لماذا يحبون أحمد عرابي ويكرهون سعد زغلول؟
حقائق التاريخ أشبه بجبل غاطس تحت الماء لا تبدو منه إلا قمته فقط، ولا شك أن الإعلام الحكومي وكتب التاريخ المدرسية ساهما بشكل ضخم في تشكيل هذا الجيل في أذهان أجيال ما بعد يوليو 1952، لذا ترسخ في أذهاننا أن العصر الملكي كان عصراً فاسداً تماماً، وأن جمال عبد الناصر هو أول رئيس مصري يحكم منذ عهد الفراعنة وليس محمد نجيب، وأن ما جرى في 23 يوليو 52 ثورة وليس انقلاباً، وما حدث في الخامس من يونيو 67 نكسة وليس هزيمة.
كما أننا لم نسمع يوماً الإعلام يذكر شيئاً عن جسد هذا الجبل الغارق، عن دستور 1954، الذي ألقاه عبد الناصر في سلة القمامة، وهو ما ذكره الكاتب الصحافي «صلاح عيسى» في كتابه «دستور في صندوق القمامة». وأيضاً لم نقرأ سطراً واحداً في التاريخ المدرسي عن حادثة ضرب «عبد الرازق السنهوري باشا» -رئيس اللجنة التي وضعت دستور 1954- بالأحذية أمام مجلس الدولة، ولا أحداث 28 و29 مارس/آذار 1954 التي أسست لدولة يوليو فيما بعد، وهتف فيها المتظاهرون «لا أحزاب ولا برلمان… تسقط الديمقراطية… تسقط الحرية».
كل هذا يدل على أننا درسنا تاريخاً أغفل العديد من الحقائق والمشاهد الرئيسية، وهذا إن لم يكن تزويراً للتاريخ في نظر البعض، فهو بكل تأكيد تفسير مغرض لأحداثه وحقائقه، مثلما حدث باحتفاء دولة يوليو 52 بأحمد عرابي، وتجاهلها لسعد زغلول.
عرابي سبب الاحتلال الإنجليزي!
أطلق المصريون على حركة الجيش التي قام بها أحمد عرابي «هوجة عرابي»، لأنها كانت «تمرداً/عصياناً عسكرياً» يهدف لتحقيق بعض المطالب التي رفعها عرابي للخديو. وقد هاجمت شخصيات مصرية بارزة من قادة الحركة الوطنية في مطلع القرن العشرين ما قام به أحمد عرابي، وعلى رأسهم مصطفى كامل، الذي رأى أن عرابي كان سبباً في الاحتلال الإنجليزي لمصر، مُعللاً ذلك بالتناحر والتباغض بين قادة الجيش المصري، حيث كتب قائلاً لـ «فرانسوا دي مسين»، مدير مجلة العالم الإسلامي:
وقد ذكر الأستاذ رجاء النقاش في كتابه «رجال من بلادي» أن الزعيم مصطفى كامل شنَّ حملة بالغة العنف والقسوة ضد عرابي، متهماً إياه بالجهل والدروشة، وأن أحمد لطفي السيد كان يرى أن عرابي قام بثورة لا داعي لها، كانت مبرراً للاحتلال الإنجليزي لمصر، للقضاء على التمرد العسكري بقيادة عرابي.
حتى أمير الشعراء أحمد شوقي هجا عرابي عندما عاد من منفاه عام 1901، قائلاً:
عرابي والخديو
أكد الكاتب الصحفي «إبراهيم عيسى» في حلقة برنامجه 25-30 على فضائية «أون تي في» يوم 17 سبتمبر/أيلول 2014 أن الزعيم أحمد عرابي لم يقف أمام الخديو توفيق، ولم يذهب إلى قصر عابدين، ولم يحدث هذا المشهد الذي ندرسه في الكتب، والذي يقول فيه عرابي: «لقد خلقنا الله أحراراً، ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم».
ويشير عيسى، نقلاً عن الكاتب «حلمي النمنم»، أن هذا لم يحدث على الإطلاق، لا حرفاً ولا لفظاً ولا مشهداً ولا حواراً، ولم يقابل الخديو توفيق من الأساس، مُستنداً في ذلك على كافة التحقيقات التي أجريت مع عرابي بعد فشل الثورة العرابية، وكذلك مذكرات الشيخ «محمد عبده» عن هذه الثورة، مضيفاً: «أن عبد الله النديم صوت ولسان الثورة العرابية، في التحقيقات التي تمت معه، لم يحدث على الإطلاق أنه أتى على هذه الواقعة من قريب أو بعيد». وأن أحمد عرابي اختلق هذه الأسطورة، لأنه وهو يجلس على المقهى بميدان الأوبرا، كان الناس تبصق في وجهه، فعندما رأى هذا الهجوم، اختلق هذه الواقعة أمام هذا الهجوم الشنيع الذي تعرض له.
ويفسر البعض أن هذا الهجوم الذي تعرض له أحمد عرابي قبل يوليو 1952 كان مجاملة لأسرة محمد علي باشا، لأن «هوجة عرابي» كان لها نتائج مهمة في تاريخ مصر منها: إقرار الدستور، وتفعيل دور مجلس النواب، والسماح للجنود والضباط المصريين بالترقي وشغل المناصب العليا بالجيش أسوة بالأتراك والشراكسة.
بينما يرى البعض الآخر أن انتصار دولة يوليو لأحمد عرابي ورد الاعتبار له، وتصويره على أنه بطل قومي يأتي في إطار الرمزية لدور الجيش في قيادة حركة النضال الوطني، وهو ما تجسد في 23 يوليو/تموز 1952، وفي هذا السياق أيضاً٠ يأتي كره الضباط الأحرار لسعد زغلول.
لماذا يكرهون سعد؟
يرى الكاتب الصحفي «عبد العظيم حماد» في مقاله المنشور في صحيفة الشروق المصرية بتاريخ 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2018 بعنوان «في ذكراها المئوية: لماذا كره رجال يوليو ثورة 1919؟»، أن: النسخة الفاشية من الفكر الوطني هي السبب الحقيقي البعيد والعميق لكراهية رجال يوليو 1952 لثورة 1919 وزعمائها، وتراثها، حيث اعتبر رجال يوليو أنفسهم الأقدر على تحقيق الاستقلال الوطني، وإجلاء الاحتلال البريطاني، وهو ما فشلت قيادات 1919 في تحقيقه، وما فشل فيه حزب الوفد المنبثق عن الثورة، على الرغم من الإنجازات المهمة جداً التي تحققت على صعيد القضية الوطنية وأهمها: إلغاء الحماية البريطانية، والاعتراف بمصر دولة مستقلة، ثم معاهدة 1936 التي حصرت الوجود العسكري البريطاني في قاعدة قناة السويس لمدة 20 عاماً، وكذلك إلغاء الامتيازات الأجنبية ونظام القضاء المختلط المترتب عليها.
ويرى حماد أن الضباط الوطنيين لم يأخذوا في اعتبارهم أن تغير موازين القوى الدولية بعد الحرب العالمية الثانية كان له الفضل الأكبر في تحقيق أهداف حركات التحرر الوطني على مستوى العالم كله تقريباً، وهو ما لم يكن متاحاً لقادة ثورة 1919، ومن ثَمَّ يُحسب لهم لا عليهم ما تحقق من مكتسبات وطنية، كان من بينها تمصير قيادة الجيش والسماح لأبناء الموظفين وصغار الملاك والتجار بالانضمام إلى سلك الضباط، وقد كان أبناء هذه الشريحة هم الذين خرج من صفوفهم ضباط يوليو 1952.
وقد تجلت كراهية الضباط الأحرار لثورة 1919، في ميثاق العمل الوطني الذي صدر عام 1962، حيث رأى واضعوه أن ثورة 1919 فشلت في تحقيق أهداف هذا النضال، وأرجعوا هذا الفشل إلى سببين رئيسيين، الأول هو تفرغ الأحزاب التي انبثقت عنها للصراع على كراسي الحكم، والثاني هو أن قادتها لم ينظروا خارج حدود مصر، أي أنهم رفضوا قيادة المشروع القومي العربي للوحدة والاستقلال.
بينما يرى الكاتب الصحفي «صلاح عيسى» في كتابه «الثورة العرابية» أن كثيرين رأوا أن تمجيد ثورة يوليو وأبطالها يعني التشويه والمسخ الكامل للمراحل السابقة عليها، ولم يلتفتوا إلى أنهم بعملهم هذا قد مسخوا كفاح الشعب المصري نفسه مسخاً كاملاً، وأدى هذا إلى أن الأجيال الجديدة من شباب مصر، والتي تفتح وعيها بعد يوليو 1952 وجدت نفسها في مجتمع بلا تاريخ وكأن مصر لم تولد إلا في صباح 23 يوليو/تموز 1952. وكان التركيز الأساسي في الهجوم على الحلقة السابقة مباشرة لثورة 1952 وهي ثورة 1919 وما نتج عنها من اتجاهات فكرية في الحركة الوطنية.
واليوم يتكرر المشهد ذاته، حيث إن رجال 30 يونيو/حزيران 2013 يهاجمون ثورة يناير 2011 بنفس شراسة وضراوة هجوم دولة يوليو على ثورة 1919، لأنها الحلقة التاريخية السابقة لهم مباشرة.