المصرية، والانسحاب غير المخطط للجيش، والذي صدرت أوامره من قبل عامر شخصيًا.
وفى أعقاب الهزيمة أعلن عبد الناصر التنحي من منصبه، إلا أن المظاهرات عمت أرجاء البلاد مطالبة بعدم تنحيه، وبعد عودته أصدر بيانه الشهير بعزل قيادات الجيش وتعيين قيادات جديدة، فكان هذا البيان ذروة الصراع بين ناصر وعامر.
الحب أعمى!
ورد بـ كتاب (ناصر وعامر) للكاتب عبد الله إمام:
«كان ناصر يحب حكيم. هذه حقيقة دفعت مصر ثمنها غاليًا، فناصر القوي كان يضعف أمام طلبات ورغبات صديقه، وحكيم كان يستغل هذا في السيطرة على مؤسسات مهمة وحساسة، من هنا بدأت المعركة الخفية والسباق على السيطرة، فالرئيس لا يريد شريكًا في القرارات لأنه الرجل الأول، وهذا حقه، والرجل الثاني أمسك في يده خيوطا مهمة وكثيرة صورت له أنه بات أقرب إلى لقب الرجل الأول، وهذا طموحه. هنا وقعت مصر بين الحق والطموح.
كان كل منهما يريد السيطرة على الآخر، عبد الناصر يريد أن يُحكم سيطرته على عامر ومؤسسته العسكرية، وعبد الحكيم يريد أن يمتد نفوذه إلى عبد الناصر وجماهيره. وهكذا بدا الصراع بين الطرفين: عبد الناصر الشعب معه في جانب، وعبد الحكيم الجيش معه في جانب آخر.
جزء من مأساة 1967 كان راجعًا لحب عبد الناصر لحكيم، ذلك أن الحب حال دون أن يقتنع ناصر أن عبد الحكيم لا يصلح للقيادة، فخلال العدوان الثلاثي ظهر أن عامر بمعلوماته العسكريه وبالمحيطين به وبقادة جيشه أقل من أن يقود حربًا كبرى».
كبش الفداء
كان لابد من شخص يتحمل الكارثة باعتباره المسئول الأول عن الهزيمة، ولم يكن هناك أفضل من عبد الحكيم عامر للعب هذا الدور، بصفته القائد العام للقوات المسلحة، ونائب رئيس الجمهورية، والرجل الثاني في الدولة.
فضلا عن أن الجماهير – بعد الهزيمة – كانت مستعدة لتحاكم أي شخص إلا الزعيم عبد الناصر، الذي رأت أن وجوده الضامن الوحيد للعودة وهزيمة إسرائيل، لذلك كان على المشير أن يدفع الثمن وحده، فتم – رسميًا – إعلان انتحاره.
وقد أعد محمد حسنين هيكل بيان الانتحار، وأُذيع يوم 15 سبتمبر/أيلول 1967. وجاء فيه:
ثم أصدر النائب العام قراره في الحادث يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول 1967، وجاء فيه: «وبما أنه مما تقدم يكون الثابت أن المشير عبد الحكيم عامر قد تناول بنفسه عن بينة وإرادة مادة سامة بقصد الانتحار، وهو في منزله وبين أهله يوم 13 سبتمبر/أيلول 1967، قضى بسببها نحبه في اليوم التالي، وهو ما لا جريمة فيه قانونًا، لذلك نأمر بقيد الأوراق بدفتر الشكاوى وحفظها إداريًا».
ودُفن عامر فى قريته أسطال، وقد استطاع شقيقه الأكبر، وابن شقيق له، أن يلقيا نظرة خاطفة على وجه الجثمان، ولم يسمح بتغسيل الجثة أو كشفها، فلم يطالع أحد غير الوجه. كما أن أحد ضباط حراسة استراحة المريوطية التى قُتل فيها عامر، كان قد أخبر صلاح نصر في فترة لاحقة أن عامر قد تعرض للتعذيب بالتجويع والعطش والضرب أحيانًا في فترة احتجازه التي استمرت 24 ساعة كاملة حتى قُتل، فقد أُريد منه أن يتحمل وحده أخطاء النكسة، وأن يدون بخطه هذه الإدانة لكنه رفض.
جرعة سم تكفي لقتل 50 شخصًا
عام 2007 أكدت الممثلة برلنتي عبد الحميد –زوجة المشير في ذلك الوقت – أن الطبيب الذي حقق في الوفاة أكد لها أنه مات مسمومًا، وأطلعها على صورة التقرير الطبي الأصلي الذي يثبت ذلك، كما أن عامر أخبرها بمخاوفه من أن تقوم أجهزة عبد الناصر بقتله للتخلص منه بسبب ما في حوزته من معلومات، كما أخبر صلاح نصر -رئيس المخابرات العامة وقتها- بتلك المخاوف، حيث توقع أنهم سيجعلونه «كبش فداء» للهزيمة، وأن الحديث عن تخاذل الجيش وقادته هو بمثابة تحضير لقتله، «فعبد الناصر لم يكن ليرضى بأن يتحمل المسئولية».
بينما أوضح جمال عامر (نجل المشير) أنه طالب بإعادة فتح التحقيقات في وفاة أبيه خلال عهد مبارك، لكن زكريا عزمي – رئيس الديوان حينها – طالبه بإغلاق هذا الموضوع بتعليمات من مبارك؛ لدواعٍ أمنية.
وأكد جمال أن المشير قُتل بالسم، بعدما «أعطوا له جرعة مات بعدها بـ 5 دقائق، لأنها طبقاً لآراء خبراء الطب الشرعي، كانت كفيلة بقتل 50 شخصًا».
وفي 2012 (بعد 45 عامًا على وفاته)قرر النائب العام إحالة البلاغ المقدم من أسرة عامر إلى القضاء العسكري، للتحقيق في وفاته، وكشف جمال نجل المشير عن وثائق وأدلة تؤكد أنه قتل بالسم ولم ينتحر، منها: أصل التقرير الذي أعده رئيس الطب الشرعي حينذاك الدكتور عبد الغني البشري، والذي أثبت فيه أن عامر مات مقتولًا بالسم، وتم إخفاؤه، وتقرير آخر أعده قسم الطب الشرعي والسموم بجامعة عين شمس يؤكد القتل بالسم، ثم تشكلت لجنة من هيئة الطب الشرعي برئاسة الدكتور إحسان كميل – رئيس الهيئة حينها – وانتهت أيضًا إلى نفس النتيجة. جدير بالذكر أن التحقيقات لم تكتمل ولم تنتهِ لأي نتائج.
قتلني عبد الناصر!
كان هذا مقتطفًا من حوار دار بين ناصر وعامر بعد أيام من هزيمة 1967، ونشر هذا الكلام ضمن وصية المشير في مجلة (لايف) الأمريكية، والتي ذُكر فيها أيضًا «أنه فقد الثقة في جمال عبد الناصر، ولم يعد في مأمن معه».
كما كتب المشير بخط يده في 10 سبتمبر/أيلول 1967، أي قبل أيام من وفاته: «وإذا جاءني الموت فسيكون الذي دبر قتلي هو جمال عبد الناصر، الذي لا يتورع الآن عن أي شيء».
القضية معقدة وحسمها غير دقيق، فكل أطراف القضية يريدون حسمها لصالحهم، مما جعل للقصة روايتين، كل رواية لها أدلة وبراهين تؤكد صدقها، الرواية الأولى، تؤكد أن المشير انتحر بعد تناول كمية سامة من مادة مخدرة، والرواية الثانية، تؤكد أنه قُتل بمؤامرة من تدبير عبد الناصر.
ورغم الاختلاف تبقى حقيقتان، الأولى، أن الحقيقة ستظل غائبة؛ لأن أوراق القضية تؤكد انتحار المشير، إلا أنها لا تستبعد قتله، والثانية، أن الأمر لا يجب أن يتوقف عند السؤال البسيط: هل قُتل المشير أم انتحر؟
ففي النهاية كان لابد من تحميل المسئولية لشخص ما، وكان المشير هو هذا الشخص؛ لأن تحميل عبد الناصر المسئولية يعني – في ذلك الوقت – ضرورة تغيير النظام بأكمله وهو ما رفضه الشعب برفض تنحيه. ورغم ذلك، فلا يمكن أن يتحمل المشير بمفرده نكسة 1967، ولا يُعقل أن يكون المذنب الوحيد، فالجيش وقادته، والنظام ورأسه يتشاركون في الذنب. هكذا المنطق.