يُحافظ مُعظم الناس على عادةٍ رئيسية، وهي التطلُّع إلى رأس السنة -عامًا بعد عام- بفرحةٍ وأمل، كي يُعلِّقوا أمانيهم وأحلامهم مع الزينة الجديدة على غصون شجرة الميلاد، مترقبين أن يجنوا ثمارها قبل انقضاء العام وحلول آخر.

هذه العادة شديدة القِدَم، شديدة الانتشار حول العالم، بدأها الإمبراطور الروماني الشهير يوليوس قيصر حين حدّد ليلة الأول من يناير كمطلعٍ للعام الميلادي الجديد تكريمًا لـ«يانوس (Ianus)»، إله البدايات، والذي احتفى به الرومان عبْر تقديم الأضحيات وتزيين المنازل وتبادُل الهدايا.

وفي عام 567م استبدل مسيحيو أوروبا تاريخ الأول من يناير بيوم 25 من ديسمبر؛ لما يحمله من دلالة مقدَّسة عندهم وهي ذكرى ميلاد المسيح، وأحيانًا بالـ25 من مارس الذي يُوافق «يوم البشارة» (ذكرى تبشير جبريل للسيدة العذراء بابنها المسيح، وفقًا للمعتقد المسيحي)، وهو الأمر الذي استمرَّ حتى القرن السادس عشر الميلادي، حين أعاد البابا غريغوريوس الثالث عشر (Pope Gregory XIII) يوم 1 يناير كموعدٍ لرأس السنة، ومن وقتها لم يتغيّر موعد احتفالنا السنوي بالعام الميلادي الجديد، ونجح في الحفاظ على رونقه الخاص وبهجته المُميزة رغم مرور كل هذه السنوات.

ولم تكن بداية 2020م بمعزلٍ عن كل هذا، وإنما استقبلها الناس، كعادتهم مع كل سنة، بكُل ترحاب، وبرغم موجة التفاؤل التي اعترت الجميع عند استقبال السنة الجديدة، كنّا في 2020م على موعدٍ مع واحدٍ من أصعب الأعوام الي عرفناها طوال حياتنا، بعدما واجهنا فيها وباء كوفيد-19 المستجد، الذي فرض علينا العديد من التحديات وأتلف كل المخططات التي حلمنا بها ليلة رأس السنة وعلقّناها على شجرة الميلاد.

عامٌ غيّر وسيُغيِّر «عادية أيامنا»، خالقًا «عادية جديدة»، ورغم ذلك لا يزال الكثير من الناس يتطلّعون إلى نهاية هذه السنة الكبيسة وبداية العام القادم، وكلهم رجاء أن تكون الآخرة خيرٌ من الأولى.

 وقد يكون التساؤل البديهي هنا؛ لماذا يُحافظ البشر على أملهم بأيامٍ أفضل بعد عامٍ مرير كهذا؟

هل من المنطقي أن يتمسّكوا بعادة التفاؤل، بعد ما ودّعوا عامًا أفقدهم ملايين الأحباء؟

ربما لأننا نخرج من أرحام الأمهات إلى رحم الدنيا مُحمَّلين بالأمل والتفاؤل فطريًا، نبتهجُ من كل حدثٍ جميلٍ صغير، نتجاوَز الألم والحُزن سريعًا ونحبُّ الحياة. ومع السنين وتأثرنا بمحيطنا الأسري والتربوي، تقوى بذرة الإيجابية أو تضمر؛ صحيح أن ما يحدث في العالم اليوم وطبيعة الحياة المُتسارعة تدنينا من التشاؤم والتفكير السلبي أكثر فأكثر، لكن يظلُّ هناك في قرارة أنفسنا بصيصَ أملٍ ضعيفٍ قد ينبت من أشد الأوقات قتامة، كما تشقُّ زهرة طريقها وسط الخرسانة الصماء.

لكل هذا وأكثر، يجب ألا نكفَّ عن التفاؤل بغدٍ أفضل ومستقبلٍ أحسن مهما كانت الظروف.

لا تأكل نفسك

حين نقول إن التنشئة تجعلنا –غالبًا- أكثر تشاؤمًا، وحين نقدّر الأمل بكلمة «بصيص» فالأمر حقيقي لا مجازي؛ ففي عام 2005م ، نشرت المؤسسة الوطنية للعلوم في أمريكا دراسة اكتشفت أن 80% من الأفكار التي يتداولها البشر تكون سلبية.

وعلى مدار الخمسة عشر عامًا الماضية، حقَّق الباحثون تقدمًا واسعًا في علم الأعصاب الإدراكي؛ كان آخرها اكتشاف الباحثين في جامعة كوينز (Queen’s University) طريقةٍ يُمكنها تحديد متى تبدأ فكرة ما في الظهور داخل دماغ الإنسان ومتى تنتهي، وهو ما يُؤدِّي لتحديد أكثر دقّة لعدد الأفكار التي يتداولها البشر يوميًّا.

اعتمد جوردان بوبينك وجولي تسينج الباحثان في علم النفس، على هذه الدراسة للقيام بالمزيد من الجهود البحثية التي أسفرت عن تقدير متوسط عدد الأفكار اليومية التي تمرُّ بأذهاننا بـ6200 فكرة في اليوم الواحد، وإن أخذنا بالاعتبار الإحصائية السابقة بأن 80% من أفكارنا سلبية، فهذا يعني أن الإنسان يفكر سلبيًا 4960 مرة يوميًا، أي ما يزيد على 3 مرات في الدقيقة الواحدة!

ومن هنا تنشأ أهمية تدريب العقل على النظر إلى الجوانب الإيجابية من الأفكار، وضرورة تعليم المخ التعامل مع كل ما يزعجه بأسلوب أكثر تفهمًا وقُدرة على تحمُّل تقلبات الحياة.

«إن ما نعتقده هو ما نُصبح عليه» (بوذا)

«لأنّ للشّجرة رجاء. إن قطعت تخلف أيضًا ولا تعدم خراعيبها، ولو قدم في الأرض أصلها، ومات في التّراب جذعها، فمن رائحة الماء تفرخ وتنبت فروعا كالغرس، أمّا الرّجل فيموت ويبلى. الإنسان يسلم الرّوح، فأين هو؟»
سفر أيوب، الإصحاح 14

أجل.. ستعود الشجرة لتورق ولكنها تحتاج إلى الماء والنور.

أغلب الديانات والمذاهب التي عرفتها البسيطة تدعو للتفاؤل وتبث روح الأمل، والأهم هو اقتران الأمل فيها بالعمل. في الإسلام مثلًا المرء مطالب بالسعي والأخذ بالأسباب مع التوكل على خالق الكون، مع الحرص الدائم على البُعد عن التطير والتشاؤم، وتذكير دائم للنفس بمعية الله وحفظه.

وفي الغار أثناء رحلة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وصاحبه، يقول أبو بكر للنبي: «لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه» فيرد قائلًا: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا..».

وبهذا يأخذ التفاؤل معنى أكثر عُمقًا وروحانية في الفقه الإسلامي وهو اليقين، والذي يُعرّف اصطلاحًا بأنه «العلم الذي لا شك معه» وفلسفةً بأنه «اعتقاد النفس بحُكمٍ ما»، وإحدى قواعد الفقه الأساسية أن «اليقين لا يزول بالشك» فشكك في مسألةٍ ما لا يعني تجرّدك من اليقين، ولكنه ديدن العلم الحقِّ أن تُصاب نفسك بالشكِّ وتطلب ما يطمئنها، وكذا شكك/ تشاؤمك في الأحوال اليوم لا يعني فناء الأمل للأبد ولا اليقين/ التفاؤل بصلاحها مُستقبلاً.

وحتى في مجال ريادة الأعمال، أثبتت أستاذ العلوم المالية «نا داي Na Dai» في دراسة اقتصادية مُحكمة، أن رجال الأعمال المتفائلين هم الأكثر نجاحًا، وأن العديد من المصارف حول العالم تميل إلى تمويل المستثمرين الأكثر تفاؤلاً وحماسًا عن غيرهم.

تفاءل بما تهوى يكن

أجرى الباحثون في المركز الطبي بجامعة ديوك تجربة استمرَّت لمدة 15 عامًا على 2818 مريضًا بالقلب لقياس مدى تأثير توقعات المرضى على تعافيهم وقُدرتهم على أداء الأنشطة البدنية المعتادة.

طُلب من المرضى مَلْء استبيان حول نمط حياتهم في المستقبل، يحوي عبارات متشائمة على شاكلة: «حالة قلبي ستؤثر بشكل ضئيل أو معدوم على قدرتي على القيام بالعمل»، «أتوقع أن نمط حياتي سيعاني بسبب حالة قلبي المتعب» وغيرها.

وضع القائم على الدراسة جون بيرفوت أستاذ علم النفس والعلوم السلوكية، وفريقه في اعتبارهما العوامل الطبيعية المؤثرة على صحة المريض، مثل: شدّة الحالة، و تاريخه المرضي وعُمره ودخله المادي، ليكتشفا في النهاية أن معدل وفيات المرضى المتفائلين كان 31.8 حالة وفاة لكل 100 مريض، مقارنة بالمتشائمين أصحاب التوقعات المتدنية بمعدل بلغ 46.2 حالة وفاة لكل 100 مريض.

وفي زمنٍ وبائي كالكورونا قد يكون التفاؤل هو سلاحك الوحيد للنجاة منه، بعد ما أثبتت دراسة حديثة أن التفاؤل يجعل الجهاز المناعي للمرء أكثر قوة، ويُزيد من قُدرة جسده على محاربة العدوى.

«ترياق التفاؤل» أنقذ حياة أخرى من هوّة الضياع، وهي «لو آن تشان Lu Ann Cahn»، الصحفية الأمريكية ومؤلفة كتاب «I Dare Me»-، التي نجحت في التعافي من سرطان الثدي والكلى واستئصال القولون، وبرغم ذلك لم تشعر بالسعادة لتخطيها كل هذا، بل أحسّت بأنها عالقة داخل نفسها، مُكبَّلة بالخوف ما يمنعها من مواصلة الحياة التي حافظت عليها بشق الأنفس.

هنا اقترحت ابنتها عليها أن تضع خطة لتجربة شيء جديد كل يوم والكتابة عنه، فربما تستطيع تخطي ما يؤلمها وتفريغ شعورها العارم بالغضب، وهي النصيحة التي استجابت لها «لو آن» لتبدأ رحلة ستمتدُّ لعامٍ كاملٍ، شاركت فيها متابعيها، عبْر مدونتها، كل تجربة ولحظة من هذه الرحلة.

لاحظت «لو آن» أن هذا النشاط جعلها أكثر بهجة وخفة، فقررتْ البحث قليلاً لتفهم كيف لشيء بسيط مثل «تمضية يوم في أكل الحلوى» أو «عناق أحدهم» القُدرة على تغيير مزاجها؛ وحاولت تبسيط ما توصلت إليه لنا، قائلة: «حين نفعل الأشياء بشكل دوري ومتكرر.. يُخزِّن العقل شعورنا واستجابتنا، وبعد بعض الوقت، يعتادُ العقل على هذا الروتين ويستجيب بشكل أسرع دون حاجة للتعامل مع الحدث كل مرة، فتصبح الاستجابات سريعة دون استثارة تذكر، وحين نفعل ما هو جديد –خارج المسار الدوري- ينتبه العقل ويُخفِّف من سرعته لاستيعاب المستجدات والتعامل معها، ويندفع هرمون الدوبامين لتنظيم حفلة السعادة».

حسنًا، يبدو تفسيرًا جيدًا.

وقد يظنُّ البعض بأنهم بحاجة لفعل شيءٍ جامح لتجديد مشاعر السعادة والبهجة، ولكن الأمر لا يحتاج سوى عمل بسيط صغير مختلف من وقت لآخر، ليهدأ العالم وتتباطأ خلايانا العصبية لاستقبال هذه اللحظات وجعلها خالدة في ذاكرتنا.

فعلى عكس ما ظنه العلماء قديمًا من أن شكل الدماغ لا يتغير بعد انتهاء الفترة الحرجة أو فترة تطور الإنسان، جاء مصطلح «اللدونة العصبية أو مرونة الدماغ» ليوضح لنا كيف تؤثر تجارب المرء وسلوكه على تكوين اتصالات عصبية جديدة بالمخ كلما تعلمنا شيئًا جديدًا ودرّبنا أنفسنا مرارًا وتكرارًا، وبالتالي يمكن للتفكير الإيجابي أن يغير هيكلة الدماغ التشريحية فعلًا.

«بتمنى إنو بكره يكون أحسن بشوي.. بس شوي»

في كتابه «قوة الآن» يحاول الكاتب الألماني إيكهارت تول (Eckhart Tolle) تذكيرنا بالمفهوم النفسي «هنا والآن» الذي يعني تعلّم العيش في اللحظة الراهنة التي نملكها، وأن نتوقف عن تأجيل العيش والحضور بكامل تركيزنا للحظة المناسبة، التي قد لا تأتي.

وإن كنتَ من عشاق التأجيل -كغالبية البشر- في انتظار نقطةٍ بداية ما، فها هي الحياة، مع كل دورة كاملة للأرض حول الشمس.. تهدينا بداية سنة أخرى، فرصة سهلة للبدء، تقلب الصفحة التي تيبست أطرافنا أمامها لانعدام قدرتنا على تخطيها، تضعنا –مرة بعد مرة- على خط الانطلاق في مضمار حياتنا.. تقوم بالدور الأصعب: تحديد ساعة البدء عوضًا عنا، إذًا لهو ضرب من الجنون ترك ما نشقى لتحقيقه حين تأتينا به الحياة مجانًا على طبق من ذهب.

لا تتوقف عن التفاؤل أبدًا.. حين تخلد إلى النوم، بعد يومٍ شاق، تمنَّ نهارًا جديدًا دافئًا، ربما مع التقدم في العمر واحتدام المشاكل حولنا يتضاءل الأمل؛ ولكننا سنظلُّ نتمنى في قرارة أنفسنا أن يحمل الغد، مع كل العثرات، هدية تُسعد القلب وتجعل مصاعب الحياة أقل وطأة، نُصبِّر أنفسنا بما قالته الأديبة رضوى عاشور بأن «هناك احتمالًا آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا».

ولنحيا بكل ما جُبلنا عليه من حُب البداية والتطلع لها آليًا كأنها ملاذٌ من كل شيء، علينا أن نتذكر كيف كنا نُحبُّ صغارًا فتْح صفحة الدفتر البيضاء بعد طيِّ سابقتها، ونشتهي في مراهقتنا سهم كيوبيد لإشعال شرارة حُبٍّ بكل ألق البدايات ولا نتوقف عن تعليق الزينة احتفالاً بالعام الجديد مهما كان سابقه صعبًا علينا.

وكل سنة وأنتَ طيب.