إن الناظر في خريطة الدول العربية المسلمة الآن يلاحظ أن غالبية هذه الدول تقع شرق المتوسط وجنوبه، وصولًا إلى سواحل الأطلسي غربًا، إلا أنها لم تتجاوز هذا النطاق إلى الشمال أو الشمال الغربي لسواحل البحر الأبيض إلا في حالة الأندلس التاريخية، ورغم إسلام أمم كثيرة من القرن الهجري الأول إلا أن أهلها لم يستعربوا، فلماذا استعربت أقطار واحتفظت أخرى بلغاتها رغم اعتناق أهل هذه الأقطار جميعًا للإسلام؟

يتطلب الأمر قبل التوضيح أن نُلقي نظرة على جغرافية اللغة العربية قبل الإسلام، فاللغة العربية حيث يتواجد العرب محصورة في جزيرة العرب وما يليها من المناطق المجاورة لبادية الشام على شكل قوس يمتد من أيلة وجنوب فلسطين باتجاه الشرق والشمال الشرقي للبلاد، إلى العراق على الفرات الأوسط والأسفل وأجزاء من الجزيرة الفراتية[1]، كما تواجدت القبائل العربية في شبه جزيرة سيناء بكثرة وما بعدها في صحراء مصر الشرقية.

وبعد ظهور الإسلام وانتشار حركة الفتوحات منذ عهد الخلفاء الراشدين، انتشرت القبائل العربية في الأقطار المفتوحة حديثًا واستقرت بها، فالشام والعراق ومصر والمغرب والأندلس لم تكن أقطارًا عربية، فمصر فيها الأقباط، والشام والعراق أهلها سُريان وكِلدان وأنباط ويهود ويونانيين، وأهل المغرب من البربر واليونان والوندال، فلما تم الفتح وغلب لسان العرب المهاجرين لهذه الأقطار على لسان أهلها أصبحوا عربًا[2]، فالعامل الأول والرئيسي للاستعراب هو وجود عرب في الأقطار التي ستُستَعرَب، فبدون عرب لا تستعرب الأمم الأعجمية، وتظل العربية لغة الدين التي تُجاور اللسان الأصلي لسكان القطر المفتوح.


انتشار العربية خارج جزيرة العرب

وللتدليل على فكرة أن وجود عرب هو العامل الأول في عملية التعريب نضرب مثالًا بمصر؛ فقد استقر بها بعد الفتح الإسلامي ستون قبيلة من القبائل العدنانية وبطونها، ومائة واثنتان وسبعون قبيلة من القبائل القحطانية وبطونها[3]، ومع هذه القبائل الوافدة نفذت العربية إلى مواطنها الجديدة متغلغلة في الحضر والبوادي والسواحل والريف والجبال، كما انتقلت القبائل بالمئات بلهجاتها المختلفة إلى الأقطار المحيطة بشبه الجزيرة، فظهرت بعد تمازج هذه القبائل بسكان البلاد الأصليين ظهور اللهجات العربية المختلفة التي هي مزيج من اللهجة المحلية التي سادت في هذه الأقطار قبل الفتح ولهجات أهل القبائل التي سكنت القطر بعد الفتح؛ لذا فحتى الآن نجد لهجات محلية كثيرة في البلد العربي الواحد نتيجة لهذا العامل، ويعتبر هذا على المستوى الشعبي أو قاعدة المجتمع.

أما على مستوى الدولة، فمنذ استقرار الإسلام في الأقطار التي فتحها، انتصرت العربية على اللغات الأجنبية المفروضة على شعوب المنطقة، ولم تجد أدنى مشقة في هزيمة هذه اللغات، فمثلًا لم تصمد اليونانية التي استأثرت بالمجال الثقافي في مصر مدة 6 قرون قبل الإسلام أمام العربية[4] في قرنها الأول، فلم تبدأ حركة التعريب من الدولة بعد الفتح، ولكن بعد اطمئنان الشعوب للدين الجديد، فتوجه الناس من تلقاء أنفسهم لتعلم لغة دينهم.

واللافت للنظر أن هذه الشعوب لم تجمع بين لغاتها القومية في الحياة العادية والعربية لغة الدين الجديد، بل هجرت لسانها واتجهت للعربية فأصبحت لغة الدين والشعب والدولة والعلم فيما بعد؛ ويعود هذا الأمر للعامل الثاني وهو جلال القرآن ونفوذ الدين إلى قلوب معتنقيه الجُدد بكل سهولة ورضى، فأقبلوا على العربية بسهولة.

أما العامل الثالث، فهو سلطة الدولة التي سهّلت من انتشار العربية في هذه الأقطار بتعريب الدواوين وجعل العربية هي اللغة الرسمية في كل ما يخص شؤون الدولة والإدارة.

فهنا عوامل ثلاثة، لا بد أن تجتمع معًا للتأسيس لعملية التعريب وهي: اختلاط العرب بأهل الأقطار المفتوحة، اعتناق الإسلام، والسلطة الحاكمة التي تُعرب شؤون الدولة، وإن الرأي الذي يقول بأن تعريب الدولة هو أمر كاف لتعريب الشعوب التي تعيش تحت السلطة العربية أو المتعربة هو رأي تنفيه التجربة التاريخية، فدولة الأنباط العربية كانت لغتها الرسمية اللغة الآرامية وكان شعبها عربي اللسان، ودولة السلاجقة التي حكمها الأتراك كانت لغتها الرسمية اللغة الفارسية وعاش في كنفها أقوام بألسن مختلفة، وظل كل قوم من هذه الأقوام يتكلم لغته.

أما عن الأمم التي أسلمت ولم تستعرب [وهم أكثر من الذين استعربوا]، فلم تجتمع عليهم عناصر التعريب الثلاثة، واقتصر الأمر على سلطة الدين على قلوبهم دون سلطة العربية ثقافة ولغة، مع تأثر بنية لغاتهم باللغة العربية وتبنيهم الخط العربي لكتابة لغاتهم، ولعل أشهر هذه الأمم: الأتراك، والفرس، والهنود، والملايو، والأفغان، والتتر، والأكراد، والمغول[5].

وقد استأثر الأتراك على طوال تاريخ الحُكم الإسلامي بموقع جغرافي متميز، واستطاعوا بالانطلاق من الأناضول تأسيس دولتين كبيرتين وهما دولة سلاجقة الأناضول والدولة العثمانية، ورغم حيازة سلاطين العثمانيين منصب الخلافة فإن اللغة العربية لم تصعد لتكون لغة الدولة، أو لم يتخذها أتراك الأناضول بديلًا عن لغتهم لعدم توافر عوامل التعريب الثلاثة في البيئة الأناضولية، ونجد العربية من جهة أخرى حافظت على نفسها كلغة للتعليم سواء في دولة السلاجقة أو دولة العثمانيين أمام اللغة التركية التي تطورت بشكل كبير خاصة في حقبة العثمانيين، لتأخذ مكان العربية في عقود الدولة اﻷخيرة.


تعريب وتتريك الدولة: من السلاجقة إلى العُثمانيين

مع نهايات القرن الحادي عشر وعلى إثر معركة «ملاذگرد» بين الدولة السلجوقية والدولة البيزنطية، هاجرت قبائل الأوغوز التركية من إيران إلى الأناضول، وهي الهجرة التي شكلت نقطة ارتكاز في تحويل الأناضول لمنطقة تركية ينتشر فيها اللغة والثقافة الفارسية في نفس الوقت؛ فكان لعيش القبائل التركية في إيران قبل هجرتهم للأناضول أثر كبير في تشبعهم باللغة والثقافة الفارسية، وكان أن اتخذت دولة السلاجقة العُظمى اللغة الفارسية لغة رسمية لكتابة الفرمانات والوثائق، وأصبحت في نفس الوقت لغة تدوين العلوم والفنون.

وقد انتقل هذا التقليد إلى الأناضول بعد هجرة قبائل الأوغوز إليها وتأسيس دولة سلاجقة الأناضول (1077-1308)، ففي هذه الفترة شهد الأناضول تطورًا علميًا وفنيًا كبيرًا تم تدوينه بالفارسية والعربية، فاللغة العربية للتعليم والأمور الشرعية، واللغة الفارسية في المعاملات الداخلية وأمور الديوان والقصر والأعمال الأدبية، أما اللغة التركية، فكان يتم استخدامها في الجيش والحديث مع الشعب.(6)

أما على مستوى الدولة، فنجد ترددًا في جعل لغة الديوان والقصر ما بين اللغة الفارسية واللغة العربية، ففي دولة السلاجقة العُظمى اعتمد الوزير أبو النصر الكُندري (ت 1064) اللغة الفارسية كلغة للديوان، إلا أن «نظام الملك» (ت 1092) غيَّر لغة الديوان إلى العربية، كما قام الوزير صاحب عطا فخر الدين (ت 1288) فترة دولة سلاجقة الأناضول بتحويل لغة الديوان من العربية للفارسية، لينتهي الأمر مع زوال شمس دولة سلاجقة الأناضول وظهور فترة الإمارات بإصدار فرمان بواسطة الأمير محمد القرماني عام 1277 ينص على:

يُمنع الحديث بغير اللغة التركية في الديوان والقصر والمجلس والزوايا [زوايا الصوفية] والميدان.

يدل هذا الفرمان على ابتداء اكتساب التركية في الأناضول أهميتها حتى وإن كان على مستوى الحديث، وإن أمر استبدال لغة الديوان بين العربية والفارسية يمكن فهمه من زاوية أن السلاجقة أسلموا بعد دخولهم لإيران، حيث اختلطوا بالثقافة واللغة الفارسية مباشرة بينما اختلطوا بالعربية من خلال اللغة والثقافة الفارسية، وهكذا رأى السلاجقة العربية مثل الإيرانيين أن العربية لغة الدين والعلم، و رأوا الفارسية كلغة للدولة وللكتابة.

وبعد سقوط دولة السلاجقة عاشت الأناضول فترة توسطت بين السلاجقة والعثمانيين عُرفت باسم «فترة الإمارات»، وهي فترة اتسمت بحكم مجموعة من القبائل للأناضول على هيئة إمارات مستقلة، كانت فترة صعود للغة التركية كلغة لشؤون الحكم وتدوين العلوم ومنها انتقل الأمر إلى الدولة العثمانية، فكانت اللغة التركية العثمانية هي لغة الدواوين والمراسلات وكتابة الأعمال الأدبية والعلمية طوال قرون الدولة العثمانية، وكان بجانبها الفارسية كلغة رئيسية للأدب حتى القرن السادس عشر، والعربية كلغة رئيسية للتدريس في المدارس حتى القرن التاسع عشر، وشكلت تلك الألسن الثلاث أدوات الثقافة العثمانية على امتداد جغرافيتها.

وعادة ما يتم الحديث عن أول محاولة لتعريب الدولة العثمانية في إطار تقلد العثمانيين منصب الخلافة منذ القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي في عهد السلطان سليم الأول، إلا أن هذا الكلام المشاع لا يوجد عليه إثبات يؤكد أن السلطان فكّر في هذه القضية، والذي بين أيدينا ويخص قضية التعريب هو كلام للسلطان عبدالحميد [نتحدث عنه لاحقًا]، على أن جعل اللغة العربية لغة الديوان والقصر كان من شأنه أن يرفع العرب أو الذين تعلموا العربية إلى المناصب الإدارية والكتابية في الدولة، وكان على كل من يرغب في العمل فيما يخص شؤون الدولة أن يتعلم العربية، إلا أنها لم تكن لتُعرب الشعوب التي تعيش تحت حكم الدولة.

أما إذا نظرنا إلى خريطة انتشار التركية العثمانية والعربية والفارسية في القرون العثمانية فنجد أنها تركزت في الأناضول والبلقان بشكل رئيسي كلغات للعلوم والفنون في هذه الرقعة الجغرافية الكبيرة، ومع دخول الإسلام مصاحبًا للتركية العثمانية لغة الفاتحين الجدد؛ امتدت رقعة الحرف العربي إلى اليونان، وبلغاريا، وألبانيا، والبوسنة، وبولونيا لأول مرة في تاريخ هذه المنطقة، وحتى نهاية القرن السابع عشر كانت الحروف العربية قد انتشرت في هذه المناطق، بل وتبنت اللغتان البوسنوية والألبانية حرف القرآن لكتابة الأعمال العلمية والأدبية في فترة امتدت حتى القرن العشرين عندما تم إلغاء كتابة البوسنوية والألبانية بالحرف العربي لصالح الحرف اللاتيني[7].

وإذا كان حضور الألسن الثلاثة في الفضاء الإداري والعلمي تقليدًا استمر طوال فترة حكم الدولة، إلا أن القرن التاسع عشر حمل معه تغيرًا في النظر إلى هوية الدولة من زاوية النخبة الحاكمة، فمع صعود فترة التنظيمات وتوسع حركة التغريب في نظم وأفكار وقوانين الدولة، بدأت هذه النخبة منذ منتصف هذا القرن على الأقل أن تنظر للغة التركية على أنها اللغة الرسمية للبلاد، وذلك قبل اعتماد هذا الأمر بنص واضح في المادة الثامنة عشرة من دستور 1876[8]؛ الأمر الذي سبب اعتراضات من القوميات غير التركية في مجلس الأمة العثماني قبل أن يتم حله.

أصبحت اللغة التركية عاملًا من عوامل الولاء للدولة، فظهر تأثير هذا الأمر بشكل واضح على ملامح الدولة التعليمية والوظيفية، فمثلًا في عام 1856 قرر مجلس المعارف [وهي مؤسسة مسؤولة عن أمور التعليم] إرسال مجموعة من المعلمين [من إسطنبول] لتعليم رعايا الدولة العثمانية المسيحيين الذين يقيمون في باريس اللغة التركية[9]، كما قررت الدولة عام 1874 فتح فرع في سوريا لمؤسسة «دار المعلمين» المسؤولة عن تأهيل المُعلمين للتدريس، وكان من أهدافها الرئيسية تخريج جيل من المعلمين قادر على تعليم التركية لغة الدولة الرسمية، ووصل الأمر أحيانًا إلى فصل المعلمين من وظيفتهم بسبب عدم معرفتهم باللغة الرسمية واستبدالهم بأشخاص يعرفون التركية، كما حدث في بيروت عام 1875.

أصبحت التركية لغة تدريس المواد التعليمية وأول ما يتم تعليمه للأولاد في المدارس في كل مدن الدولة[10]، كما تم في عهد الوالي أحمد راسم باشا في ليبيا عام 1881 تغيير لغة الكتابة في المسائل المتعلقة بأقضية الولاية من اللغة العربية إلى اللغة التركية[11].

أما عن فكرة التعريب في عهد السلطان عبد الحميد فقد دوَّن طبيب السلطان الخاص في مذكراته أن السلطان أخبره بأنه تمنى أن تكون اللغة العربية اللغة الرسمية للدولة من قرونها السابقة، وأنه اقترح على خير الدين باشا التونسي أن تكون العربية هي لغة الدولة الرسمية، إلا أن سعيد باشا، رئيس الكُتاب، اعترض على الأمر وقال إنه لو طُبق فلن يبقى للهوية التركية شيء في الدولة، الأمر الذي استنكره السلطان، وقال بأن تعريب الدولة سيزيد ارتباط الدولة بالعرب على أقل تقدير[12]، إلا أن هذه الأمنية لم تدخل حيز التنفيذ طوال فترة حكم السلطان، واستمرت سياسات النظر للغة التركية على أنها لغة الدولة الرسمية حتى نهاية عُمر الدولة،وصولًا إلى إلغاء تدريس العربية والفارسية في المدارس بشكل تام بعد سقوط الدولة وقيام الجمهورية التركية على أنقاضها.

المراجع
  1. التكون التاريخي للأمة العربية دراسة في الهوية والوعي، عبد العزيز الدوري، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الخامسة، 2009، ص 58
  2. العرب قبل الإسلام، جرجي زيدان، مراجعة د. حسين مؤنس،دار الهلال، ص 39.
  3. لغتنا والحياة، عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، 1991، ص 63
  4. المرجع السابق، ص 60 – 61
  5. انتشار الخط العربي في العالم الشرقي والعالم الغربي، عبد الفتاح عبادة، مطبعة هندية بالموسكي، 1951،ص32
  6. Mustafa Özcan, “Selçuklular ve Beylikler Devrinde Türk Dili” in “Türkler Ansiklopedisi”, Cilt 7 Orta Çağlar, Editör; Hasan Celal Güzel /Prof.Dr. Kemal Çiçek/ Prof.Dr. Salim Koca, Yeni Türkiye Yayınları, 2002, Ankara, Sayfa 906
  7. الثقافة الألبانية في الأبجدية العربية، محمد موفاكو، سلسلة عالم المعرفة، العدد 68، الكويت، 1983، ص 6
  8. Kamal Soleimani, Islam and Competing Nationalisms in the Middle East,New York, Palgrave Macmillan, 2016, p.118
  9. Ibid, p.110
  10. Ibid, p.120
  11. المنهل العذب تاريخ طرابلس الغرب، أحمد النائب، الجزء الثاني، الطبعة الأولى، 1961، القاهرة، ص 28
  12. Atıf Hüseyin Bey, Sultan II. Abdülhamid’in Sürgün Günleri, haz. M. Metin Hülagü, İstanbul, 2013, s. 280-281