وسائل تواصل بدائية: لماذا تستمر ظاهرة الكتابة في الحمامات؟
ما الذي يُحفِّز شخصًا على أخذ قلم إلى مرحاض ليعبر عن وجهة نظره؟ وما الذي يُحفِّز شخصًا آخر للرد عليه؟ وهل صادف وجود قلم مع كل هؤلاء ليكتبوا على باب الحمام وحوائطه؟
قد تثير هذه التساؤلات فضولك، لكنك لست أول فضولي. ففي القرن الثامن عشر، تحوّل منزل صغير بأحد المستنقعات الإنجليزية إلى مرحاض عام، وحين كثرت الكتابة على جدرانه تم جمعها في كتاب نُشر عام 1731، بعنوان: «الفكر المرح: أو النافذة الزجاجية وبيت المستنقع».
لم تكن هذه أولى محاولات الكتابة بالحمامات، فقد سبقها الشاعر الروماني مارتيال، في القرن الأول الميلادي، حيث علّق على إحدى قصائد الشعراء المنافسين له قائلًا:
ظاهرة الكتابة بالحمامات
لا تدخل مرحاضًا عامًا إلا وتشاهد كتابات ورسومات تملأ الجدارن والأبواب، فهذا يسب شخصًا، وآخر ينتقد نظامًا أو تنظيمًا، وثالث يضع رقم هاتف، ولا فارق بين حمام رجالي وحمام نسائي، حتى صارت الحمامات العامة بمثابة إصدار من إصدارات فيسبوك، تُكتب على جدرانها آراء شخصية وسياسية واجتماعية، أو تُتخذ كوسيلة دعائية رخيصة الثمن، وربما أكثر جماهيرية من لافتات الإعلان، وأحيانًا يُكتب رقم هاتف كوسيلة للانتقام والتشهير أو «الهزار»، أو عبارات إباحية تعبر عن الكبت الجنسي، وهناك من يكتب تعصبًا لأحد الأندية أو تخليدًا لذكرى، ولا تعرف أي ذكرى هذه التي تُخلد في حمام!
كل ذلك فضلًا عن السباب الذي يُوجّه في الحمامات العامة للوطن والمواطنين والمسئولين والفقر وغلاء الأسعار، وفي حمامات الجامعات والمدارس يُسب الأساتذة والمواد والإدارة ووزراء التعليم، على سبيل الاعتراض والتعبير البذيء عن صراع الأجيال، أو سبابًا من نوع آخر، بالخوض في بعض الأمور الجنسية.
وقد يُنظر إلى الأمر كخلل سلوكي وتشويه للممتلكات أو كظاهرة غير حضارية، ووجه قبيح ومقزز لبعض أفراد المجتمع أو صورة من صور الكبت الجنسي أو نتيجة لتكميم الأفواه؛ لأن ما يُكتب بالحمامات لا يُباح به علنًا، وقد تحمل الكتابات دلالات اجتماعية تكشف عن وعي المجتمع وثقافته أو تعبر عن المشاعر المكبوتة أو تدل على نقص في الشخصية، وربما هي مجرد عبث وإلهاء للنفس عن قضاء الحاجة الذي يثير الاشمئزاز.
وقديمًا كان يُنظر إلى الأمر كظاهرة شبابية لإخراج مشاعر مكبوتة ومحرّمة أو تعبير من الشباب عن أنهم لا يجدون من يسمعهم، فيكون المكان المناسب لذلك هو الحمام. وقد يكون ذلك مقبولًا في عصر ما قبل السوشيال ميديا، لكن استمرار الأمر بعد انتشار السوشال ميديا يدل على خطأ هذا التفسير، ويشير إلى أن الأمر تحول من ظاهرة إلى اعتياد، في ظل أن استخدام الهواتف داخل الحمامات لم يمنع الكتابة داخلها.
لماذا يدرسون الكتابة بالحمامات؟
كان البيولوجي الأمريكي «ألفريد كينزي» أول من قام بذلك،ففي الخمسينيات وجد هو وفريقه أن الرجال يكتبون على الجدران عبارات قذرة، أما النساء فيكتبن عن الحب والرومانسية، وهو ما فسّره «نيك هيسلام»، أستاذ علم النفس، في كتابه «علم النفس في الحمام» بأن المرأة أقل إنتاجًا للكتابات الشهوانية؛ لاهتمامها الكبير بالقواعد الأخلاقية الاجتماعية.
وربما ما جعل الأمر يستحق الدراسة هو أن الحمامات العامة أماكن ذات خصوصية، تمكننا من القيام بأنشطة خاصة في مكان عام، وتسمح لنا بالكشف عن أكبر محرماتنا (الأعضاء التناسلية)، وربما تأتي الكتابات الجنسية بالحمامات من كون الناس يستمدون الإلهام من محيطهم.
كما أن تمييز الحمامات بين الجنسين يخلق مساحة خاصة للنوع الواحد لا تتوافر في مكان آخر، وهو ما دفع لدراسة الفروق بين ما يكتبه الرجال والنساء بالحمامات. كما تتضمن الكتابات نقاشات سياسية واجتماعية تنم عن تحيز أو جهل يثيران المخاوف؛ فقد تكون هذه ثقافة المواطنين.
«هو العلم بيقول إيه؟»
الكتابة بالحمامات أو «latrinalia»، ذلك المصطلح الذي صاغه العالم الفلكلوري «آلان دوندس»للمرة الأولى بدراسته عام 1965، حيث توصل إلى أن الرسم على جدار الحمام يأتي من دافع بدائي لطيف وهو الرغبة في ترك تذكار.
عام 1983 أظهرت دراسة أمريكية أن الكتابة على الجدران تعكس بوضوح القضايا الاجتماعية الحالية والمهمة. وأظهرت دراسة أن الإناث يكتبن كتابات رومانسية وتفاعلية، وتركز كتاباتهن المسيئة على المظهر الجسدي. وفي عام 1993 أكدت دراسة أن جدران المرحاض كانت منبرًا للطلاب النيجيريين الذين لا يُسمح لهم بمناقشة القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ورأت أطروحة ماجستير عام 2009، أن المراحيض العامة أماكن تكون فيها حرية التعبير مجهولة المصدر، وبالتالي فهي حرة حقًا، على نقيض الإنترنت الذي يمكن تتبع مستخدميه من خلال عناوين IP الخاصة بهم. وترى هاتان الدراستان كتابات الحمام كوسيلة تعبير تشبه الخطاب المنطوق، وربما هذا ما يميزها عن كتابات الأماكن العامة الأخرى.
وتوصلت دراسة عام 2012 إلى أن عبارات السباب تعد إستراتيجية نموذجية ذكورية لتعزيز الذات، وتحقير النساء لغيرهن يعد من المناورات النسائية الكلاسيكية، كما أن الكتابة على الجدران تعبر عن بدائية البشر، وتوفر لمحة موجزة عن المواقف والرغبات والتقليد المعاصر، ورغم كونها علامات بسيطة إلا أنها تكشف عن عدد من النزعات والدوافع والمكنونات النفسية، ورغم كثرة مواقع ووسائل التعبير إلا أن ما يحافظ على جاذبية الكتابة على الجدران هو عدم الكشف عن الهوية، ومشاركة العبارات التي لا يمكن نشرها علنًا، مثل الألفاظ الجنسية والشتائم.
ورأت دراسة عام 2014 أن كتابات الحمام تمثل وسائل تواصل، بما تنقله من أفكار وتعليقات، وتتميز عن أشكال التواصل الشائعة بأنها شخصية جدًا، وموجهة إلى نفس الجنس، وذات قيمة ترفيهية، وتحتوي على معتقدات ثقافية عميقة ومحددة جنسانيًا، وفي حين تكثر في حمام الرجال الكتابات الجنسية ورسومات الأعضاء التناسلية والإهانات، فإن في حمام النساء تكثر رسومات الزهور، والنصائح والكتابات الفلسفية والشاعرية التي تحمل تعليقات داعمة وإيجابية.
وتوصلت الدراسة إلى أن الكتابة النسائية أنضج من الرجالية، فبعضهن كتبن عن أسباب إصابتهن بالإسهال والانتفاخ، وهو أمر يناسب طبيعة الحمام، كما تمثل دليلًا على انتشار التعاون والتضامن والدعم بين النساء، على عكس الرجال، الذين تتركز رسائلهم في التعبير عن قوة الذكور ورغبتهم في الحفاظ على رموز الذكورة، والتي تتمثل من وجهة نظرهم في الإهانات والشتائم وصور الأعضاء التناسلية.
الحمامات العربية
لاقت كتابات الحمام اهتمامًا غربيًا؛ للوصول إلى تفسير للنزعات الجنسية، والفروق بين الذكور والإناث، وكونها نوعًا من آليات الاتصال، ومعيارًا للتنشئة الاجتماعية، ومؤشرًا للرأي العام والاتجاهات المجتمعية نحو قضايا متعددة.
أما عربيًا فإن الاهتمام بهذه الظاهرة يكاد يكون منعدمًا، ومجال تناولها لا يطمح إلى دراسة المشكلات الاجتماعية، فقد درس باحثان عام 1994 التنوعات السياسية والدينية للكتابة على الجدران إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وذهب سيد عويس في كتابه عام 2000 «هتاف الصامتين» إلى تحليل الشعارات الموجودة على هياكل السيارات؛ ليعبر عن ثقافة الخوف في المجتمع المصري، وقامت دراسة عام 2009 باستقصاء النزعة العصبية والقبلية في المجتمع الأردني من خلال كتابات الحمام، واعتبرتها دراسة في 2010 ظاهرة غير حضارية يجب إيقافها.
وربما لم يحظَ الأمر بالاهتمام لما تتضمنه الحمامات من كتابات جنسية ودينية وسياسية، تعد من محظورات الحديث العربي. وهناك دراسة عربية واحدة موسعة وميدانية، عام 2015، اهتمت بالظاهرة كمكون أساسي من مكونات الثقافة الشعبية، ووسيلة تعبير عن ظواهر ومشاكل اجتماعية، وخطاب يعكس المواقف والاتجاهات الجنسية والسياسية والاجتماعية في مكان واحد، وبهذا تشكل فرصة لدراسة المجتمع عن قرب.
وتوصلت الدراسة إلى أن كتابات الإناث أكثر تأدبًا وانسجامًا مع القيم والتقاليد، أما الذكور فكتاباتهم عدوانية، وهم أقل قدرة على التعبير عن عواطفهم، وهو ما يتماشى مع كون الحب يضعف الذكور من المنظور الثقافي العربي. وفيما يتعلق بالسباب والإهانات فالذكور يسخدمون الألفاظ النابية في كل مجالات الحياة، أما الإناث فكان سبابهن بسيطًا، بلا كلمات عنيفة أو جنسية. كما أن التجمعات الأكثر كتابة بالحمامات هي التي تشهد تنوعًا ثقافيًا واجتماعيًا، أما المناطق الريفية أو التي تتسم بالمحافظة وعدم الانفتاح كانت أقل كتابة.
ورأت الدراسة أن الحمام يشكل المكان الآمن والسري للتعبير عن المشاعر التي تتناقض مع الثقافة والقيم المجتمعية العربية، خاصة المشاعر الجنسية، في ظل افتقاد التربية العربية إلى عنصر الثقافة الجنسية.
وجهة نظر أخرى
قد تبدو هذه التحليلات نمطية إلى حد ما في نظرتها للرجال والنساء. ورغم ما تشير إليه، إلا أننا يمكننا القول إن النساء يرسمن زهورًا والرجال يرسمون أعضاء تناسلية لمجرد قضاء اللحظة أو المتعة، دون دوافع وراء ذلك، والفرق بين كتابات الحمام للرجال والنساء ليس بالضرورة مؤشرًا على الاختلافات بين الجنسين؛ فأسباب اللجوء للحمام وظروف الكتابة في الحمامات لا تدفع المرء إلى الرغبة في التعبير الحقيقي عن نفسه، إلى جانب أن غالبية الدراسات انطلقت من تحليل نفسي ومنظور اجتماعي، وربما هذا هو ما جعل الأمر يبدو معقدًا، فربما لو دُرس الأمر من منظور طفولي كالمتعة والرغبة في التشويه لأصبح الأمر أهون، ورغم أنه أمر منحرف وغير قانوني، لكنه انحراف قليل الضرر، ولا يُعاقب عليه القانون.
وترى إحدى الدراسات أن كتابات الحمام قد تمثل غرضًا نبيلًا، كالنصيحة، وتشجيع الآخرين. وهناك من يكتب كلمات رائعة تساعد على عدم الاستياء أثناء الوجود بالحمام، أو رسومات جميلة وعبارات تنم عن مواهب حقيقية.
ويمكن أن يعد أدب الحمامات مصدر إلهام، مثلما حدث للطالبة الأمريكية التي قررت تغيير حياتها بعد قراءة عبارة على باب حمام المدرسة، تقول «أنت جميلة، حتى عندما تقضين حاجتك»، فرأت الطالبة أن شخصًا ما استغل وقته لمساعدة الآخرين على إدراك جمالهم، مما جعلها تقرر تغيير تخصصها من دراسة الطب إلى دراسة الأقوال الملهمة، ورغم أنه ليس مجالًا حقيقيًا للدراسة إلا أنها قررت أن يكون عملها هو أن تلهم النساء وتزيد ثقتهن في أنفسهن بالكتابة على جدران الحمامات، ونسخ الأقوال التي ألهمتها.
كيف يمكن القضاء عليها؟
كتب مارك أبراهامز، مؤسس جائزة «Ig Nobel»،مقالا بالجارديان ذكر فيه أن أستاذًا جامعيًا ابتكر طريقة فعالة لمنع الكتابة بالحمام، حيث كتب على حائط حمام:
واستمرت الدراسة 50 يومًا، خلت فيها الجدران من الكتابة. وفسر الأستاذ الجامعي ذلك بأن الجدران الخالية تعمل كمحفزات للكتابة؛ ربما لعدم وجود شخص يهتم بذلك، لكن نشر التنويه أشار إلى أن هناك من سيدفع ثمن النتائج، أو ربما أن وجود نوع من الرقابة دفع إلى الامتناع عن الكتابة على الجدران.
وربما يتوافق ذلك مع «نظرية النوافذ المكسورة» التي ترى أن منع الجرائم الصغيرة مثل التخريب، يساعد على خلق مناخ من النظام والقانون، وبالتالي منع وقوع جرائم أخطر. فإذا كُسرت نافذة مبنى بالشارع دون رد فعل، سيخلص المارة إلى أنه لا يوجد أحد يهتم، وبمرور الوقت سيبدأ المارة في كسر المزيد من النوافذ، وبعدها سيتم كسر النوافذ جميعها؛ لأنهم تأكدوا من عدم وجود مسئول عن المبنى ثم تأكدوا من عدم وجود مسئول عن الشارع وعن الحي، وهكذا.
كلنا نستعمل الحمام، ونستغل وقته في التفكير والغناء والتمثيل والكلام بلا رقيب، وربما استعراض الجسد أو ممارسة العادة السرية والعلاقة الجنسية، ومشاهدة الأفلام الإباحية، وشرب السجائر، وقد تكون الكتابة أحد أشكال استغلال أوقات الحمام، في ظل عدم وجود كاميرات أو تصنت، وهو ما قد يدفع إلى مزيد من الكتابة من أجل مزيد من الشعور بالخصوصية والحرية، وطالما وُجد باب الحمام فسيوجد القلم الذي يُكتب به عليه.