لماذا يخاف قيصر روسيا من العرب؟
لماذا يهتم الزعيم الروسي فلاديمير بوتين كل هذا الاهتمام بالمنطقة العربية؟ يتدخل بقواته في سوريا ، يأتي لزيارة مصر، ويستضيف بالترحيب أمراء وملوك الخليج.
قد يحلو للبعض تفسير ذلك بأن الرجل يحرص على استعادة دور بلاده كقوة عظمى، مسترجعًا الأمجاد السوفيتية السابقة، غير أن هذا المقال يعرض للموضوع من زاوية أخرى، لنرى – إذا غيرنا قليلا منظورنا الذي نطالع منه المشهد – أن الاهتمام الروسي الخارجي بالمنطقة العربية، يعود في جزء كبير منه إلى اعتبارات خاصة بالداخل المحلي لروسيا.
بوتين لا يحب الثورات: فلتذهب «الديمقراطية الغربية» إلى الجحيم
نحن الآن في العام 2004، على إثر اتهامات بتزوير الانتخابات الرئاسية لصالح المرشح الموالي لموسكو «فيكتور يانوكوفيتش»، وإقصاء المرشح الآخر المؤيد للتقارب مع الغرب، يحتشد ملايين المواطنين الأوكرانيين مرتدين ملابس برتقالية اللون،سيُطلق على تلك الاحتجاجات لاحقًا اسم «الثورة البرتقالية»، وستُعتبر حلقة في سلسلة من الحركات الجماهيرية الملونة في جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقًا، إذ سبقتها ثورة أخرى في جورجيا عام 2003، وتبعتها في 2005 ثورة في جمهورية قيرغيزستان.
ينظر الكرملين لتلك الحركات الجماهيرية بعين الريبة، لا يقتصر الأمر على مخاوف من فقدان النفوذ في مناطق كانت يومًا تحت حكم الكرملين – وإن كان ذلك مبررا كافيا للغضب – بل ثمة ما هو أخطر، اعتبر الرئيس الروسي فلايديمير بوتين – الذي يحلو للبعض وصفه بالقيصر، كما كان يلقب أباطرة آل رومانوف قبل الثورة البلشفية – تلك الثورات التي هددت الجيران تهديدًا للبيت الروسي نفسه، فطالما كان المواطنون الأوكرانيون قادرين على الوقوف بوجه رئيسهم فما الذي يمنع الروس من فعل الأمر ذاته؟!
تظل صورة الثورات الملونة حاضرة في الذاكرة الروسية، وبعد قرابة عقد من الزمان سيقف بوتين في اجتماع مجلس الأمن ليقول:
رأي الكرملين الثورات العربية بنفس العين التي رأي بها مثيلاتها الملونة، عين الريبة والتشكك من إمكانية استغلال الغرب لتلك الثورات لتعزيز نفوذه، وبعين الخيال يرى بوتين الغرب وهو يهندس تلك الثورات بنفسه، كما يرسم الخطة تلو الخطة لتقويض وحدة روسيا واستقرارها بعد حصارها وحرمانها من نفوذها في الفضاء السوفيتي السابق، هذا فضلا عن الاعتبارات الداخلية التي ترفض التغيير بتلك الطرق، تقول صحيفة «روسيسمايا غازيتا»، الصحيفة الرسمية الصادرة عن الكرملين، إن آليات التدخل الأجنبي ترتبط ببعضها في روسيا ويوغسلافيا وأفغانستان والعراق وأوكرانيا وجورجيا وقيرغستان وتونس وليبيا ومصر وسوريا، المعنى ذاته يكرره بوتين في خطابه أمام الجمعية الفيدرالية الروسية عام 2014، حينما يربط الأحداث كلها بخيط واحد بدءًا من قصف الناتو ليوغوسلافيا عام 1999، مرورا بالثورات الملونة في مناطق ما بعد الاتحاد السوفيتي، وصولا إلى «انقلابات» الشرق الأوسط.
من وثائقي «لعبة الهبات» الذي عُرض على التليفزيون الروسي في يناير 2013
لا يؤمن بوتين بالديمقراطية بصورتها الغربية، ويرى أنها لا تناسب الحالة الروسية، كما لا تناسب شعوب الشرق الأوسط، ولا يرى أن هناك منافسة حقيقية بين الأحزاب السياسية في الغرب، فالأمر مجرد ألعوبة، ويُروى عن جورج بوش – الابن – استياءه من طريقة تعاملات الرئيس الروسي معه، إذ لم يفهم الأخير كيف تعمل الديمقراطيات الغربية، باختصار، يرى بوتين الديبلوماسية العالمية بمنهج لينين: من يسيطر على من؟ أما دعاوي الديمقراطية والحرية على النمط الغربي، فهي هراء في هراء، وغطاء زائف لحقيقة كاذبة.
هل يغير المسلمون معادلة السكان في روسيا مستقبلا؟
يتراوح عدد المسلمين الروس بين 21 مليون و23 مليون نسمة، ويشكلون نحو 16 % من إجمالي عدد السكان البالغ 144 مليونا، ومن بين كل مائة يسكنون العاصمة موسكو، هناك اثنا عشر مسلما، العدد كبير – نسبيا – كما ترى.
وستتضح الصورة أكثر إذا نظرنا للوجه «الديناميكي» لتلك النسبة، تعاني روسيا إجمالا من ارتفاع في نسبة الوفيات وانخفاض في نسبة الخصوبة، ونظرا للأحوال الاقتصادية المتردية فإن نسبة الهجرة في تزايد خاصة بين الطبقة المثقفة، وقد انخفض عدد سكان روسيا منذ بداية التسعينات من نحو 149 إلى 144 مليونا، هذا في مقابل تزايد أعداد المسلمين الذين ترتفع بينهم نسبة الخصوبة ويزيد متوسط عدد أفراد الأسرة، يرى البعض أن روسيا تمر بعملية تحول ديني كبير ستكون لها تأثيرات مجتمعية أعظم من تأثيرات انهيار الاتحاد السوفيتي.
وفي حين يعيش أغلب المسلمين ضمن مراتب اجتماعية واقتصادية متدنية، فقد أخفقت السياسات الرسمية الروسية في دمجهم بشكل أكبر بالمجتمع، يواجه الكثير من المسلمين تمييزا يوميا، ويتم بشكل كبير استبعاد الكثير من أبناء شمال القوقاز من التجنيد في الجيش، على الرغم من أن بعض تلك السياسات قد تم تعديلها مؤخرا سيما بعد ضم الروس لشبه جزيرة القرم، وبأخذ هذا المعطى الديني في الاعتبار يمكن فهم الحرص الروسي على حضور أكبر بالشرق الأوسط، حيث مصادر التأثير ومنارات الإلهام الديني، السني تحديدا، «إن روسيا كقوة عالمية مع عدد المسلمين الكبير فيها يجب أن تمتلك نشاطا أكبر في الشرق الأوسط الذي يرتبط بمصالح إستراتيجية روسية بشكل مباشر»، كما قال سفير روسيا السابق في منظمة التعاون الإسلامي.
علينا إذًا أخذ هذا المعطى في الاعتبار ونحن نتحدث عن علاقات بوتين بالشرق الأوسط، وسيما القوي السنية التقليدية، الخليج والأردن، حيث الارتباط والتأثير بمسلمي شمال القوقاز، وما أدراك ما مسلمو شمال القوقاز في المعادلة الداخلية الروسية.
الشيشان في الذاكرة: لماذا يكره الروس الجهاديين العرب؟
في سبتمبر 1999، وبعد أن يتبوأ رئيس المخابرات فلاديمير بوتين منصب رئيس الوزراء، تهتز العاصمة موسكو إلى جانب مدن روسية عدة على وقع سلسلة من الانفجارات العنيفة التي تقتل وتصيب المئات،ينتشر الرعب في أرجاء البلاد كافة، ويسارع بوتين بإلقاء المسؤولية على المسلحين الإسلاميين في الشيشان، وتندلع شرارة حرب ثانية – حرب الشيشان الأولى كانت بين العامين 1990 و 1994 – سرعان ما امتدت إلى داغستان المجاورة.
رغم التقارير الصحفية والحكومية العديدة التي أشارت إلى انتهاكات مريعة نفذتها القوات الروسية في القوقاز، ارتفعت شعبية بوتين بين المواطنين الروس،كان هؤلاء راغبين في استقرار يذكرهم باستقرار الاتحاد السوفيتي، وقد أصابهم الضجر من تقلبات سنوات التسعينات، وفي انتخابات مارس 2000، ورغم أن بوتين قد نأى بنفسه عن الحملات الانتخابية والمناظرات، طغت صورته على وسائل الإعلام، وتقدمت حملته التي حملت شعار «mochit v sortire » بمعنى تصفيتهم في المبنى الخارجي أي الإرهابيين، فاز بوتين في الجولة الأولى بعد حصوله على 52% من أصوات الناخبين.
تمكن بوتين من إخماد التمرد في الشيشان، وأبقى على حكومة موالية له في غروزني، يرأسها فتاه الشرس «رمضان قديروف»، ورغم محدودية التمرد اليوم، إلا أن الصراع الروسي الشيشاني ولّد خوفًا روسيًا دائمًا من حركات الجهاد العالمي. تتخوف روسيا من تأثير المد الجهادي وامتداده إلى المسلمين الروس، خاصة في القوقاز، ولا يغيب عن ذهنها التجربة السوفيتية المريرة مع الجهاديين في أفغانستان، والتي كان لها دور كبير في التعجيل بانهيار الاتحاد السوفيتي.
تشير التقارير إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية يضم بين صفوفه أعدادًا كبيرة من المقاتلين الروس والقوقازيين، إذ يشكل الناطقون بالروسية المرتبة الثالثة بين مقاتليه بعد الناطقين بالعربية والإنجليزية، وكان أبرز قادته العسكريين «أبو عمر الشيشاني» جنديًا روسيًا سابقًا، كما أن للتنظيم موقعًا ومجلة الكترونية تصدر بالروسية، ومن ثم فإن موقف الكرملين من الشرق الأوسط والثورة في سوريا وتنظيم الدولة هو موقف تحكمه اعتبارات داخلية بالأساس، وإن بدا أن بوتين قرر تأجيل معركته مع داعش حتى ينقذ نظام الأسد المتداعي أولا.