لماذا أنشر الكتب!
كان رد فعل الناشرين الصديقين غير مفاجيء بالنسبة لي؛ حين أبديا رغبتهما في نبذ مهنة النشر التي ورثاها، بعد علمهما بأني قد خلَّفت مهنتي القديمة في تجارة التجزئة، لأختار نشر الكتب. لقد وصفا قراري ب”الشجاع”، وأكدا أنهما كانا ليختاران الخيار العكسي إذا أتيحت لهما الفرصة، لذا؛ ربّما كان تعبير “الشجاعة” الذي استخدماه صيغة مهذبة لوصف ما قد اعتبراه في قرارة نفسيهما حماقة! إذ أبديا تفضيلًا لمهنتي القديمة على نشر الكتب، وذلك بسبب مُعدَّلات البيع والأرباح، وسرعة دورة رأس المال الخرافية، مقارنة بمثيلتها في عالم النشر (تكتمل دورة رأس المال مرتين تقريبًا في الشهر في تجارة التجزئة، بينما قد يتأخر اكتمال دورة رأس المال لأكثر من عامين في النشر إلا في الحالات الاستثنائية لبعض الكتب الأكثر مبيعًا). أما الصديق الأكاديمي والوجه الإعلامي “الليبرالي” المشتغل بالعلوم السياسية، فقد اختلف رد فعله تمامًا. إذ قصَّ عليَّ نبأ حصوله على الدكتوراه من السوربون، وكيف حمل كل ميراثه من أبيه إلى فرنسا (قبل ظهور الإنترنت) وبغير اتصالٍ مُسبق بالجامعة أو حتى أدنى معرفةٍ باللغة الفرنسية. لقد أنفق جُلَّ ميراثه، لكنه عاد بدرجته العلمية، وقد أتقن الفرنسية كأهلها. إن المخاطرة في رأيه هي كل ما يحتاجه الإنسان ليُحقق ذاته وينتصر عليها بذات الوقت، فيُحقق إنجازات ملموسة في مجالٍ جديد. طفرات تعجز الوجوه القديمة عن تحقيقها لأسباب كثيرة، ومنها انحصار هم المشتغلين “القدامى” بتعظيم الأرباح، بغض النظر عن القيمة المضافة معرفيًا ومهنيًا.
لا يمكنني الادعاء طبعًا بأن بلوغ مثل ذلك القرار كان أمرًا ميسورًا، وأن التحوّل قد تم بسهولة؛ سواء على المستوى النفسي أو الاجتماعي، لكنه كان تحوّلًا ضروريًا أملته احتياجات معرفيّة وإنسانيّة ماسّة، ومن ثم صار الأمر بالنسبة لي قرين الحياة نفسها، وأمسى البقاء أسيرًا لمهنة الأسرة قرين الموت النفسي والعقلي. لم تكن الضغوط الاجتماعيّة بأقل من الضغوط النفسيّة؛ سواء من الأسرة التي تعاملت مع خياري الجديد، ولفترة طويلة؛ باعتباره تمرُّدًا ورفاهة، أو من المجتمع المحيط الذي تعامل معي باعتباري مجنونًا يُخلف وراءه مستقبله “المضمون”، ويمضي إلى المجهول!
لقد كان تحصيل المعرفة عند أكثر أُسرتي المثقفة مُجرَّد “هواية” نظريّة لتزجية الفراغ وإشباع شهوة “فردية”، إنها مُتعة عقليّة مُجرَّدة؛ لا يُنتظر منها أي مردود اجتماعيّ. لذا؛ فقد استغرقت عملية اتخاذ قرار التحوّل ما يقرُب من ثلاث سنوات من الأخذ والرد الجوّاني ومقاومة الضغوط النفسية والاجتماعية، واحتجت إلى ثلاثٍ أخرى حتى أتعرَّف إلى ما أنا مُقدِمٌ عليه، وأنسلخ مما خلَّفت. كان أقسى ما في عملية التحوّل أن أُخلِّف المألوف المحبوب إلى محبوبٍ غير مألوف، وأن أبدأ من “الصفر” بلا دليلٍ في اكتشاف هذا العالم الجديد، العالم الذي لم تتجاوز معرفتي به آنذاك معرفة قاريء نهم صاحب اهتمامات شديدة التنوّع! لقد قوَّض الشغف معالم المخاطرة في وجداني، وألقى بها إلى هامش الشعور، مهوِّنًا أبعادها؛ فحداني عدم اكتراث العاشق، الذي لا يُبالي بما يُصيبه في سبيل بلوغ معشوقه. كانت هذه الآلية أحد أدواتي الرئيسة، لكن التحوّل بلورها وأكسبها مركزيّة؛ فصار الشغف أهم أدواتي وأقوى دوافعي من حينها.
كان الهم الأول بالنسبة لي وقتها -وفي كل وقت- هو تحقيق القدر الأكبر من الانسجام بين جوانب حياتي المختلفة؛ لتصُب كلها في مسارٍ واحدٍ لا تعارُض بين روافده. مسار يجعل من المعرفة التي شُغِلتُ بها وقودًا حقيقيًا لحركتي في الوجود، وليس مجرَّد “هواية” هامشيّة لأوقات الفراغ، ولا وظيفة سخيفة مُضجرة، أو حتى معرفة نظرية أكاديمية أمتليء بها تلبية لشهوة هيجلية، بتعبير أستاذنا المسيري؛ فتحول بيني وبين الأسرة التي يتعيَّن عليّ أن أبنيها وأعولها. صحيح أن ذئاب المعرفة والثروة والشهرة عندي كانت في أشد حالات توحُّشها في ذلك الحين، لكن رغبتي الجارفة في تحقيق الانسجام الجوّاني والبرّاني، والوصول إلى سلام نفسي حقيقي؛ كانت أقوى كثيرًا. لهذا كله؛ كان من الضروري، بل ومن الحتمي؛ أن ترتبط أسباب رزقي بالهم الفكري الذي بدأت معالمه تتبلور، بل وأن ترتبط معالم وتفاصيل حياتي الشخصيّة كلها بعين الهم. كان الهدف حينذاك هو تطويع كل حياتي للهم الفكري/الحركي، لكن بمرور الوقت بدأت حالة من التوازُن النظري للتصوّر بالتبلور، ورحت أحاول تحقيق بعض ملامحها الرئيسة من خلال مسار حركتي الإنسانية/الفرديّة، لتصُب الأقسام الثلاثة في مجرى واحد يقصِد وجهة واحدة صارت أكثر وضوحًا بمرور الوقت، وجهة يُسهم كل روافدي بقسطه في دفع حركتي عروجًا إليها؛ وجه الله.
لم أكن أعرف كيف ولا من أين أبدأ ما أُحب؛ فعالم الكتب والمعرفة لا نهاية له، ناهيك عن الاتساع المفروط لمجال اهتماماتي الشخصيّة. ولم تكن فراستي في الكتب وحدها لتكفي طرفًا للخيط، وإن صلحت كوقود للاستمرار بعد ذلك؛ ولا كانت فراستي كتاجر تكفي وحدها بطبيعة الحال. لذا؛ تعيَّن عليّ أولًا أن أُعيد ترتيب اهتمامتي وأولويّاتي المعرفيّة الشخصيّة في مشروعٍ أوضح وأكثر تماسُكًا، قبل أن أشرع بتخطيط مساري في عالم نشر الكتب. لقد اخترت عالم النشر لأني تاجرٌ أبًا عن جد، ولدت حُرًا ولا أستطيع إلا أن أظل كذلك، ولا يمكنني التحوّل إلى أكاديمي-تكنوقراط في جامعة أو دار نشر أو مركز أبحاث؛ ليفسُق في عقلي رئيسٌ مُعقَّد معدوم الموهبة! إنني قد أتحمَّل تعطُّل أي من روافد حياتي، أو حتى انسداده؛ لكني لا أطيق الخضوع للسلطة البشرية في سبيل حُسن جريان روافدي إلى نهر العمر القصير. لقد تقوَّضت كل أشكال السلطة البشرية في روعي، وفقدت فعاليتها كُليًا؛ منذ أدركت جوهر التوحيد، فلم يعُد من مجال أمامي إلا أن أظل حُرًّا كما نصحني شيخي في عالم النشر، الحاج حسين عاشور متعه الله بالعافية؛ تلك النصيحة التي وافقت هوى مُتأصلًا وطبعًا شكَّل نفسي، وكانت أحد معالم مشروعي الفكري نفسه، بعدم التقيُّد بتقليدٍ معرفيّ وضعي، ولا مدرسة مُتأصلة، ولا مذهبٍ قديم. ومن ثم عمدت للاجتهاد في حُسن اختيار مسارات حياتي، ومراجعة تلك المسارات أولًا بأول، طوعًا أو كرهًا؛ لتُعضِّد بعضها بعضًا. حتى إذا ما كبا أحدها، استقامت مُخرجات حياتي جملةً، وإن قلَّت؛ على الصورة التي أرغب فيها، مهما كان اضطراب المدخلات. لقد هداني الله لإدراك معالم ثمرة مُعيَّنة لحياتي، وأيًا كانت عناصر المدخلات التي قد تؤثر في تركيب حجم الثمرة ونسب الطعم واللون والرائحة؛ فالمهم أن تظل خواصها الرئيسة ثابتة، وانتماؤها لفصيلتها لا شك فيه.
لهذا كلَّه مثَّل النشر بالنسبة لي رافدًا حيويًا مهمًا. فمثله عندي مثل تحصيل المعرفة؛ إنه اكتشافٌ للعالم، لا من خلال إخضاع الطبيعة والإنسان للبحث المختبري المدرسي، ولا من خلال أوهام المسرح والتأمُّل النظري المجرد، ولا من خلال الخضوع لثقل الواقع واستمداد الرؤية من جزئياته. إن نشر الكتب عندي مثل الكتابة؛ مُكابدة حياتيّة حقيقيّة لنصٍّ مؤسس فوق التاريخ، مكابدة تتحقق بها بعض حركتي لتمثُّله في الوجود. إنها بعض العبادة التي افترضتها على نفسي ابتغاء مرضاة الله. وكان إدراكي لأسباب عدم ازدهار فن التمثيل في الإسلام، وعدم اهتمام فلاسفتنا به وبالدراما الإغريقية، برغم ولوغهم في الميراث الفلسفي للإغريق؛ هي الكوة التي انفتحت في عقلي لتكشف لي أن إدراك العالم من خلال أوهام المسرح والتأمُّل النظري المجرد، لا يؤدي فقط لتبديد الجهد في الانشغال بأسئلة غير ذات موضوع، بل يؤدي لنتائج افتراضيّة مغلوطة تُشكِّل لاهوتًا فاشيًّا يحجب المعرفة الحقيقيّة، فتُنزع القداسة عن العالم، حتى يُمكن سحبه من على خشبة المسرح إلى طاولة المختبر. لقد نجوت، بفضل الله؛ مما لم ينج منه بيكون قبل قرون.
لا أزعم وعيي المسبق بكل أسباب اختياري لمهنة النشر، فالتوجيه الإلهي الذي يلعب دوره في تحديد خياراتنا، يجعل من الحديث “القدري” عن إرادة مستقلة كل الاستقلال وذات واعية بشكل كامل؛ مجرد لغو لا طائل تحته. إن استقامة أمرك على شيء مما تحب، هو من دلائل موافقة بعض هواك لما أقامك فيه سبحانه. وكذا إقامتك في أمر هي من دلائل موافقته لفطرتك وطبعك وهدف وجودك. وسبحان العليم الخبير. لكن يمكن بطبيعة الحال الوقوف على ما تشبعه عندي مهنة النشر، واعتباره صورة من صور الاختيار. ولو كان اختيارًا بالرضا!
لعل أكثر طاقاتي السلبية التي يمتصها النشر، ويوظفها توظيفًا بناءً، لتنجو منها تصوّراتي؛ هو الرغبة الطوباوية الفطرية في هندسة الوجود الإنساني والاجتماعي، وإعادة تشكيله وضبطه وفق صورة ذهنيّة افتراضية ونموذج وضعي مُتوهَّم. وهو نزوع خطير يُهيمن على أكثر الأنساق الفلسفية، والنظرية عمومًا؛ سواءً في الفكر الغربي أو الفكر الإسلامي المعاصر. وتصريف هذا الميل الطبيعي في قناة قادرة على حُسن توظيفه، هو من النعم الكثيرة التي من الله بها علي؛ لتتحرر تصوراتي من هذا الميل إلى حد ما. إن هذه الرغبة الجامحة في الانهمام بالتفاصيل شديدة الدقة، وإعادة بناء العالم البرّاني وفق صورة مسبقة؛ أصرفها في العناية بالمحتوى المنشور. إن هذه الرغبة المتوحشة في التحكُّم في الوجود البرّاني تُسيطر على الدارسين المعاصرين لعلوم مثل الهندسة والاجتماع والفقه والقانون والنظم السياسية، بدون رؤية كلية؛ فتجعل من هذا النزوع الوحشي أسلوب حياة، ليزداد توحُّشه ولا إنسانيّته إذا احتوته أيديولوجية صلبة تُلبّي تطلعاته الطوباوية في محاولة فرض تلك الرؤية الآلية على العالم، وهو ما قد يتجسَّد في صور متنوعة من العنف المفرط الموجه للذات والآخر والوجود.
كذا يُشبع النشر عندي تطلعاتٍ جماليّة؛ أجتهد للتعبير عنها في تصميم الكتب وإخراجها، وتحقيق حد أدنى من جمال الشكل، يُعبِّر عن جودة المضمون. إن هذه التطلُّعات الجماليّة بطبيعتها ذات قيمة وظيفية، فمهمتها التعبير عن المحتوى، بشكل مباشر أو غير مباشر. لهذا مثلًا أحاول قدر الطاقة عدم الاستجابة لغواية الغلاف الموحد، الذي يُعبر عنه في شكل نمطي مميّز لكل الكتب؛ مراعاة للتركيبيّة والتنوّع الشكلي المعبِّر عن المضمون المتنوِّع. كذا أبغض استعمال لوحات ما بعد حداثيّة مموهة، ومطموسة المعالم الإنسانية؛ في أغلفة كتبي، وذلك كما يفعل كثير من الناشرين العرب. إن تلك اللوحات دال بغير مدلول. بل هي دال قميء لا جمال فيه. لقد ارتبطت التجربة الجماليّة في الإسلام بقيمة وظيفية واضحة الدلالة؛ سواء في زخرفة المساجد أو الدور أو الآنية أو الأثاث. إن الجمال الذي يُنتجه الإنسان لا يصير قيمة مطلقة تطلب مُجرَّدة لذاتها، إلا بافتقاد الوجهة، وانكماش السرديات الكبرى. إنه قرين تأله الإنسان، والذي يصير به الجمال والتجربة الجمالية ميتافيزيقا أو لاهوتًا حقيقيًا. إن مقولة “الفن للفن” مقولة لاهوتيّة لا تُشير لشيء إنساني، ولا لمنتج إنساني، ولا لأثر إنساني مبتغى بطبيعة الحال. إنها مقولة لا تاريخية ولا إنسانية. ولا يعني ذلك بالضرورة أن تُعبِّر التجربة الجمالية عن طوبيا متوهمة وتتشكل بأيديولوجيتها التبشيرية، بل يعني أن يبقى الجمال مُقترنًا بالوظيفة. إن الإنسان لم يخلق ليتمتع بالجمال مُجرّدًا، وإنما جُعل الجمال ليُيسر عليه أداء وظيفة الاستخلاف ويخفف من أعبائها، بل ويجعلها في أحيانٍ أكثر لذة. وربّما لذلك لم تتطور فنون مثل التصوير أو النحت في الإسلام، ولا ظهرت المتاحف في الحضارة الإسلامية. إن نشدان الجمال المجرَّد فيما خلفه الأسلاف من أشياء ليس عبادة لهم فقط، بل هي عبادة لتلك الأشياء في حقيقة الأمر.
أما ثالث أوجه الإشباع وأهمها، فهو الرغبة السكونية في نشر المعرفة التي أعجز/أقعد عن تجسيدها/تمثُّلها؛ فأرسلها كتبًا. إن تحصيل أكثر المعارف ونشرها فرض كفاية، وقدرة إنسان واحد على التحصيل والإفادة والتمثُّل محدودة بهمّته ودوره في الوجود بطبيعة الحال، ففوق كل ذي علمٍ عليم. إن مواجهة هذه الحقيقة العارية بغير رتوش ولا أوهام؛ كانت النصل الذي نحرت به الذئب المعرفي الهيجلي، وعرفت به نفسي حدّها؛ فادخرت جهدها وضنَّت به على التبدُّد في غير مجاله، ووجهته إلى مسار أكثر إنسانيّة وأكثر فقهًا بمناط تكليف هذا الإنسان في دار الابتلاء. لقد تعيَّن عليّ أولًا اكتشاف نوع المعرفة التي ابتُعثت لإنتاجها دون غيري، وحجمها وسُبل تحصيل أدواتها، ومن ثم صار كل ما عداها نوافلًا عندي. بل وصار من المعتاد عندي ترشيح الكتب التي تصلُح للنشر لهذا الزميل من الناشرين أو ذاك، فقد انكسر عندي توهُّم قُدرتي على الاضطلاع بكُل ما يعجبني، ناهيك عن إنفاذ كل خططي شديدة الطموح. وإني أفضل أن أراها تتحقق على يد غيري، وينتفع بها الناس؛ على أن أراها تموت حبيسة أحلامي. لقد كانت معرفة معالم مشروعي (حدّي) هي أولى خطوات إدراكي لما يتعيّن عليّ نشره من إنتاج غيري، سواء لأكمل به ما أعجز عن إنتاجه/تجسيده لوقوعه خارج دائرة اهتمامي المباشر، أو حتى لما أقعُد عن تمثُّله/إنتاجه مما افترضت على نفسي. فقد يعجبني الكتاب أو المقال أو الدراسة، الذي يتقاطع مع ما افترضت على نفسي؛ وهذا طبيعي. لكن القليل جدًا هو الذي أتمنى لو أني كتبته، لشدّة قُربه من التعبير عن وجهة نظري؛ ومن ثم أغار من صاحبه. وعلاج هذه الغيرة عندي أن أُسهم في انتشاره؛ سواء بترشيحه للغير (إن كان مطبوعًا) أو إعادة نشره على نفقتي، أو بأية طريقة أخرى تُسهم في وصوله لأكبر عدد من المتلقين. إنني بذلك أعامله معاملتي لكتاباتي، وأدمجه في “نسقي” لثلاثة أسباب موضوعيّة؛ أولها أنه قد أدى عني فرض الكفاية، لأشغل بغيره. والثاني أني قد أُفيد في البناء عليه مُستقبلًا، بغير حاجة للبدء من حيث بدأ. والسبب الثالث هو اختبار المقولات عمليًا، وزيادة صلابة القاعدة؛ التي قد تلزمني للبناء يومًا.
إن كل كتاب أنشُره أو سأنشُره -بإذن الله- يسد ثغرًا معرفيًا أُرى وجوب ملئه في وعي المجتمع، فإن لم يكُن بقلمي؛ فليكُن بقلم من وفِّق لذلك. لهذا؛ كان كُلُّ ما أنشُرهُ مُعبِّرًا عني بشكل أو بآخر. رُبّما لهذا لا أكترث كثيرًا بطلبات النشر التي تصلني، إلا إن وافقت رؤيتي، وهذا نادر للأسف. بل ربّما كانت نُدرته من حُسن طالعي، فقائمة الانتظار للكتب التي أريد نشرها تتجاوز الثلاثمئة كتاب، عدا ما هو في طور الإنتاج فعلًا؛ حوالي ثلثيها تتعيّن ترجمته من لغاتٍ أخرى. وهذه القائمة تتحدث عدّة مرات كل عام، وفي كل مرة تُزاح بعض العناوين للذيل، ويُقدَّم البعض الآخر في الأولويّة، وقد يحذف منها الشيء القليل، وقد يُضاف لها أكثر مما حُذف. لكنها في نهاية الأمر قائمة نوعيّة واضحة الغرض والوجهة، وعلى رأسها عناوين تأسيسية لا غنى عنها؛ لا تُزاح للذيل أبدًا، ناهيك عن حذفها؛ بل تتقدّم مراحل في كل مرّة حتى تصل للنور. إن هذه القائمة تتحرَّك كما أتحرك أنا نفسي جوانيًّا وبرانيًّا؛ إنها تحملني كما أحملها. وحين تتقدًّم بعض موضوعاتها على غيرها؛ فهذا قرينُ حركة مماثلة تتم في وجداني وفي عالمي البرّاني بدرجة ما.
رُبّما لكل ما سبق؛ لا أضن أبدًا بكتاب مما نشرت على من أستشعر حاجته له، وعجزه عن اقتناءه. وبرغم كثرة من يحاولون تصوير نفوسهم بهذه الصورة؛ إلا أن لي فراسة قلما تُخطيء في هذا الموضوع. فأنا أميِّز من يُريد الكتاب لمنفعة جادة وحاجة معرفيّة حقيقية، ومن يريده شهوة اقتناء أو لمجرَّد التظاهُر. فأضنُّ على الثاني ولو بورقة؛ في حين قد يهديني الله لأهدي الأول، ولو بدون طلبه. وإني لأهدي من لا يستحقون أحيانًا تأليفًا لقلوبهم، أو مدفوعًا بسيف الحياء. لقد اخترت هذه المهنة لنشر المعرفة، ولذا؛ أستحي حجبها عمن يحتاجها، بسبب عجزه عن سداد ثمنها. وإذا كان لكُل شيء في الكون ثمن، وتحصيل المعرفة أول ما يخضع لهذا الناموس؛ فإن الثمن هنا قيمة تبادُلية لا علاقة لها بالقيمة المعرفية والإنسانية التي يتم تحصيلها. فمن كفاه الله مؤونة الثمن ووسع في رزقه؛ فبها ونعمت. ومن عجز؛ فأسأل الله أن يُبصرني به، فأهديه بإذن الله وحوله قبل أن يطلُب؛ طاعة لله الذي رزقنا قبل أن يُعلمنا كيف نسأل.
لقد كانت أول نصيحة لشيخي في عالم النشر، حين أيقن بانعقاد نيتي على خوض غمار هذا العالم؛ أن نبّهني إلى أن نشر الكتب صناعة ثقيلة تحتاج إلى عُمر نوح، وصبر أيوب، ومال قارون. وإن صدق نصيحته ليتأكد لي كلما أوغلت فيها يومًا بعد يوم. إن عُمر نوحٍ أمرٌ لا أملكه؛ فما تعبَّدنا الله بمعرفة آجالنا، وإنما تعبَّدنا بدوام العمل مع إخلاص الوجه كأننا سنحيا أبدا. قال المعصوم صلى الله عليه وسلم: إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة؛ فليغرسها. وبما أن نهاية التاريخ قد أخفيت عني، سواء تاريخي أو تاريخ مجتمعي؛ فأنا أعمل فعلًا كأن لي عمر نوح عليه السلام، ولا أتعجًّلُ أمرًا لم يأذن الله به، تأدُّبًا مع ربّي؛ مهما آلمني تأخُّره. بل أعمل يحدوني الأمل، متزودًا ببعض صبر أيوب، وهي معونة الله سبحانه على ما ابتلانا، فنسأله يقينًا يعمُر الصدر، ويُغذي الصبر. فإذا بلغت حد التفكُّر في مال قارون؛ عرفت أن طموحى قد كبا بي، وعرفت أني لو أوتيت مال قارون؛ لانتكست محاولاتي الهشة للاستقامة على ما أقامني فيه. فأسأله سبحانه ما قل وأغنى عمن سواه.
أنا لا أنشر الكتب لأنها قيمة بذاتها، بل لأنها تدُل على القيمة. فكل نصٍّ بشريٍّ لا يُعيدك للوحي الإلهي؛ هباء لا يُعوَّل عليه.