لماذا لا ننسى الأندلس؟
كان البلاط المغاربي آية في الزخرف والعظمة، وقد زيّنته الفسيفساء وغلب عليه اللون الأزرق الأندلسي الشهير الذي ينشر الراحة بين صفوف المنتظرين، إلا أن ضيوف السلطان كانوا أبعد ما يكونون عن الهدوء والنظر في الروعة والزخارف، وقد خيّم عليهم التوتر والترقب بل الفزع مما هو آت.
ودوّى النداء بدخول السلطان «أبو يوسف يعقوب المريني»، فقام الحضور احترامًا لهيبته التي عمّت المكان، حتى عبر بأذهان الجميع فجأة اسمه الشهير «خليفة الموحدين يعقوب المنصور صاحب السلطة على البلاد من حدود مصر إلى عمق الأندلس»، وكأن منصور الموحدين بُعث من جديد أمامهم، إلا أن إشارة السلطان لهم بالجلوس انتزعتهم بشكل عنيف من أفكار الماضي إلى بلاط الحاضر المهيب، فاتخذوا مجالسهم على الأثر إلا واحدًا منهم ترك الوفد الأندلسي ووقف أمام العرش وانطلق، وقد غلبته الدموع فهتف:
وهنا قاطعه السلطان وقد قام عن عرشه صائحًا: «لبيك… لبيك».
أندلسنا
إن موقف سلطان المغرب وفعله الشهير بعد ذلك باستنقاذ أكبر قدر ممكن من الكتب الأندلسية يتخذ عنوانًا لما هو مستقر في وجداننا قرنًا بعد قرن، واليوم بعد مرور خمسمائة وثلاثين عامًا على انهيار غرناطة، لا يزال الجرح عميقًا غير مندمل، وقد تنازعته الأهواء والمصالح ومختلف المرجعيات، وانطلقت فيه الألسنة بالافتراء على أمة كاملة كان انهيارها بداية استعمار أوروبي طويل، بعد زوال السد أمام الضربات المتوالية شرقًا في الشام ومصر، وغربًا بالأندلس.
إن شبه الجزيرة الإيبيرية ليس مجرد أرض دخلها الإسلام ثم تراجع، ولا كانت حربًا طويلة انتهت بهزيمة نكراء، إنما هو تاريخ أمة حملت من العلم والحضارة الكفاية التي جعلتها مقر خلافة مهيبة تنازعت مع أسرتين متأصلتين من قريش على إمامة المسلمين العظمى.
ولقد ذكر لنا التاريخ هجرتين من العرب إلى الطرف الأقصى من الغرب الأوروبي، يتمثلان في اثنى عشر ألف مقاتل دخل بهم موسى بن نصير ليتتبع فتوح تلميذه طارق بن زياد بعد هزيمة القوط واندثارهم في موقعة «وادي لكة» الشهيرة.
وأمّا الهجرة الثانية، فكانت بعد ذلك، بما يزيد قليلًا على عقدين من الزمان، حينما هرب جيش بلج بن بشر القشيري من المغرب بعد هزيمته ولاذ بالأندلس مُنتظرًا إمدادات الخليفة هشام بن عبد الملك. فبلغ العرب بهم نيفًا وعشرين ألفًا في جزيرة عامرة بالسكان من أهلها المقيمين فيها قرنًا بعد آخر.
لكن لم يكد يمضي على تلك الأحداث عشر سنوات حتى جاء فتى هارب يحلم بدولة تناطح الأمم شرقًا وغربًا، وكان سعيه مُنفردًا إلا أنه تحقق ورغم تتابع غزوات البرابرة والإفرنج وفايكنج الشمال المرعبين على دولة الداخل الأموية، فإنها لم تترك على جبينها أثرًا يُذكر، ولكن تتابعت عليها السنون فصار الجزء إلى واحد وأصبحت الإمارة خلافة عُظمى، والمسجد جامعة كبرى، وتمددت العاصمة إلى ما يزيد على خمسمائة ألف بيت، وخمس وعشرين ضاحية، وأكثر من ثلاثمائة حمام يحيطون بالخليفة من بني أمية في عاصمته وحدها، وقد أصبحت دولته أمة امتد عمقها من برشلونة وجبال أشتورياس إلى ضفاف الشاطئ المغربي المقابل، وبعد ذلك توالت الأحداث التي نعرفها جميعًا.
بين عاصمتين
إن الناظر في عاصمة الخلافة المصرية ذلك النهار، ليعلم تمامًا الهمسات التي أخذت تجري في القصر، وأن الأمر في القاهرة يقترب كثيرًا مما يحدث بعاصمة الأمويين في قرطبة المنافسة، حيث كانت الأخبار بأن حاجب الدولة قد حجر على الخليفة الصغير «هشام بن الحكم» وألزمه قصر أجداده في الزهراء وصار الحاكم المطلق على الخلافة الأندلسية، حتى بنى لنفسه عاصمة جديدة وضرب النقود باسمه.
والأمر في مصر لا يختلف عن ذلك كثيرًا منذ أجلس «برجوان» كبير الصقالبة الخليفة الصغير «منصور» وأجلسه على عرش آبائه ونادى به في القاهرة أميرًا للمؤمنين ولقّبه بالحاكم بأمر الله. ثم حبسه بالقصر ومضى يحكم في عموم الدولة الشاسعة بما يرى ويدبر. حتى لقد خاطب برجوان خليفته ذا الخمسة عشر عامًا وهو جالس على حصانه، وتكاد قدمه تدخل في وجه الخليفة الصغير. فيا ترى متى يمنع الصبي من الخروج أو يخرج بلباس النساء كما جرى على خليفة الأندلس من قبله؟
كان التزامن واضحًا، ففي الأندلس خليفة صبي تُدبِّر أمه المُلك مع حاجبه ويديران الأمر من تحت عمامته، وفي القاهرة تُدبِّر أخت الخليفة الصبي مع برجوان أمور الدولة من تحت عمامة المعز التي تزين جبهته بالياقوت البراق. إلا أن شمس ذلك النهار كانت تُؤذِّن بالاختلاف عندما دخل «برجوان» على الخليفة الفتى قاعته ثم ارتفع صوت الضجيج من الداخل وخرج غلام برجوان وقد أصفر وجهه من شدة الفزع وهو يصيح: قُتل مولاي! وانفتح الباب عن صبي في الخامسة عشرة أمامه بحر من دم وزيره وقد أعلن أن «برجوان» كان مجرد عبد لديه، وأن الخليفة وإن كان صغيرًا فهو قادر على محو كل من يعترض طريقه قتلًا أو حرقًا، وبدا في آخر الأمر أن الخليفة المصري الصغير تعلم الدرس جيدًا من نظيره الأندلسي المغلوب على أمره.
حرب يريدها الرب!
كان المجمع في كليرمونت بفرنسا مزدحمًا على آخره بالأمراء والنبلاء الذين لبّوا دعوة البابا بترقب وسط التكهنات بخطبته، إلا أن أوربان لم يتأخر عليهم وأعلن أن الأرض التي نشأ عليها المسيح لا بد من أن تكون بحوزتهم، ووعدهم بأنهار اللبن والعسل التي ذكرها الكتاب المقدس، وبينما يهتف الجميع بأن الرب يريدها وهم يرتدون شارات الصليب، أصدر البابا تحريمًا على الصليبيين في قشتالة وليون ونافار من الخروج إلى فلسطين، بل أمرهم بحرب أخرى يريدها الرب على الأمة التي قامت دولتها في الجزيرة، فعلى الأندلس تكون حربهم بعدما هلك «المنصور بن أبي عامر» أخيرًا وانقطع سبت الخلفاء من بني أمية.
وقام فرناندو من قشتالة، فضرب الطوائف ببعضها، وأخذ منهم الجزية ذهبًا وفضة يسوقونها إليه عامًا بعد آخر ويدعون أن مصلحة الأمة تقتضي مهادنة الرومي حتى يتفرغوا لحرب بعضهم، فيُوحِّد أحدهم الأندلس، ومن ثَمَّ يُقاتل الرومي ويُعيِد سلطان المسلمين إلى ما كان عليه.
ثمانون عامًا مضت وهم يتقاتلون لتلك الوحدة المزعومة، وقد ازدادت فرقتهم أيما زيادة، وما كان حكّامهم إلا شاكلة مختارة، فهم ما بين «محبوب، وبربري مجلوب، ومجند غير محبوب، وأحمق ليس في السراة بمحسوب»، وقد خضعوا لفرناندو وابنه ألفونسو، إلا أنهم أنفوا أن يلينوا لبعضهم البعض. وما إن سقطت طليطلة (واسطة العقد) بيد عدوهم، حتى قاموا فزعين من نومة طويلة يبحثون عن الحل في صحراء المغرب، وعلى الأثر دارت رحى حروب طويلة بين المرابطين والموحدين من خلفهم دفاعًا عن غرب تلك الأمة، التي ضُرب مشرقها تحت نير احتلال صليبي أذاقه الذل والهوان، وصار الدم فيه إلى الركب بالمسجد الأقصى.
كان ذلك هو افتتاح الخطاب الذي أرسله الملك الفرنسي لويس التاسع إلى حفيد صلاح الدين الملك الصالح سلطان مصر وهو مستقر في أسطوله أمام ساحل دمياط، مُحذرًا من مد فرنسي كاسح يأخذ مصر كلها ويلحق بها الشام كما سقطت من قبل برشلونة وسرقسطة وطليطلة، فالمنتصر في الأندلس سينتصر حتمًا في مصر أو هكذا ظن الملك الفرنسي. وبسقوط مصر تنكشف فلسطين كما ينكشف المغرب بسقوط الأندلس وهذا يتبع ذاك بطبيعة الأحوال.
إلا أن الفرنسي المتعجرف أخذ الدرس كاملًا بين القيود في دار القاضي ابن لقمان، ولكن رحى تلك الحرب في الشرق والغرب لم يتوقف قط.
حُثوا مَطِيكم
كانت معركة العُقاب أذانًا بتغير توازن القوى في الجزيرة، فلم ينقض بها تقاسم السلطة بين مملكة المسلمين في الأندلس وممالك المسيحيين في الشمال فحسب، بل انهار على إثرها سلطان الموحدين الإمبراطوري في المغرب والأندلس على حد سواء. ويوم دخل فرناندو الثالث قرطبة وأقام القداس في جامعها الشهير ظهرت علامة الخلل الذي لا يُمكن إصلاحه. وكانت بداية تساقط سريع ابتلع ما بعده حتى لم يستطع محمد بن الأحمر حاكم غرناطة أن يوقفه إلا بالتحالف مع العدو ليسقط إشبيلية، وحينما رجع ابن الأحمر إلى غرناطة واستقبلته الجماهير احتفالًا بنصره المزعوم هاتفين: «الغالب»، رد عليهم بقوله: «لا غالب إلا الله». ثم أمر فكانت شعار دولته وعلامة قصوره وطعنة في ضميره لا شفاء لها أبدًا.
إن المتبقي من القصة الشهيرة يعلمه القاصي والداني، فحتى سلطان المرينيين المُنقذ لم يستطع أن يفتدي سوى الكتب التي كانت تُحرَق جهارًا نهارًا في شوارع المنتصرين من مكتبة قرطبة العظيمة وغيرها مما لا يُحصى، وإن ظلت غرناطة لقرنين ونصف يتوافد عليها المهاجرون من سلطان الشمال إلى إمارة الإسلام الباقية في الغرب، حتى بلغ تعداد سكانها زُهاء خمسة ملايين نسمة، إلا أنها رغم تلك الأعداد ما كانت تملك لنفسها قوة تدفع بها إلا استنصار المغرب مرة بعد مرة وإن بلغ تعدادها الملايين من البشر.
وعندما تفكك المغرب وانشغل المماليك في مصر والعثمانيون في أوروبا بحرب بعضهم البعض على إمارة صغيرة، لم يعد هناك من خيل لتدرك الأندلس هذه المرة، فكُتبت سطور النهاية بمعاهدة نصت على الاحترام، إلا أنه سرعان ما ظهر أنها لا تزيد على كونها حبرًا على ورق، أعقبه طغيان الاضطهاد ومحاكم التفتيش وألوان من العذاب لا تُحصى، وصارت الأندلس بكاملها أمة مُستعبدة للمُنتصِر، وقد انتزع منها حقها وأبناءها حتى تربيهم الكنائس، وسُلبت وأموالها طِوال مائة وخمسين عامًا بعد السقوط. ولكن ذلك لم يفت منهم ولا جعلهم ينسون ميراثهم، حتى أتى قرار الطرد، أخيرًا، بحق جميع الموريسكيين ومصادرة كافة أموالهم ونفيهم من بلادهم إلى البحر الواسع ومن خلفه المجهول.
لم يكن سقوط غرناطة في الثاني من يناير/كانون الثاني عام 1492م هو الختام، ولا حتى قرار الطرد في عام 1609م. بل إن الختام الحقيقي لم يُكتب بعد لأن الأندلس ما زالت في ذاكرتنا وضميرنا، وإن توالت الاحتفالات بإسبانيا كل عام في الثاني من يناير بحمل راية الموحدين يوم العُقَاب، فإن العزاء دائمًا وأبدًا أن لا غالب إلا الله.