لماذا تدير إيران ظهرها لنزيف النفط المستمر؟
في السادس والعشرين من مايو/آيار، في صيف 1908م، اكتشف جورج رينولدز، المهندس الإنجليزي، وعُمال بختياريون -قبيلة كردية عريقة في إيران- أول حقل نفطي إيراني في ميدان «نفطون»، بالقرب من مسجد سليمان، جنوبي غرب البلاد. لم يكن هذا التاريخ وفقط تأريخًا لاكتشاف ذلك البئر، لكنه يعد بحق تاريخ مولد الاقتصاد الإيرانى الحديث. فمنذ ذلك الحين لعبت عائدات الاستثمار النفطي دورًا هامًا في الجهود الأولى لرفع مستوى الاقتصاد الإيراني في عهد رضا شاه اعتبارًا من العام 1920. برز هذا الدور وتضاعف مع تأميم حكومة مصدق للنفط 1951. ومنذ ذلك الحين والدولة الإيرانية تدين بالفضل في النمو والرخاء لهذا النفط. ظهرت بوادر النضج الإيراني عقب الثورة، وأدرك أبوالحسن بنو صدر -أول رئيس للجمهورية الإسلامية- الاختلالات الوظيفية البنوية للاقتصاد الريعي المعتمد على تصدير مادة خام واحدة، ودافع عن رؤيته في ضرورة الحد من صادرات النفط والعمل على تنمية البلاد بالاعتماد على القطاعات المختلفة، كان ذلك مباشرةً عقب الثورة الإيرانية -ما تسمى بمرحلة البناء والتأسيس للجمهورية الإسلامية-، لكن بلا جدوى؛ فبلاده كانت مضطرة لزيادة صادراتها النفطية لتغطية نفقات حربها مع العراق 1980-1988.
النزيف في السعودية وقطرات الدم في إيران
في حادثة لم تقع منذ ما يقرب من 12 عامًا، واصلت أسعار النفط نزيفها وتدنيها، الذي بدأ منذ ما يقرب العام ونصف العام، تدرجت في الهبوط من 110 دولار -قيمة برميل النفط في صيف 2014- إلى ما دون الثلاثين دولار للبرميل الواحد، في حادثة هي الأخطر على اقتصاديات الدول الريعية والتي تعتمد بشكل أساسي على تصدير النفط الخام ومشتقاته، وعلى رأس هذه البلدان بالطبع المملكة العربية السعودية والإمارات وإيران وغيرها من الدول المصدرة والتي تحتل مكانة متقدمة في منظمة الأوبك.
كلّف هذا النزيف الخزانة السعودية قرابة الـ 200 مليار دولار، بينما كلف إيران قرابة الـ 25 مليار دولار. إلا أن المخزون النقدي السعودي تمكن -منذ بداية النزيف- من تحمل هذا العبء والرهان على صموده في قادم الأيام. وتأثير ذلك على شكل المملكة الحالي وبقائه من عدمه. وقد نشرت مجلة فوربس تقريرًا تشير فيه لإمكانية تغير النظام الذي نشأت عليه المملكة السعودية قبل 83 عامًا، جراء هذا السقوط المدوي في أسواق النفط.
هل حان الوقت لنشكر أعداءنا على حربنا؟
تبدو إيران أقل تأثرًا من جراء التدني، وهي أحد أهم الأعضاء في منظمة الأوبك والتي خرجت لتوّها جزئيًا من مأزق العقوبات الاقتصادية، ويُتوقع أن يغزو نفطها الخام الأسواق العالمية، ما ينذر باستمرار النزيف في سعر برميل النفط، ومن المتوقع أن يكسر حاجز الـ20 دولار للبرميل الواحد.
هذه الأفضلية التي حازتها إيران جاءت نتيجة تنوع مصادرها من الدخل والتخلي تدريجيًا عن تبعية النفط، سياسة الاستقلال النفطي هذه رغم أن بعض السياسيين قد نادوا بتطبيقها في مرحلة تأسيس الجمهورية إلا أنها لم تدخل حيز التنفيذ بشكل جدي إلا عقب التضييقات الاقتصادية المتتابعة، التي مارستها القوى الغربية على إيران جراء إعلانها عن برنامجها النووي. فإيران الدولة اضطرت لتوسيع دائرة التركيز لديها على الصادرات غير النفطية كصناعة التعدين والصناعات البتروكيماوية.
كإجراء تعويضي -compensatory mechanism- اتخذته الحكومة الإيرانية في تحديها للعقوبات الغربية على الاقتصاد الإيراني، ضاعفت الحكومة دخلها من الضرائب. وتمثل الضرائب حاليًا نحو 7% من إجمالي الناتج المحلي. وتشير بعض التقارير إلى أن الدخل الحكومي من الضرائب في سبتمبر 2015 تجاوز الدخل الحكومي من النفط لأول مرة تقريبًا منذ نصف قرن من الزمن.
“على الرغم من أن الزيادة في فرض الضرائب في ظل الركود الاقتصادي له آثاره السلبية في إعاقة النمو ولا يُنصح به؛ إلا أن زيادة الدخل الحكومي من الضرائب بتحديد قواعد ضريبية جديدة سيُعد خطوة إيجابية” د. على صادقيان -المحاضر في جامعة طهران- للمونيتور.
ورغم أنه لم يتم تحديد الموعد النهائي لتسليم الحكومة موازنة 2016-2017 فإن تقارير تشير إلى زيادة الدخل الحكومي الضريبي لنحو 23 مليار دولار، ما يجعل الأنظار في طهران أولى بالانصراف عن النفط إلى قوانين الإصلاح الضريبي.
أما على القطاع الصناعي، فرغم أنه قد أُرسيت دعائمه مع بداية القرن العشرين -وما جعل طاقته الإنمائية مرتفعة، توفر موارد الطاقة المحلية واليد العاملة وكذلك السوق الداخلية الكبيرة، فإيران اليوم يتجاوز عدد سكانها 80 مليونا و88 ألف نسمة- إلا أن هذا القطاع بات يشكو الهِرم وتخلفه عن التقدم التقني الذي شهده العالم مؤخرًا؛ لذلك غاب عن المنافسة العالمية. وتعمل إدارة روحاني نوعًا ما على استعادة الثقة في هذا القطاع والعمل لغزو الأسواق العالمية ودعم الصناعة المحلية بجوار نظيرتها العالمية التي ترغب إيران في جلبها للاستثمار على أراضيها. هذه الثنائية بالطبع تحتاج لمظلة تشريعية يرتجي وجودها على يد البرلمان القادم.
الآن يبدو التساؤل المطروح أكثر منطقية «هل حان الوقت لنشكر أعداءنا على حربنا؟»، فإيران الجمهورية النفطية التي كان ينبغي أن يصيبها النزيف المستمر لأسعار النفط بصدمة عنيفة في بنيتها الاقتصادية، باتت أكثر قدرة من غيرها على تحمل هذا النزيف. فقد تكيفت لسنوات -فترات العقوبات الغربية- على الاستقلال النفطي وتنويع مصادر الدخل الحكومي من الضرائب والقطاع الصناعي والاستثمار الخارجي وغيرها من مصادر الدخل المعروفة.
الاستثمار الأجنبي: الورقة الرابحة
يولي المسئولون الإيرانييون أهمية كبيرة لقطاع الاستثمار والذي أصابه العطب لسنوات جراء العقوبات الاقتصادية والتي شملت مقاطعة الشركات الإيرانية في مجالات النقل والنفط والبتروكيماويات وكذلك تجميد الأموال الإيرانية في الخارج، ومع توقيع الاتفاقية النووية في 14 يوليو الماضي فتح الرئيس روحاني ملف الاستثمار والانفتاح الاقتصادي كأحد أهم أولوياته في المرحلة ما بعد الاتفاق.
على رأس مجالات الاستثمار الذي تستهدفه إيران في الفترة المقبلة مجالان: النفط والتعدين. يليهما مجال الصناعات البتروكيماوية. ويقدر د.محمد باقر نوبخت رئيس جهاز التخطيط والإدارة أن الحكومة الإيرانية تحتاج لنحو 361 مليار دولار لإتمام خطتها التنوية بين عامي 2016 و 2012.
قدّر نوبخت أن مبلغ 204 مليار يمكن ضخها من الداخل بينما تحتاج إيران من الاستثمار الخارجي ما قيمته 157 مليار دولار في السنوات الست القادمة.
العبور إلى سوق الغاز
تمتلك إيران احتياطات كبيرة من الغاز تجعلها في المرتبة الثانية عالميًا بعد روسيا (من حيث الاحتياطات المثبوتة). لكنها أهملت لأمد بعيد هذا المورد، فلم تعتمد إيران سياسة غازية إلا في نهاية السبعينات بعدما وقعت إتفاقية مقايضة مع الاتحاد السوفييتي، إذ تدفع إيران تكاليف تأهيل مركزها الصناعي في أصفهان بتوريدها الغاز الطبيعي. في هذا التوقيت كانت ولايتا خراسان ومازندران قد بدأتا في استعمال الغاز للأغراض المنزلية والصناعية. وأولت طهران اهتمامًا ملحوظًا لهذا الجانب وشجعت على استهلاك الغاز داخليًا للتخفيف من استهلاك المنتجات النفطية. (تضاعف الاستهلاك الإيراني الداخلي للغاز سبعة أضعاف من العام 1983 للعام 2001). إلا أنه مع مطلع القرن الـ21 بلغت الصادرات الغازية فقط مليار دولار لعام 2001 في مقابل 22 مليار دولار للصادرات النفطية.
وترقب إيران ما بعد الاتفاق النووي بعين الثعلب الجائع سوقَ الغازِ وتود الولوج فيه والاستحواذ على قيمة 8-10% من تجارة الغاز العالمية وكذلك العبور إلى السوق الأوروبية للمنافسة أمام المنتج الروسي. لكن ما زالت إيران حتى الآن تضخ نسبة لا تتجاوز 2% من إجمالي تجارة الغاز العالمية.
التعدد الاقتصادي الذي سعت إيران مؤخرًا لتحقيقه واعتماد خطط تقشفية طول فترة العقوبات الاقتصادية، جعل اقتصادها أقل تأثرًا بأسعار النفط المتدنية في حين تعاني المملكة العربية السعودية المنافس الإقليمي لإيران.
لا يمكن القول بأن إيران سلمت كليًا من الأزمة، فهي كغيرها من الدول المصدرة للنفط سيلحقها الضرر، لاسيما وقد جاءت متعطشة لإحياء تجارتها مابعد العقوبات، لكننا نناقش في سياق التقرير تخطيها للمرحلة الحرجة التي تهدد بقاءها وتكشف عورات نظامها السياسي والاقتصادي، فإيران مازالت بحاجة لمزيد من الوقت والإصلاحات الاقتصادية الهيكلية ولعل ذلك يقع على عاتق البرلمان القادم والمزمع انتخابه في 26 فبراير القادم.
- إيران، الثورة الخفية (كتاب) للكاتب الفرنسي تييري كوفيل
- لمواجهة تدني أسعار النفط، إيران تتجه للضرائب كحل للمشكلة – المونيتور
- الاستثمار الأجنبي في إيران وتحدياته بعد الاتفاق النووي