لماذا صارت تلك الأندية قوى عظمى في بلادها دون غيرها؟
يقول «جاك ديريدا»، الفيلسوف الذي يُعرف بارتباطه الشديد بكرة القدم، بأن ما وراء خط التماس، يوجد اللا شيء. المقصود من تلك المقولة هو أن كل شيء في هذه الحياة؛ اقتصاد، فن، دين، ثقافة، سياسة، إنما يؤثر على اللعبة بشكل مباشر، في رؤية فلسفية تضع ملعب كرة القدم وكأنه صورة مصغرة من الحياة بالكامل.
وقبل أن ينخرط تفكيرك في تلك المؤثرات الخارجية، حاول أن تفكر فيما قد يدفع أحد الفلاسفة كـ«ديريدا» للبحث في منهج هذه اللعبة، وقتها ستتضح لك الحقيقة الأولى داخل إطار المستديرة: هذه اللعبة أكبر مما تظن، أكبر بالقدر الذي يجعلها موضوعًا لبحث علمي وفلسفي وديني وحتى أخلاقي وتربوي. وكل ما نعتقد أنه لا يمت لكرة القدم بصلة إنما هو شديد الصلة بها بجانب بعيد عن رؤيانا لأنه مستتر، أو لأنه من ماضٍ اعتقدنا أنه انتهى لكنه مؤثر بشكلٍ أو بآخر.
فلنأخذ مثالًا وننظر لأسماء الفرق الكبيرة حول العالم، شيء لا يهتز تقريبًا مهما بدا ولاح في الأفق أسماء لفرق جديدة. بايرن في ألمانيا وميلان في إيطاليا ومن على شاكلتهما، مهما كان وضعهم المادي والكروي لكنك تُرجح -مرغمًا- كفتهم في أي مواجهة ضد أي خصم، فقط لأنها أسماء كبيرة وجدنا عليها آباءنا، فمتى وكيف بدأ كل ذلك؟
الجغرافيا الاقتصادية في ألمانيا
بدأ انتشار اللعبة فيما وراء البحار في بداية التسعينيات تقريبًا، بدأ وقتها غزو الدوري الإنجليزي للبلاد الفقيرة داخل أفريقيا وآسيا عن طريق الكابلات والأقمار الصناعية والتليفزيون. صورة تُجسد انتقال حدث من فقراء يبحثون عن المتعة إلى أغنياء يقدمونها عن طريق أحد أحدث وسائل التكنولوجيا إلى فقراء مرة أخرى. بدأت اللعبة وانتهت من عند الفقراء. سنوات قصيرة وكانت الرياضة الإسبانية والإيطالية والألمانية قد كررت الإنجاز الإنجليزي وأصبحت الكرة لا تعرف قارة واحدة ولا دولة ولا منشأ، الكرة للجميع.
مبدأ «الكرة للجميع» لا ينفي أن كرة القدم قد تأثرت في البدايات بالنزاعات العرقية والدفاع عن المدن والأحياء التي ينتمي إليها الأفراد. الأخيرة عظمت من شأن فرق كثيرة لا تستحق ذلك إطلاقًا. فمثلًا أسماء كتورينو في إيطاليا واسبانيول في إسبانيا، يمكن نسب أغلب نجاحاتهم وتعلق الجماهير غير المحلية بهم إلى كونهم في صراع يُطلق عليه «ديربي» مع قوى كبيرة كيوفينتتوس وبرشلونة على الترتيب. لكن الاستغلال الجغرافي من قبل الأندية فاق ذلك الحد بكثير، وصل به إلى صنع قوة لا تضاهى تُسمى «بايرن ميونخ».
الأمور في ألمانيا مختلفة، ففكرة المستثمر العربي أو الآسيوي الذي يأتي ليغدق بالأموال على النادي غير موجودة بشكلها المعروف في فرنسا أو إنجلترا. القوانين هناك تمنع أن يتحول النادي إلى ملكية خاصة لشركة أو مستثمر، ووفقًا لقانون 50+1 الذي بمقتضاه تظل إدارة النادي ملكًا لجماهيره بنسبة مشروطة أكبر من 50%، باتت فرصة أي مستثمر في ألمانيا ضئيلة.
هذا يعني أن البايرن لا يعتمد على مصادر دخل خارجية كحال الأندية في كل الدول الأخرى، لكنه يعتمد كليًا على المستثمرين المحليين، مستثمري مدينة «بافاريا» التي تحتضن أسوار النادي والتي تُعد واحدة من أغنى المدن الموجودة في الدولة.
تقع تلك المدينة في جزء كان يُعرف بألمانيا الاتحادية أو ألمانيا الغربية، والذي ما يزال، بالرغم من الاتحاد الذي وقّع عليه طرفا ألمانيا منذ عقود، هو الجزء الأغنى. فمن حيث الأجور والمستوى الاقتصادي،فالفوارق ضخمة بينه وبين نظيره الشرقي.
في عام 2011،دفعت إدارة المدينة من مداخيلها الخاصة مبلغ 3.6 مليار يورو لدعم الأجزاء الفقيرة من ألمانيا، كان على رأس هذه الأجزاء العاصمة برلين. وبحلول عام 1988، كان هو الجزء الأول والوحيد في البلاد الذي يتحول إلى صفة مانح اقتصادي بعدما كانوا جميعًا متلقين. أثّر ذلك كثيرًا على النادي نفسه، فقبل عامين فقط من التاريخ الأخير كان بايرن ميونخ يعتمد على الإعانات المادية التي تأتيه من مناطق الغرب الصناعي، المنطقة التي يوجد بها نادي بوروسيا دورتموند.
تطورت تلك الأوضاع واستغلت إدارة النادي النفوذ المادي الذي يضعها فوق كل منافسيها وأخذوا في تأصيل تلك الأفكار بزيادة الفروق المادية، حتى الأفراد العاديين في تلك المنطقة يظنون في أنفسهم قيمة أعلى من البقية، وكأنهم في مملكة منفصلة. كان لديهم ملابسهم الشعبية الخاصة، وحزبهم السياسي، وتقاليدهم المختلفة في الطهي، والأدهى كان بناء قلعة كسفارة خاصة بهم في بروكسل، والعديد من العادات المزعجة في التقليل من شأن الألمان الآخرين، حتى باتت بافاريا وناديها البايرن هم القوى الغنية الشريرة، وأصبح تعلم كرة القدم هناك يبدأ بكرههما.
أيدي السياسة الطويلة
يمكن أن تكون السياسة هي أكثر العوامل وضوحًا في التأثير على الرياضة، كتأثيرها الذي يطول أي شيء في هذا العالم. في أحد التقارير التي تتحدث عن أفعال السياسيين في كرة القدم،وضع الكاتب «مايك بوتلر» رؤية محمودة عن كرة القدم الحديثة، وذلك بسبب عدم تأثرها بالسياسة بقوة كما كان في الماضي. بتصريف تلك الرؤية بعض الشيء نكتشف أن السياسة هي التي تملك وجهًا حديثًا مستترًا لا يظهر كثيرًا لكنه يظل مؤثرًا بقوة.
الحكومات وعظام السياسيين ينظرون لجماهير الأندية على أنهم فصائل سياسية يمكن استغلالها والضرب بها في أي معركة ممكنة، الحقائق السابق ذكرها ليست جديدة ولا غريبة، لكن ارتفاع شأن أندية وانخفاض أندية أخرى القائم على قرارات سياسية خالصة، هو الذي يمكن وصفه بالغريب.
الانتهازية المعتادة لأحزاب اليمين
بمجرد الحديث عن السياسة الكروية، ومن أول قراءة بحثية في هذا الشأن، ستتعرف على «سيلفيو بيرلسكوني»، رئيس الوزراء الأسبق لإيطاليا والرئيس والمالك لنادي ميلان الإيطالي. يربط التاريخ بين منصب بيرلسكوني في موطنه وبين نجاحات فريقه ميلان بالأرقام والوقائع التي لا يمكن تفسيرها بشكل آخر.
في عام 2010،أجري استفتاء شعبي حول رئيس الوزراء، «بيرلسكوني»، والنتيجة كانت صادمة، أقل من 30% يؤيدون ذلك الرجل لهذا المنصب. بعدها بأيام بسيطة، انقلبت الأوساط الرياضية في إيطاليا باستقدام ميلان لكل من «زلاتان إبراهيموفيش» والبرازيلي «روبينيو». في هذا الشأن، يربط الصحفي الإيطالي «باتريك أغنو» كل الإخفاقات السياسية لـ«سيلفيو» باستقدام أي نجم إلى ميلان. ذلك الشخص كان يستغل الفريق أسوء استغلال، كان ينظر له بكونه أداة سياسية لكسب المعارك. قبل انتخابه في ذلك المنصب اختار شعار «فوزرا إيطاليا» كطريقة ملتوية لكسب التعاطف الشعبي، ومن وقتها واسم ميلان يحلق في السماء الرياضية في أوروبا.
كل إنجاز أوروبي كان يحققه الميلان كان ينسب له وللحكومة وهو ما كان يعزز اكتسابه لشعبية أكبر بين المواطنين. بشكلٍ مباشر، تحول الفريق وكل إنجازاته إلى أحد أعضاء حزب اليمين الموالي للسلطة، تستغله السلطة في الأطماع السياسية وتظن الأغلبية أنه نجاح رياضي.
الحكومات الإنجليزية تكره ليفربول
تصريح سابق للمدرب الألماني يورجن كلوب.
أما فيما يخص أحزاب اليسار المعارض، عليك أن تحجز نصيب الأسد لليفربول. صورة الألماني «يورجن كلوب» كواجهة لنادٍ مثل ليفربول، تعتبر مناسبة جدًا. الثورة والمعارضة وحزب الكادحين والعمال والصورة القديمة عن يورجن الذي يكره سطوة الرأسمالية، كلها تقع في بوتقة واحدة.
في القرن الماضي، كانت سيطرة فريق الميرسيسايد كبيرة جدًا على الكرة الإنجليزية، فروق واضحة في عدد البطولات وتقريبًا لا منافسة مع الآخرين، متى بدأ الانهيار؟ في الثمانينيات تقريبًا، وحتى بعد مرور حوالي عقدين من الألفية الجديدة، لا زال الجانب الأحمر من المدينة يعاني لأسباب غير واضحة، فهل كل ذلك من تأثير «فيرجسون» وحده؟
سيطر حزب اليمين المحافظ على أغلب المقاعد في المدينة في الفترة من بداية القرن الماضي وحتى بعد المنتصف بسنين بسيطة. عام 1955 حصل حزب العمال على أغلبيته الأولى ومن هنا كان انهيار المحافظين في المدينة لصالح حزب العمال والحزب الليبرالي اليساريين، ومعه انهارت علاقة النادي وجماهيره بحكومة بلدهم. تكونت عداوة كبيرة بين كل الحكومات التي تلت تلك الأحداث وبين جماهير النادي وسكان المدينة بالكامل، كانت حادثة وفاة 96 شخصًا من جماهير ليفربول بكارثة «هيلزبورو» في عهد «مارجرت تاتشر» عام 1989 هي الحدث الأبرز، لكنه ليس الوحيد ولا حتى البداية أو النهاية.
وفقًا لتقرير سابق لهيئة الإذاعة البريطانية فإن لــ«تاتشر» وأغلب مقربيها مشاكل مع تلك المدينة. فقد نقل على لسان «لورد هاو»، أحد أعضاء حزب المحافظين والمقرب جدًا لـ«مارجرت» في ذلك الوقت، كلامًا ظهر في وثائق من داخل مجلس الوزراء أن عليهم ترك المدينة للخراب، وأنه لا يجب الإسراف في مساعدتهم.
تشجيع سيلتك بأمر ديني
سمعتَ بالتأكيد عن فرق تتراجع عن التعاقد مع لاعب ما لأسباب فنية، صحية، أو حتى بدنية، لكن لأسباب دينية؟ فقط ستجد ذلك في أسكتلندا؛ دولة بالكامل قامت وانفصلت كونت تاريخها كله تقريبًا قيامًا على الصراعات الدينية.
إن حاولت البحث في تاريخ أسكتلندا وصراعاتها ضد إنجلترا، فإنك لن تقرأ أكثر من هاتين الكلمتين كاثوليك وبروتستانت. منهما وإليهما تعود كل الارتباطات والانقسامات في هذه الدولة، حتى أكثر ما يميز فريقيها سيلتك ورينجرز هو صراع على هاتين الكلمتين.
إذا وضعنا تخيلاً للمعتقدات الدينية كأحزاب تخص السلطة، فإن رنجرز كان اليسار المعارض أو المتقدم، وسيلتك هو اليمين المحافظ. الأخير حافظ على معتقدات الأغلبية من الشعب،وقرر أن يستمر على المذهب الكاثوليكي المسيحي، في حين ابتعدت مدينة غلاسكو -وبالتالي فريق رينجرز- عن الكاثوليكية تماشيًا مع التطور الديني في أسكتلندا.
السبب في خلق ذلك الصراع الديني ودخوله لأرض الملعب هو جماهير فريق سيلتك، فوفقًا لدراسة أجريت في عام 2003، فإن 74% من أنصار سيلتك يعتبرون أنفسهم كاثوليكيين، في حين أن 10% فقط يصفون أنفسهم بالبروتستانت، وكذلك لأن مشجعيهم يصورون أنفسهم حاليًا على أنهم جبهة واسعة من مناهضة الفاشية والعنصرية ومضادة للطائفية.
استفادت إدارة النادي من ذلك كثيرًا وعززت من وجود ذلك الصراع الذي حافظ على بقاء النادي بالرغم من كل الأزمات التي مر بها، وأثبتت أن الدين ممكن أن ينضم للاقتصاد والجغرافيا والسياسة كسبب واضح لبقاء الأندية طويلًا في التاريخ!