لماذا العرّاب؟
منذ ثمانية أعوام وأنا أُحاضر في ورش للكتابة الروائية. ستة نماذج بشرية لا يخلو منها الحاضرين، مجنون السينما، التائه عن هدفه، محب الاستزادة، مدمن حضور الورش، كثير الأسئلة والمقارنات، الباحث عن نموذج أو مثل أعلى. أتوقف عند النموذج الأخير وأسأل نفسي:
لماذا العراب؟ لماذا أحمد خالد توفيق؟
تلك النظرة الحائرة المتعلقة بكل كلمة أتفوه بها، تبحث عن قشة للتعلق. سؤال وجل عن كيفية البدء، ثم الإفصاح أخيرًا عن رعب هائل وانعدام ثقة بالنفس، والسبب؟ أمي..أبي.. ولا شيء آخر.
ثمانية أعوام، بمعدل ورشة كل شهرين، إلى جانب رسائل الفيسبوك والقراء الأعزاء الذين يفضلون الرسائل الخاصة في البوح لي عن مخاوفهم. وقبل الاسترسال في الحديث، يختفون يومًا أو اثنين، يترددون، ثم يكملون حديثهم بـ «أعلم أنني أبله- بلهاء لكن..». من زرع في عقولكم تلك الفكرة السخيفة عن بلاهتكم؟ من سفه أحلامكم ووأد قدراتكم؟ أمي أحرجتني عندما فعلت كذا..أبي نهرني عندما… ولا شيء آخر.
لماذا نحتاج لعراب؟ يطل السؤال من رأسي من جديد…
أسترجع علاقات «أغلب» جيلي بآبائهم وأمهاتهم، علاقة سلطوية، آمرة. يرى فيها الآباء أن أبناءهم هم امتداد لأعمارهم. سيفعل ابني كذا مما لم أستطع فعله، سيتزوج العروس التي لطالما حلمت بها، سيكون أنا، الفرصة الثانية التي اشتريتها بإيوائي له في منزلي.
يكبُر الأبناء ويبدأون في التفلت يمنة ويسرة، فيخرج الآباء السلاح السحري «الديني». سأدعو الله أن يفعل فيك كذا وكذا. فلو ارتطم إصبع الابن في الكومود بعدها لصار ذلك تحقيقًا لغضب الله عليه!
سلاح آخر هو، سأصاب بالفالج من كثرة مناهدتني معك. اتركني واذهب كما تشاء، فلو عدت ووجدت أن النمور قد التهمتني فاعلم أن عقوقك هو السبب.
هناك أبناء عاقون، سأتكلم عنهم في مقال آخر هام، وهناك من الصالحين من دُمرت شخصياتهم بسبب الاتهام المستمر بالعقوق والتهديد بالغضب الإلهي. فلنصارح أنفسنا قبل أن يفوت الأوان «وأعتقد أن الأوان قد فات فعلاً».
أنظر حولي، فأجد من يلكز فتاة غير محجبة ويدعو عليها. أجد من يؤمّن على دعائه ويُشعر الفتاة بتأنيب الضمير لأنها السبب المباشر فيما نمر به من ويلات وانحدار أخلاقي وغضب إلهي.
أجد من تنظر لابنتها – التي ضربها زوجها حتى فقأ عينها- شذرًا، وتخبرها أنها قد مرت بأصعب من ذلك ولم تفتح فمها، تأمرها بالعودة والاستسلام للظلم، فليست أفضل من أحد.
أجد من يجذبني إلى الطين لأنه غارق فيه، ولن يغرق وحده. أجد كل الامتدادت والتأثيرات الممكنة لدعوات الأم وتسلطات الأب وكل الطرق الملتوية التي يعقون بها أبناءهم قبل أن يعقوهم هم.
لماذا نحتاج إلى عراب؟
جيلنا وجد رجلاً ناضجًا، لا يحكم على أحد ولا يدعي المثالية أبدًا. ينصت، يشارك، يبحث معنا عن حلول. أبدًا لم يعظ، وأبدًا لم يلعن جيلنا على ضعفه وخنوعه، ولم يقارن بيننا وبين جيله كما يحلو للأجيال الأكبر أن تفعل.
لم يكن يمن علينا بما يكتب، ولا يعايرنا بنصائحه واهتمامه. وبينما كانت الفجوة بين جيلين تقريبًا وبين آبائهم تتسع، كانت تضيق بينهما وبين عرابيهم ومن أبرزهم د.أحمد خالد.
اليوم يأتي لي شباب كالزهر، يحكون، على شفاههم الغضة سؤال واحد «هل أنا بهذا السوء؟» الحق أنني لا أرى كيف يحكم الآخرون على بعضهم البعض بهذه القسوة، وما الهدف؟ أنتم لستم بهذا السوء بالطبع، طالما تسألون فأنتم قابلون للاحتواء والنضج. ستصيرون أشخاصًا مدركين لأنفسهم وزلاتها، ولن تنقلوا ما فُعل بكم إلى أبنائكم. ثقوا في أنفسكم وتعرفوا عليها، تعرفوا على الله كما هو، لا كما يقولون عنه بغية استغلال دينه لمصالحهم. الفشل بداية، وبداية قوية. افشلوا مرات، النجاح قادم لا محالة.
لستُ أهلاً للنصيحة، لكنني أخبرهم بما مر معي، بالأخطاء التي اقترفتها. بالضبط كما فعل العراب د.أحمد خالد معنا. تعلمنا معه سويًا. دعوناه لاستكشاف عالمنا ففعل مرحبًا. الآن استكشف عوالم جيل آخر، مختلف تمامًا عنا، عالمه ينهار ويتآكل بأسرع مما ندرك نحن. يستحقون أن نترك وراءنا كل شيء لنرافقهم في طريقهم، لا أن نجبرهم أن يسيروا في طريقنا القديم الذي لا يؤدي بهم لشيء، بل يمكن أن يكون طريقنا القديم امتدادًا لطريقهم الجديد.
شيء ممتع – و مؤلم – أن تقبل كأب أو أم رحلة كهذه، ستفزع، لكن بعد بضع خطوات ستطمئن. ابنك معك، تقرأ ما يقرأ، تتعثر فيسندك، يسقط فتنقذه. تستمتعان معًا، تبكيان معًا. لن يتركك لأنك أبوه أو أمه البيولوجيان والروحيان. ستكون عرابه الخاص المتصل بروحه أبدًا.
لماذا العرّاب؟
لأننا نحتاج لرفقاء الدرب، أباء، أمهات، إخوة، أصدقاء، أبناء. لقد كانت تجربة د.أحمد خالد ملهمة، تلك التي جعلت الأفئدة تهوي إلى قبره من كل أنحاء مصر. تصرف بعيد تمامًا عن سلطة التخويف الديني أو القمع. لم يجبرنا على محبته، لكننا سنظل نحبه حتى تحترق النجوم، وحتى تفنى قلوبنا التي لطالما كان مرشدها.
أحبوا أبناءكم يرحمكم الله..
إهداء إلى العراب، الدكتور أحمد خالد توفيق..
لن ننساك..