لِمَ لا تعاني الطيور!
وحده الإنسان من يؤرقه سؤال المعنى. يحاول الهروب منه ليكتشف في النهاية ألا مفر. لا اللذة ولا السلطة ولا النجاح. لا شيء يغني عن المعنى. ودون المعنى، ليس هناك سوى المعاناة.
لِمَ نعاني؟
بين فقد الرمزية وتأثير الوصايا والقيم والمعاني التي تربينا عليها، وبين تحايل للشر وظهوره بمئات الأقنعة. لم يعد القتل والكذب والخداع والإثم شرا، ولم تعد الحقائق بحقائق ولا المعاني كذلك. فُقدت الثقة في كل شيء؛ ما عادت التقاليد والأعراف والمبادئ كافية ليعرف الإنسان ماذا يجب عليه فعله في الحياة. فأصبح الفراغ الوجودي هو النتاج الطبيعي، يلجأ البعض لملأه بالرغبات والشهوات، وآخرون بالتواؤمية وتقليد ما يفعله الآخرون دون أي إرادة أو إدراك، لينكص الفرد في النهاية إلى الحالة البيولوجية البدائية حيث رغيف الخبز وممارسة الجنس ومشاهدة الأفلام التافهة وسماع الأغاني الهابطة هو جل ما يعيش من أجله.
تحولت الحياة إلى حالة من الوجود المؤقت حيث الجهل بالغد، والاعتماد على مستقبل نعلم يقينا أنه لن يكون أقل بؤسا من الماضي والحاضر. بل تحول الماضي المعدوم في نظر البعض إلى غاية يتمنوا أن لو مكثوا فيها إلى الأبد. لم يتبق لنا سوى العبث بعدما انتزع فجاة كل ما كنا نعيش من أجله وما كنا نخطط له طوال حياتنا. ما نود أن نصبح عليه.. أحلامنا وآمالنا، نكتشف في النهاية أنه ليست سوى خيالات لا مجال لها في الواقع.
الأمل الذي يكتشف الشخص كذبه أقسى على الإنسان من غياب الأمل!
كيف أصابنا التبلد؟
إهانة وانكسار وانعدام للقيمة وتسفيه للرأي، تجريدك من كل شيء وتلخيص حياتك في هيئة رقم مخبأ بين قائمة طويلة من الأرقام يُستغنى عنها أي وقت شاءوا.
حدوث التبلد هو رد الفعل المنطقي الوحيد لتكرار مشاهدة المآسي، وتصدُّر سؤال: كيف أحافظ على حياتي وكيف أقضي يومي دونما كوارث ومصائب وجوع وانكسار. طبيعي أن تختفي انفعالات مثل الشفقة والاشمئزاز والخوف والحب والإيمان، وأن تتحول البلادة إلى قوقعة يحيط بها الشخص ذاته في مواجهة موجات الكوارث المتلاحقة، تتحول إلى ميكانيزم دفاعي يوقف إحساس المهانة عن ملاحقة الشخص بعد الخدوش التي أهانت ومزقت روحه فلم يعد له حل سوي غير ذلك، أو الانتحار.
تلك الجروح في الروح تبقى حتى وإن أزيل سبب الانكسار. فعندما يُزال الضغط العقلي فجأة ويتحرر منه الشخص، ينتُج فساد خلقي، ويصبح من الصعب عندها إقناع الشخص أنه ليس من حقه ارتكاب خطأ لأن خطأ قد وقع عليه في السابق. هذا يبرر قدرة التابع على الظلم عندما يتحرر قليلا من قبضة سيده.
البلادة هي رد الفعل السوي على المواقف الغير سوية التي نعيشها، بين البؤس والفقر والقذارة والذل والقهر والإهانة وتحقير الرأي. ثم يُطلب منك أن تكون سويا!
رد الفعل غير السوي إزاء موقف غير سوي هو الاستجابة السوية.
البحث عن المعنى
السخرية سلاح من أسلحة الروح الأخيرة للنضال من أجل البقاء، حين ينفصل الشخص عن ذاته المخنوقة بسموم الواقع؛ ليسخر من الواقع ومن ذاته، ويعتاد ذلك حد الاكتفاء.
وما كان هروبا وقلقنا إلا بحثا عن المعنى.
المعنى هو الضوء النابع من داخلك متغلبا على سواد العدم المتسلل من الخارج، مقاوما رغبته الدائمة في السيطرة على الروح؛ دون معنى ليست هناك قيمة لاستكمال الحياة.
ولكن ما هو معنى الحياة؟ وأين يمكن العثور عليه؟
المعنى ليس نصائح أخلاقية أو تعليما منطقيا، وإنما رؤية الضمير الشخصي المتفرد للأقدار وللظروف والمواقف المختلفة. لست أنت من تسأل الحياة: ما معناك؟ بل هي من تسألك: ماذا ستمنحني من معنى قبل رحيلك؟ ما نتوقعه من الحياة ليس مهما بمقدار ما تتوقعه منا الحياة.
فقدان المعنى هو فقدان للأمل هو انعدام للمستقبل وتعلق بالماضي أي هو الموت.
المعنى أهم من النجاحات الشخصية وتحقيق الذات: فالبؤس يسير في بعد آخر مختلف تماما عن بعد النجاح والفشل. أن تكون ناجحا لا يمنع عنك أن تكون بائسا. يجري أحدهم وراء الشهرة والنجاح ليكتشف في نهاية حياته أنه لم يحقق أي معنى. رجل فقير قد تراه حقيرا بائسا لاعتقادك أنه فاشل لم يحقق في حياته أي نجاح قد يرى المعنى في أبسط الأشياء التي لا تراها ويرحل سعيدا بما عاش من أجله، وتموت أنت مشنوقا بعظمتك الزائفة. المعنى ليس تحقيقا للذات وإنما تجاوز لهذه الذات، حالة من التسامي على الذات وعلى الواقع وإعطاؤه قيمة لا يراها غيرك.
المعنى هو الهدوء والسعادة اللذان يضمان شخصا نظن من رؤيتنا المادية أنه ليس هناك من هو أبأس منه على ظهر الأرض. المعنى هو ما يجعلك ترغب في استكمال الحياة والبحث عن السعادة حين تفقد الثقة في إرادتك لتحقيق اللذة ورغبتك في فرض نفوذك وجمعك للمال وتحقيقك لذاتك. المعنى هو حريتك التي لا يمكن انتزاعها منك؛ قدرتك على اختيار اتجاه معين وخصائص مميزة في ظرف خارج عن إرادتك؛ قرار بعدم السماح لتلك الظروف أن تسلبك من ذاتك لتصبح لعبة في يدها تشكلك كما تشاء. المعنى الذي تمنحه للأشياء لا يستطيع ظرف ولا قدر انتزاعه منك.
المعنى نسبي يختلف من إنسان لآخر ومن يوم لآخر بل ومن ساعة لساعة، وإيجاد المعنى لا يشترط زوال الألم، وإنما يعني أن الإنسان قادر على تحمل المعاناة إذا أعطى لها المعنى. هناك معنى دائما تحت أي ظرف من الظروف.
لا يوجد معنى عالمي للحياة ككل؛ بل معان فريدة لمواقف مختلفة. وتلك المواقف التي يعطيها الجميع نفس المعنى (كشجاعة من يعرض نفسه للخطر لإنقاذ غيره) تسمى بعد ذلك القيم أو المعاني الشمولية التي يتفق عليها المجتمع والإنسانية تجاه مواقف نموذجية. وامتلاك أكبر قد من تلك القيم قد يوفر على الإنسان متاعب اتخاذ القرارات في تلك المواقف. ولكن في النهاية، تلك مواقف نموذجية تختلف بشكل كبير عن المواقف الشخصية التي نمر بها يوميا ونطالَب فيها باتخاذ قرارات. حينها يجب على الضمير التكفل بصنع قيمه الخاصة؛ وذلك هو ما يميز الإنسان.
حتى تلك القيم النموذجية أوشكت على الزوال وترك الإنسان وضميره وحيدان في مواجهة المجهول. المعاني يعثر عليها ولا يمكن إعطاؤها.
معنى الحب
الحب هو التسامي على الذات. التسامي إلى كينونة إنسانية أخرى متفردة لا يمكن استبدالها. وحتى إذا كان الجنس مطروحا كطبيعة بشرية، فإن الحب شرط مسبق على الدوام. الحب هو الطريقة التي يتوصل بها الإنسان إلى الوعي الكامل بكل ما هو كامن داخل شخص آخر، فإذا أطلقت على شخص لقب حبيب ثم اكتشفت منه ما لم تكن تتوقع، فما كان بينكما منذ البداية ما كان حبا بل لم يقترب حتى من ذلك.
الحب هو الضلع الرابع من «مربع النجاة»: الإيمان، والفكر، والفن، والحب. هو المربع الذي يلجأ إليه كل من يسعى إلى التسامي على «الثالوث المأسوي»: الموت، والألم، والإثم. هذا المربع هو انجذاب نحو الكمال.. أن ترى كل ما يحيق بك ليس شيئا في هذا الكون العظيم.. الكثير من الأشياء الرائعة هناك في العالم خارج حجاب المآسي الذي تحيط نفسك به.. أن تعلم أن الله موجود ولم يخلق شيئا إلا لمعنى. أن تهرب إلى ما هو دائم وما هو جميل في ذاته.. تتمسك بما هو أرقى وأبقى من سخافات الواقع البذيء.. أن تتوحد مع شيء آخر غير ذاتك.
الحب يذهب إلى ما هو أبعد من الجسد، يعتمد على وجود المحبوب الروحي الذي لا يختفي بموت الشخص أو غيابه. فصورة المحبوب دائما ما تكون نقية عظيمة حتى بعد موته، يتسامى بها الخيال لتعطي الأمل لشخص بائس فقد معنى الحياة.
الضمير
الحب الذي هو حالة من التسامي يفترض دوما وجود ضمير يقظ للإنسان. الإنسان عبارة عن «كينونة ذات ضمير».
الضمير الإنساني يختلف عن امتناع الإنسان عن الخطأ خوفا من العقاب. تلك الطريقة التي يُربى عليها الأطفال المعتمدة على تلقين القيم والشعارات الفارغة الرنانة تنتزع من الضمير انسانيته وقابليته على التفريق بين الخير والشر في ملايين المواقف التي يمر بها يوميا وتطلب منه اتخاذ قرار.
الضمير ليس أنا عليا تمثل الأخلاق والتقاليد السائدة المتعلمة من الطفولة، فالضمير قد يتعارض مع ذلك؛ قد يعارض التقاليد ومعايير والمجتمع ككل إذا دعت الحاجة لذلك، وإذا رأى المجتمع بأكمله يتجاوز ما يراه هو خطوطا حمراء.
الضمير والسعادة والتدين هم نتيجة لأسباب أخرى وليسوا أهدافا في حد ذاتهم. ولا ينبغي أن يتحولوا إلى ذلك. فإذا كان هدفنا امتلاك ضمير حي فإننا لا نعود جديرين بامتلاكه، وهذه الحقيقة بالتحديد هي ما جعل منا مرائين متظاهرين بالصلاح نحاول إظهار ما ليس فينا وما لا نمتلك. وهذا يتجلى أوضح في امتلاك صحة جيدة. فإذا جعلنا من الصحة محور اهتمامنا فإننا نصبح مرضى بمرض «توهم المرض» أو ما يعرف بـ «hypochondriasis».
نجيب محفوظ
معنى المسئولية
كلما كلف الإنسان بمهمة توجب عليه إنجازها لن يقوم بها غيره، فإن إنجازها هو ما يشعره بالسعادة وبالقيمة والمعنى.
الفراغ يؤدي إلى الملل، إلى الكآبة، إلى فقدان المعنى، إلى الهروب والإدمان.. ثم إلى الفراغ والملل.
يقال إن الزواج والإنجاب يزيدان من فرص النجاح، لا لشيء إلا لأنهما يضعان مسئولية على عاتق الشخص يعلم يقينا انعدام من يقوم بها عنه. تتولد لديه الحافزية للإنجاز، يعثر على معنى لوجوده. تتحول العوائق والمصائب من قلاع تحطم أحلامه فيتسمر عندها ليبكي، إلى صخور تتحطم عليها مخاوفه وعجزه.
المسئولية تخلق ذلك التوتر والقلق بين ما أنجزته وما لا يزال عليك أن تنجزه.. بين ما أكون عليه وما ينبغي علي أن أكونه.. بين الواقع والمثال. وهو أمر سوي تماما يمنح الحياة الحرارة اللازمة والمعنى الكاف للمواصلة.
من الخصائص المميزة للإنسان قدرته على الحياة عن طريق التطلع للأمام، حين يتحول المستقبل إلى دافع يحثه على الاستمرار.
معنى الموت
أن تموت لهدف هو ما يعطي حياتك معنى. أحمق من يحارب شخصا يصنع الموت لحياته المعنى.
أعمق المعاني تجدها عند أكثر البشر معاناة، نضجت عواطفهم وأفكارههم ونفذت حيل الحياة في استثارة يأسهم بعدما فهموها.
الموت والألم من دوافع العودة إلى التفكير في احتياجات الروح التفكير في الإيمان والحب.. بعيدا عن ألم وبؤس الواقع والحياة. حزنك على من مات من أطفالك وبقائك أنت على قيد الحياة، يعلمك أن هناك فرصة للتكفير عن أخطائك لتجتمع بهم في الجنة في النهاية. إذا فقدت شخصا عزيزا وجعلك الحزن تتوقف عن الحياة فلتتخيل وقتها لو كنت أنت من مات وتركه وحيدا، هل سترضى له أن يعيش هكذا؟! أليس من الأفضل لك أن تقابله بعد موتك مبتسما لتخبره أنك لم تنس أبدا ذكراه؛ بل تغيرت بعد رحيله وفعلت الكثير من الخير نسبته له جميعا. من نحب لن يموت أبدا.. تبقى ذكراه نقية، والتي قد لا تبقى كذلك إن استمر هو في الحياة.
تخيل نفسك على سرير الموت في نهاية حياتك تحكي لأحفادك مما مررت به من مآسي وكيف تجاوزتها. لحظات الحزن والمعاناة تخبرنا وتعرفنا من نكون وليست لحظات السعادة من يفعل ذلك. إذا أوصلك الحزن إلى المعنى وراء معاناتك، علمت حينها أن التفاؤل الكاذب ليس سوى غشاوة تخفي قيمة الحزن الحقيقية. وفر لحظات الضعف والدموع المنهمرة إلى المعاناة التي لا فرار منها. إذا نظر اليك شخص يهمه أمرك يجب أن يرى كبرياءك في المعاناة لا ذُلَّك وتنكسارك.
انتزاع المعنى
الإنسان الذي يحاول انتزاع معناه هو عظيم رغم كل الإهانات والمحقرات التي تحاول سلبه وتجريده من كل ما تبقى من قيم الكبرياء والثقة والاعتزاز، ليصبح رقما في قائمة العبيد الطويلة يتخلص منهم عندما تستنزف طاقتهم في آلة المادية العملاقة التي تدعس بأقدامها من يتوقف لالتقاط أنفاسه، ويصبح فريسة وضحية للامتثال لما يطلب منه الآخرون.
أنت متفرد في جوهرك ووجودك. حياتك فريدة بما تتخذه من قرارات تميز انحيازك وتعكس حريتك الداخلية. يقول حكيم يهودي عاش قبل ألفي عام: «إذا لم أفعلها أنا فمن يفعلها؟ وإذا لم أفعلها في الحال، فمتى أفعلها؟ ولكن إذا فعلتها من أجل نفسي فقط، فماذا أكون؟». تفرد الذات وتفرد اللحظة، مع التسامي على الذات: فإذا فعلتها من أجل نفسي فقط، لن أكون إنسانا بحق.
كون الإنسان إنسانا لانه يتوجه لشئ آخر غير ذاته غير نفسه. هو صورة الله في الأرض، وليس ترسا للانتاج يحل محل ملايين التروس الأخرى عندما يعلق.
أنت هو أنت وليس المجتمع هو من خلق الشخص الذي أنت عليه. لستَ ضحية للظروف وللبيئة وللمجتمع؛ وإنما نتاج لاختياراتك. ولذا، فمن حقك كإنسان حر قادر على التغيير أن تعاقَب على أخطائك، تقديرا لذاتك ولوجودك ولإنسانيتك، «كل آتيه يوم القيامة فردا».