لماذا يجب علينا أن ندافع عن «الطبيعة البشرية»؟
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
دعونا نعرض لهذا المشهد. تجلسُ أنت مع أسرتك الكبيرة، وينعطف النقاش إلى إبداء ملاحظة بشأنك أنت. يقول لك أحدهم: «مرحباً، إنّك لتبدو في الفيسبوك وكأنّك احتجاجيّ – يبدو وكأنّك تصبّ اللعنات على الرأسماليّة والإمبرياليّة الأمريكيّة. إنّك لتستعملُ كلمات مثل النيوليبراليّة، وتقرأ تروتسكي. يبدو أنّك اشتراكيّ – أو ربّما تكون شيوعيّاً حتّى؟».
ويردّ أحدهم فوراً في هذا اللقاء على هذه المجاهرة بازدراء – ربّما يكون ابن عمّ لك قد أُعطي جرعة مفرطة من دروس الاقتصاد في الكليّة. وينتقل قريبُكَ هذا إلى مخاطبتك: «الاشتراكيّة خيرٌ كلّها وجيدة على الورق. الرعاية، والمشاركة، كلّ ذلك عظيم. بيد أنّك تعظُ الناس الخاطئين. فالبشر ليسوا هيبيز (hippies). إنّهم أنانيّون ولا يعتنون سوى بأنفسهم فقط – ومن هنا نشأت الحرب، والعنف، والاستغلال. ولا يمكنك، مع المواد الخام التي هي البشر، أن تبني أيّ شيء آخر غير ما هو قائمٌ لدينا اليوم».
عندما نواجَه بهذا الاعتراض، أخمّن أنّ معظمنا سيردّ بالطريقة نفسها تقريبًا – بشيءٍ من قبيل: «انظروا: البشر الذين تعرفونهم هم وحوش. ليس فقط لأنّكم تتسكّعون مع أشخاص أوغاد، وإنّما أيضاً لأنّكم لا تعرفون سوى «الإنسان الرأسماليّ». فالإنسان الرأسمالي يمتصّ ويستوعب. وذلك على عكس الإنسان الاشتراكيّ الذي من شأنه أن يكون راعيًا ورحيمًا».
ومن المحتمل أن نقول في الختام، بشيءٍ من التباهي، شيئًا من قبيل: «خلاصة القول أنّه ليس هناك من شيء يُدعى الطبيعة البشريّة». فالبشر يُصنَعون، ولا يُولَدون.
وباختصار، ردّاً على الحجّة القائلة إنّ البشر متنافسون وأنانيّون بطبيعتهم، حاججتَ بأنّه في الواقع ليس هناك سِمات أو دوافع لصيقة بالبشر. فليس هناك شيء من قبيل الطبيعة البشريّة. دعونا نسمّي هذا بـ «أطروحة الصحيفة البيضاء» (Blank Slate Thesis).
إنّها أطروحة خاطئة. وهي الطريقة الخاطئة لمواجهة اعتراض ابن عمّك على الاشتراكيّة، وهي النهج الخاطئ للدفاع عن إمكانيّة قيام نوع آخر من المجتمع.
المشكلة الأخلاقيّة
تؤدي أطروحة الصحيفة البيضاء بالاشتراكيين إلى ثلاثة أنواع من المشاكل غير القابلة للحلّ؛ وهي الصعوبات الثلاث التي تدلّ على أنّ معظمنا لا يؤمن حتى بأنّ هناك شيئًا ما اسمه الطبيعة البشريّة، حتى لو كنّا قد قدمنا الحجّة المقابلة لابن العمّ العنيد. فهناك صعوبة أخلاقيّة، وهناك صعوبة تحليليّة، وأخرى سياسيّة.
أولاً الصعوبة الأخلاقيّة. فالطّرح بأنّ البشر ليس لديهم طبيعة إنسانيّة متأصّلة فيهم يجعل مشروعنا الأخلاقيّ غير مترابط ومفّككًا. وأعني بذلك أمراً بسيطاً للغاية. فعندما تنظرُ أو أنظرُ أنا إلى العالم من حولنا ونجد أنّ شيئًا ما ناقص، وبأنّ شيئًا لا أخلاقيًّا قائمٌ على قدمٍ وساق، فإننا نركّز على أشكال عناصريّة محددة للنقص الحادث.
إنّ الناس محرومون من الأشياء الأساسيّة التي يحتاجونها من أجل إعادة إنتاج أنفسهم على نحو ملائم. ومعظمُ الناس في هذا العالم يذهبون للنوم غاضبين. إذ يُقلقهم أنّهم قد لا يبقون أحياء فترة حملهم المقبلة، ومن مرضهم التالي، وزواجهم الآتي. ويخيفهم أنّ المحيطات قد ترتفع لتفيض على وطنهم. ويعملون وظائف لا معنى لها عند طغاة صغار. ولا يستطيعون إرسال أبنائهم إلى مدارس لائقة.
والحال أنّنا نتفق على أنّ هذه الأشياء رهيبة، ولا بدّ من القضاء عليها من عالمنا. لكنّكم تظنّون هذه الأشياء شائنة لأنّكم تعتقدون بشكلٍ صحيح بأنّ الناس الذين يعيشون في هذه الظروف يجب أن يكونوا غاضبين وحانقين. إنّكم تؤمنون أنّ الإنسان العادي يجب ألّا يُضطر لعيش حياة فقيرة ومتعثّرة لأنّكم تنسبون للإنسان العادي مصالح بعينها لا تتزعزع؛ يُغذَّى عندما يجوع، ويُسقى عندما يظما، ويُحرَّر عندما يهيمَن عليه.
انظروا في الابتهال الاشتراكيّ المجيد: «يا عُمّال العالم اتّحدوا، فليس لديكم ما تخسروه سوى أغلالكم». هذا إنذارٌ كونيّ. ولماذا هو مقنعٌ؟ لأنّنا جميعاً نعرف أنّه لا أحد يحبّ أن يكون في الأغلال والقيود.
وليس هذا الشعار: «يا عمال العالم اتحدوا، فليس لديكم ما تخسروه سوى أغلالكم. وما لم يحبّ الناس، في بعض الثقافات الأخرى، أن يكونوا في الأغلال، ففي هذه الحالة، نطلب أن يُسمح لهؤلاء الناس بأن يحتفظوا بأغلالهم».
هذا الاعتقاد بأنّ هذه المصالح الكونيّة موجودة هو أمر مرسَّخ في الاعتقاد بأنّ البشر هم، كونيًّا، الشيء نفسه في كلّ مكان بالضبط. وتعتقدون بأنّ الناس تحفّزهم طبيعتهم البشريّة على نحو ذي معنى مهما كان تأثير الثقافة أو التاريخ عليهم.
المشكلة التحليليّة
تلكَ هي النّقطة الأولى. إذ إنّ مشاريعنا الأخلاقيّة هي مشاريع معياريّة تقتضي التزامًا ببعض النماذج التي يطلبها البشر في كلّ مكان بطبيعة طبيعتهم بحدّ ذاتها.
ثانياً، هناك مشكلة تحليليّة. فإذا كان البشر صحائف بيضاء، فسيكون من العسير للغاية إعطاء معنى لقوانين حركة المجتمعات البشريّة. ومن شأن ذلك الأمر أن يؤدي إلى مأزقٍ تحليليّ.
وكما حاجج فيفك تشيبر مؤخرًا، يركّز الاشتراكيّون على الطبقة لأنّ التحليل الطبقيّ ينطوي على تبصّر تشخيصيّ وتكهّنيّ. وكلا هذين الادّعاءين نسخٌ من ادّعاء أكثر عموميّة يقول بأنّ الاشتراكيين يهتمّون بالتاريخ البشريّ، الأمر الذي يُشار عادةً إليه بـ «الماديّة التاريخيّة».
هذا الادّعاء هو أنّه نظرًا لبعض المعلومات حول كيفيّة إنتاج المشهد بأكمله في مجتمعٍ بعينه، وحول مَن الذي ينتج، ومن الذي يستولي، ومَن يتملّك، ومن يعمل، فإنّنا يمكننا أن نخرج ببعض الاستنتاجات بشأن مَن لديه السّلطة ومن هو العاجز، ومَن الذين سيعملون على أكمل وجه لأنفسهم ومن سيؤدّون بشكل سيّئ.
بمعنى آخر، بمقدورنا أن نقول شيئًا ما ذكيًّا حول إيقاعات الحياة الاقتصاديّة في هذا المجتمع، وحول خصخيصة الصّراع السياسيّ الذي قد ينشأ، بل وحتى حول طبيعة الأفكار والأيديولوجيّات التي سيجدها الفاعلون في هذا المجتمع بمثابة أفكار وأيديولوجيات مقنعة.
والوثيق بغرضنا ههنا هو أنّه من المستحيل أن نقدّم هذه الحجّة دون أن نكون ملتزمين ببعض التوقّعات المستقرّة حول ماهية البشر عبر الزمان والمكان. إنّ الماديّة التاريخيّة، في جوهرها ولُبّها، هي مجموعة من الادّعاءات حول كيف أنّ إنسانية مجرّدة من المرّجح أن تتصرّف عندما تجدُ نفسها مع أو بدون مصادر، ومندرجة ضدّ البشر الآخرين الذين هم مُموضَعون على النّحو نفسه أو على نحو مختلف.
إذا أسقطت النموذج المستقر لماهية البشر من الناحية التجريديّة، وإذا رفضت كافّة الدعاوى حول الطبيعة الإنسانيّة، فسينهد الصرح بأكلمه، وستفقد القدرة بعد ذلك على إعطاء معنى لتلك الأسئلة الرئيسة. إذ لا بد لأيّ أحد يريد تغيير مجتمعه أن يتساءل: لماذا بعض الناس فقراء؟ ولماذا الناس الآخرون أغنياء؟ وكيف نجابه سلطة أصحاب النفوذ؟ إذا أسقطت هذا النموذج الراسخ، ستصبح المجتمعات لا شيء أكثر من كونها إرباكًا وإزعاجًا لعددٍ لا نهائيّ من التراتبيّات، والأدوار، والمعتقدات، والأفكار، والطقوس، وهلمّ جرّا.
إنّ الناس داخل اليسار مغرمون (وهم محقّون في ذلك) باقتباس الأطروحة الحادية عشر من نصّ ماركس «أطروحات حول فيورباخ»: «لم يقم الفلاسفة سوى بتأويل العالم، بينما المهمّ هو تغييره». الأطروحة على نحو محدّد هي «إذا كنت تريد تغيير العالم، فعليك أن تفهمه أولاً». والحال أن أطروحة الصحيفة البيضاء لتجعل ذلك أمرًا مستحيلا.
المشكلة السياسية
وعليه، لدينا مشكلة أخلاقية، وأخرى تحليلية. أما المشكلة الثالثة، فهي مشكلة سياسية: إذ تقود أطروحة الصحيفة البيضاء إلى تحليل سياسي فاسد. حيث تجعل من العسير جدًا للاشتراكيين أن يفهموا المهام التي تنتظرنا في عالم غير اشتراكي. كما إنها تؤدي إلى تشخيص واستراتيجية سيئتين.
ماذا أعني بذلك؟ ولماذا يؤثر موقفنا من الطبيعة البشرية على قدرتنا على كسب الناس لسياستنا؟ دعونا نبدأ ببعض التذكيرات المهمة أولا. إننا نعيش في مجتمع ليست سياستنا فيه بالاتجاه السّائد. وليس ذلك بالأمر المفاجئ. فالنموّ الهائل للمجموعات الاشتراكيّة بعد بيرني ساندرز، والدعم لشيء من قبيل الاشتراكيّة بين أوساط الشباب في صناديق الاقتراع − لا أريد أن أنكر كلّ ذلك بطبيعة الحال − لكنّنا، في الوقت نفسه، لا يمكننا أن ننسى بأنّنا لا نزال صغارًا، ولا نزال ضعفاء، ولا نزال نعمل على هوامش هذا المجتمع.
وعندما تطل مجموعة صغيرة وضعيفة وهامشية من وجهة نظرها الأقلوية على المجتمع، فإن هناك سبيلين تميل بهما إلى فهم وإدراك هامشيتها: السبيل الأول يتمثّل في الإيمان بأنّ الناسَ لا يتجندون لأنهم يفشلون في رؤية ما نراه. فهم لا يتحصلون على ذلك. في اليسار، تذهبُ الطاقة الهائلة إلى هذا النوع من التفسيرات. فالناس ليسوا معنا لأنهم غير مستيقظين. ولماذا ليسوا مستيقظين؟ لأنهم متعصبون، وأغبياء، وجهلاء، وجنسويون (sexist)، وعصنريون، ووطنويون، ولديهم رهابٌ من الأجانب، إلخ، إلخ. هذه إحدى الطرق لتفسير لماذا الناس لا يصيرون مع أيديولوجيّتنا. وإذا أقنعتكم بشيء آخر، فاسمحوا لي بأنْ أقنعكم بأنّ ذلك هو السبيل الخاطئ.
أمّا السبيل الصحيح، والسبيل الأفضل، لتفسير وإدراك هامشيّتنا هو أن نقلب هذه الرؤية؛ أن نقلبها رأسًا على عقبٍ تمامًا. فنحن قلّة وهم ليسوا معنا، لا لأنّهم فشلوا في فهم ما نراه، ولكن لأنّهم فشلوا في فهم ما قد رأوه. لقد فشلنا في المشي مكانهم عبر العالم كما قد جربوه وامتحنوه.
ماذا أقصدُ بذلك؟ دعونا نأخذ الفيل الضخم ذا الشعر الأصفر الذي هو في السلطة حاليا. كيف لنا أن نفهم تصويت عامل أبيض في ولاية فرجينيا الغربيّة لمتبجّحٍ مليارديريّ؟ أو كيف يمكن لـ ٥٣٪ من النّساء البِيض أن يصوّتنَ للشخص نفسه؟ والحال أن الإجابات الجيدة على هذه الأنواع من الأسئلة السياسية يتم تمييزها عن الإجابات السيئة بحقيقة بسيطة واحدة: إنهم يأخذون جديًّا ما يعنيه أن تعيش حياة الشخص الذي تحاول أنت أن تشرح أفعاله ومعتقداته.
بمعنى آخر، الإجابة الصحيحة على ذلك هي إجابة تضعك محلّ الشخص الذي تحاول أن تفسره.
ماذا يعني أن تضع نفسك محلّهم؟ تلك هي النقطة الحاسمة. إذ يعني ذلك أن تتذكر أن ناخبَ ترامب هو إنسان تحرّكه أنواع المصالح نفسها التي تحرّكك. فهو إنسان يهتم بمعاشه، وكرامته، واستقلاله، وبعائلته، بالطريقة نفسها التي تهتمّ أنت بها إلى حد كبير. بكلمات أُخَر، إن تفسيراتك وممارستك يجب أن تكون تغوص وراء مَحكّ بسيط: هل يمكن لها أن تفسر لماذا صوّتت لترامب، ولماذا ولدت ههنا؟
إذا فشلنا في القيام بذلك، فسنجد المهام التي تنتظرنا مستحيلة. فالتنظيم ليس مهمة للوعظ بالاستيقاظ، ولكنه، في جزء كبير منه، مهمة إيقاظ الذي لم يستيقظ بعد. لكن إذا لم تستطع وضع نفسك محلّهم، فستجد نفسك لا محالة لا تتحدث إليهم. وبدلا من الاجتماع بهم حيث هم موجودن، فستجد نفسك غاضبًا من أنهم ليس موجودين حيثُ أنت. وسيؤدي ذلك إلى التلويح بأصبع التحذير بأسلوب منفعل ومتلطّف ونخبويّ.
وعليه، هذه هي المشكلةُ الثالثة، المشكلة السياسيّة: فأطروحة الصحيفة البيضاء تشجعك على نسيان أن الناس تُحرّكهم دائمًا بعض الهموم التي لا تتزعزع، بشكل ذي معنى وهادف. وإذا كنا نريد كسب الناس لصالحنا، فعلينا أن نأخذ هذه الهموم على محمل الجد. كما لا بد لنا من أن نأخذ أيضًا طبيعتهم البشرية بصورة جدية.
الطبيعة البشرية في الرأسمالية
إذا كنت ملتزمًا بأطروحة الصحيفة البيضاء، فستواجه كاشتراكي ثلاثة أنواع من المشاكل: مشكلة أخلاقية، ومشكلة تحليليّة، ومشكلة سياسيّة. فلا تسمح لنفسك ولا لأصدقائك بالالتزام بها.
إنني إلى الآن لم أطرح حجة حول كيفية الرد على ابن عمّنا المزعج، وإنما طرحت حجة حول كيف لا يجب أن نرد فقط. وفي الواقع، لقد اعترفتُ بأن ابن عمنا محقّ في نقطتين: فهو على حق بحجاجه بأن هناك طبيعة إنسانية كونية، كما إنه محقّ بملاحظته أن الناس في كل مكان يهتمون بأنفسهم ومصالح أحبائهم.
بالنظر إلى هذه التنازلات لحجته، فما الذي يميزنا كاشتراكيين عنه؟ وكيف يجب أن يرد الاشتراكيون؟ وكيف يمكننا الدفاع عن فكرة مجتمع جديد يتخلف عن هذا المجتمع؛ مجتمع لا يكون الناس فيه مجرد محققين لأكبر عائد لأنفسهم، ومجتمع يهتم بالضعيف والمعرضين للخطر والمأسوف عليهم؟
للدفاع عن هذه الرؤية ضده، لا بد لنا أن نطرح حجتين توضيحيتين: واحدة حول هذا الشيء الذي نسميه «طبيعة بشرية»، وأخرى حول كيف تعبّر هذه الطبيعة عن نفسها في الحياة الاجتماعيّة.
إن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه قريبنا هو أنه يرسم صورة مسطحة ومبسطة لما تنطوي عليه الطبيعة البشرية؛ وهو على حق جزئيًا بطبيعة الحال. فالناس في كل مكان يعتنون بأنفسهم، وبأخذ ما يكفي ليأكلوا، ويريدون أن يُعتنى بهم عندما يمرضون. كما إننا نهتم أيضًا ببعض الحاجات المعنوية: استقلاليتنا، كرامتنا، وربما حتى بعض الأشياء غير المواتية حول أنفسنا: ما يظنه الناس فينا، ومكانتنا في نظرهم.
لكن رؤية خصمنا للطبيعة البشريّة هي رؤية لا يمكننا فيها سوى الاعتناء بهذه الأشياء، حيث نعتني فقط بتكثير العوائد من العالم إلى أنفسنا. هذه رؤية برجوازية. فالإنسان المجرد هو بالأساس مثل مَن عمره عامان على الطائرة، لا أحد يأخذه بجدية. وإذا صحّ ذلك، فسيكون مشروعنا محكومًا عليه بالفشل. وبعيدًا عن الأطفال على متن طائرة، أعتقد أنّكم قادرون على بناء عالم من عوالم آين راند الروائية [روائية وفيلسوفة ناقدة للاشتراكية – م]، لكنّكم لن تكونوا قادرين على بناء الاشتراكيّة.
لكنّ الرؤية البرجوازيّة هي صحيحة جزئيًّا فقط. فالناس قادرون على أشياء كثيرة غير الأنانية البسيطة. إننا قادرون على الاهتمام بالآخرين، وقادرون على التعاطف والشفقة، ولدينا القدرة على تمييز العدل من الظلم، وعندنا المقدرة على إحكام أنفسنا بتلك المعايير.
تضخّم الرؤية البرجوازية من دوافعنا الأنانية وتتجاهل تلك الصفات الأخرى. ولا يجب على الاشتراكيين أن يقوموا بالشيء نفسه. فليست الطبيعة البشرية لينة بلا حدّ. وهي تنطوي على تشكيلة من الدوافع والقدرات؛ بعض الشياطين الباطنيّة وبعض الملائكة الأطهر، على حدّ تعبير ستيفان بينكر.
وههنا النقطة الثانية. لاحظوا ما اشتملت عليه حجّة خصمنا: مهما كان طابع المجتمع الذي يجد البشر أنفسهم فيه، فإنّ أنانيتهم وتنافسيّتهم ليمضيان إلى تآكل البنى الاجتماعية حتى تصير هذه البنى الاجتماعية غير ذات صلة أو يتمّ تبديلها تمامًا. فالبيولوجيا تقهر المجتمع.
رداً على ذلك، إنّه من المغري القول إن الطبيعة البشريّة ليست مهمة مطلقًا. لكنّ هذا خطأ، نظرًا للأسباب الثلاثة السالف بيانها. لذا، ماذا يجب أن نقول ردًا على ذلك؟ علينا أن نحاجج بأن الطبيعة البشريّة ذات صلة وثيقة دائمًا، لكن ليست حاسمة قطّ.
فكروا في الطريقة التي يُنظَّم بها المجتمع. ماذا يتوجب على الناس لإعادة إنتاج أنفسهم؟ ماذا عليهم أن يقوموا به مع الآخرين من أجل إعادة إنتاج أنفسهم؟ تمارس هذه الحقائق ضغوطًا انتقائية على مجموعة الدوافع التي تشكل طبيعتنا البشرية. والرهان الاشتراكي، في جملته، هو أن مجتمعًا أفضل من شأنه أن يشجع نزعاتنا الأفضل فينا.
لا يعني هذا الحجاج أن الجوانب الأخرى من طبيعتنا يمكن تجاهلها. فمن المؤكد أن مجتمعًا أفضل سيكون عليه احترام حدود بعينها. وسيتوجب عليه أن يلبّي احتياجتنا. وعليه أن يمنحنا رغباتنا في الحرية والاستقلالية وحاجتنا لأن نلقى الاحترام. وستفشل الاشتراكية بالتأكيد إذا اقتضت منا أن نكون إيثاريين وقديسين، لأن السواد الأعظم من الناس ليسوا مشكلين ليكونوا كذلك.
مهما عنت الاشتراكيّة، فإنّها لا تعني مجتمعًا يُدعى فيه الناس للتضحية نسقيًا بأنفسهم في سبيل بعض المُثل، سواء تمثّلت في الوطن، أو الطبقة العاملة، أو الثورة العالمية، أو القائد الأعلى. إذ يؤدي هذا الطريق إلى بيونج يانج. بيد أن المجتمع الذي يلبّي الاحتياجات الكونية لأي أحد، والذي يأخذ بيد أي أحد إلى الازدهار، هو المجتمع الذي قد يشجّع ويربي الخير الكامن بداخلنا.
صحيحٌ أن ابن عمّنا المؤمن بالسوق الحر هو، بمعنى ما هام، لا يعرف سوى الرأسماليين والرأسماليات، فالاشتراكيين والاشتراكيات مختلفون. إنهم سيبقون يهتمون بأنفسهم ويعتنون بمصالحهم، لكن المجتمع الأفضل سيشجعهم أيضًا على أخذ مصالح الآخرين واحتياجاتهم بجدية.
الطبيعة البشرية في الاشتراكية
كيف ستقوم الاشتراكية بذلك؟ لا يمكننا إلا التكهن بالطبع. لكنني يمكنني التفكير في طريقتين: الأولى، مجتمع يلبي احتياجات أي أحد هو مجتمع يقلّ فيه ما يمكن الخلاف بشأنه؛ هناك أسبابٌ أقل للعدوان، وأسباب أقلّ للعنف والضراوة. قارن بين الشخص الذي تكونه عندما تشارك أخاك وأخاك صندوق بسكوت، بالشخص الذي تكونه عندما تشاركم بسكوتة واحدة.
النقطة الثانية هي أن الاشتراكية قد تكون أيضًا مجتمعًا أكثر مساواة إلى حد كبير. فسيساوي كل أحد الآخر بحيث لا يكون هنالك مرؤوسون ورؤساء. وأنا متأكّد من أنّ كثيرين منكم قد سمعوا عن تجربة سجن ستانفورد التي أظهرت أنّ التراتبيات يمكن أن تجعل من الناس العاديين وحوشًا. حسنًا، غياب هذه التراتبيات يجب أن يجعل من اليسير مفارقة الوحوش داخلنا. وفي مجتمع أكثر تطورًا، وأكثر مساواةً، سيزدهرُ أفضل الناس. حيث الاشتراكيون واحد، وابن العمّ التحرريّ صفر.
ربما قد تم إغراؤكم في الماضي لتقديم الحجة القائلة: ليس هناك شيء من قبيل الطبيعة البشريّة. فهذا الإغراء مفهوم؛ لقد أُغريت به. لكنه خاطئ لأسباب ثلاثة: سبب أخلاقي، وسبب تحليلي، وسبب سياسي.
يعتقدُ الاشتراكيون − ويجب أن نعقتد − بأنّ هناك شيئًا ما يُدعى الطبيعة البشرية. في الواقع، أؤمن بأنكم تؤمنون بذلك، سواء أكنتم تعتقدون أنكم تعقتدون ذلك أم لا. لكن علينا طرح حجتين يميزّوننا عن خصومنا البرجوازيين: الأولى، لا تشتمل الطبيعة البشرية على مجرد مصلحة في أنفسنا، وإنّما أيضًا على الشفقة والتعاطف والقدرة على التفكير، والمقدرة على أن نكون أخلاقيين. والثانية: أنّ الطريقة التي يُنظّم بها المجتمع يمكن أن تضخم بعض الدوافع وتصغّر من شأن أخرى.
أمّا بعد، فيعني ذلك كلّه أن العالم الآخر هو عالمٌ ممكن بالتأكيد. فلا تدعوا الحُمق يزعزعونكم، ولا تسمحوا لهم بأن يقولوا لكم خلاف ذلك.