السبت 12 يوليو 1924

تمام الساعة الـ7 و8 دقائق صباحًا

محطة قطار الإسكندرية تستعدُّ لاستقبال ضيفٍ غير عادي؛ زعيم الأمة سعد زغلول الذي بدأ في طريقه لأداء مهمة غير عادية تجلَّت آثارها في الاحتشاد الهائل للناس داخل المحطة، والهتافات التي راحت تدوِّي كالرعد تهتفُ بحياته وتدعو له بالتوفيق في مهمته الصعبة.

في الواقع، لم تكن تلك الهتافات متعلِّقة بالهدف الذي جاء لأجله سعد ورفاقه إلى المحطة، فلقد حضر بصحبة عُصبة من الوزراء لتقديم التهنئة للملك فؤاد بمناسبة عيد الأضحى، وإنما تعلَّقت بسلسلة المعارك السياسية التي خاضها سعد منذ تولِّيه الوزارة هذا العام عقب نجاح الوفد الساحق في الانتخابات البرلمانية.

بطبيعة الحال، ما إن علم الناس أن زعيم الأمة يقف في حرمِ محطة القطار حتى تكالبت الجماهير من كل حدبٍ وصوب لتحية ذلك المُسن الذي مثَّل كابوسًا للإنجليز طوال السنوات الفائتة.

فجأة تعكَّر ذلك المشهد الشعبي البديع.

فخلال سير سعد وصحبه بمحاذاة القطار لاستقلال عربتهم، وما إن اقترب من عربات الدرجة الأولى حتى باغته شاب من وسط الجماهير، أشهر مسدسًا قديم الطراز ناحيته وأطلق رصاصة أصابت سعد العجوز في ساعده الأيمن، وكانت كفيلة بإسقاطه أرضًا غارقًا في الدماء، همَّ الشاب بإطلاق رصاصة ثانية تُجهز على حياة الزعيم إلى الأبد لكن مجموعة من الحضور انقضُّوا عليه ومنعوه بالقوة، أشبعوه ضربًا حتى كاد يموت لولا تدخُّل رجال الشرطة وانتشاله من بينهم.

ليعود الجميع إلى عربة الدرجة الأولى، وزعيم مصر الراقد جوارها مثخن بالجراح، يلتفُّ حوله كبار رجاله لا يُصدِّقون ما حدث. كان سعدًا أبرز غير المصدِّقين بعدما أيقن خلال السنوات القليلة الفائتة أن شعبيته بلغت عنان السحاب ورفعته إلى مصاف الأنبياء، وطوال طريقه إلى المستشفى ظل يُردِّد: «ما كنت أتوقع أن تقع هذه الجريمة عليَّ من وطني وفي أرض الوطن».

في المستشفى: الزعيم بخير

بالرغم من جسامة المشهد، فإن الأطباء أعلنوا أن إصابة زعيم مصر سطحية لا تستلزم إلا تطبيبًا بسيطًا وبضعة أيام من الراحة، إلا أن الأثر السياسي لتلك الواقعة كان فادحًا.

اهتمَّ الملك فؤاد بالنبأ فور وقوعه، وتعاطفًا مع سعد أمر بإلغاء أي تشريفات كان مقرَّرًا إقامتها في عيد الأضحى، وهو ما دفع زغلول لبعث برقية شُكر إلى الملك من المستشفى.

سريعًا، جرت الواقعة على الألسن ولم تبقَ صحيفة أو مجلس في مقهى أو صالون أدبي أو حزب سياسي إلا ولاكَ أعضاؤه الخبر بألسنتهم، وفحصوه ومحصوه، ومن الأغلبية خرجت بيانات الشجب والتأييد حتى من سياسيين كان بينهم وبين سعد ردحًا من العداء الشديد مثل إسماعيل صدقي باشا بسبب خلافهما على قبول تصريح 28 فبراير وقرار زغلول بإسقاطه في دائرته الانتخابية.

وبالفعل، خرج زغلول من المستشفى يوم 18 يوليو إلى داره، فكتب له الملك فؤاد يقول:

«الحمد لله الذي أذهب عنَّا الحَزَن فأنجاكم وحفظ حياتكم من اعتداء أسفت له أشد الأسف، وإني لمغتبط بتماثلكم للشفاء ويقيني أننا وقد وقفنا أنفسنا لخدمة هذا الوطن العزيز تصحبنا معونة الله وهو خير معين. أرجو أن أراكم قريبًا متمتِّعين بكامل الصحة متأهبين للسفر لتحققوا بحكمتكم وسداد رأيكم ما نبتغيه لتحقيق أماني البلاد إن شاء الله».

من المجرم؟

أثبتت التحقيقات الأولية للشرطة أن الجاني هو شاب في الـ21 من عُمره يُدعى عبد الخالق عبد اللطيف، منتمٍ لمبادئ الحزب الوطني، واعترف بأنه غضب على سعد بسبب إعلانه رغبته في التفاوض مع الإنجليز حول الجلاء، ولهذا فإنه حاول مقابلة سعد عدة مرات قبل سفره المزمع إلى إنجلترا لتهديده وإثنائه عن هذه الخطوة فلم يُوفَّق، فقرر قتله!

وعلى الرغم من أن عبد الخالق اعترف بأنه خطَّط لهذه الجريمة وحده دون تنسيق مع أحد، فإن أصابع اتِّهام عدة أصابت رجال الحزب الوطني، الذين تبنَّوا أجندة متطرفة معادية للوفد ورئيسه منذ سنوات، لم تنفكَّ عن الهجوم على سعد زغلول والانتقاص من قدره ومن نصيب زعامته للأمة.

قبض رجال الشرطة على الشيخ عبد العزيز جاويش القُطب البازر في الحزب الوطني وعلى عددٍ آخر من قيادات الحزب، وربما لو كان زعيم الحزب الوطني محمد فريد حيًّا وقتها لسُجن هو الآخر!

ساهمت هذه الانتقادات المتتالية في تليين موقف الحزب الوطني من سياسة سعد، المنادية بالتفاوض مع الإنجليز بشأن الجلاء وليس القتال معهم، فأعلن نواب الحزب الوطني في البرلمان أنه إذا فُرِض جدلاً وحققت المفاوضات نتيجة طيبة لمصر – وهو ما يؤكدون أنه مستحيل – لكنهم حينها لن يرفضوا نتيجتها.

بخلاف ذلك تشعبت التحقيقات التي قادها حسن نشأت باشا وكيل وزارة الأوقاف، والمعروف بولائه الشديد للملك فؤاد، ولم تُسفر التحقيقات عن شيء يُذكر، وهنا تعالت الهمسات بأن للخديوِ السابق عباس حلمي الثاني يدًا في هذا بسبب ميوله المؤيدة للأتراك والرافضة لأي اتفاق مع الإنجليز، لكن لم تُظهر التحقيقات أي أدلة على ذلك.

كتبت جريدة البلاغ – المحسوبة على التيار الليبرالي – في عددها الـ14 الصادر سنة 1924:

«لا شك في أن هذا الحادث يُشير إلى مساعي بعض الطلبة المصريين ببرلين المتأثرين بسياسة الخديوِ الأسبق الذي اعتاد طعن سعد، هنا لا يستطيع الإنسان أن يمرَّ بهذه النقطة من غير أن يتعرَّض ذهنه للعلائق الوثيقة التي كانت بين الخديوِ وبين البعض من رجال الحزب الوطني».

أما صحيفة الأخبار فكتبت يوم 19 يوليو مقالاً حفل بالهجوم على الحزب الوطني بشكلٍ غير مباشر، قائلة:

«ليس من حقِّ إنسان أن يقضي على غيره، ولم يُولَّ القضاء. وليس من حقِّ إنسان أن يسلب غيره الحياة من غير قصاص. والاغتيال السياسي أشدُّ مقتًا في نظام حكم دستوري قائم على أساس الحرية العامة. هؤلاء السفَّاكون هم أعداء الحرية وأعداء الدستور. وكأنما يحسب هذا الأحمق (يقصد الجاني) أنه مع القليلين من إخوانه هم وحدهم على الحق».

أنهى هذا الجدل الضاري ادِّعاء المتهم الجنون، وحجزه في أحد المستشفيات للعلاج، حيث أقرَّ الأطباء بمرضه فكفَّت الألسنة عنه وعمَّا وراء جريمته نهائيًّا، لكن بقي وميض نارها يشتعل تحت الرماد.

ما وراء الجريمة: الصراع بين الخديوِ والإمام

محاولة الاغتيال الفاشلة تلك مثَّلت لحظة الانفجار في المشهد السياسي المحتدم في مصر.

فبعد النجاح الساحق لسعد زغلول في تعبئة الشعب من خلفه كأحد نتائج ثورة 1919م، والتي انتزعت لمصر استقلالًا نسبيًّا حدَّت منه التحفظات البريطانية الأربعة في تصريح 28 فبراير الشهير، لكنه بقي خطوة هائلة للأمام.

أُلغيت الأحكام العرفية، وظفرت مصر بدستور 1923م الذي أقرَّ الأسلوب النيابي كشكلٍ جديد للحياة السياسية المصرية، وعلى إثره جرت انتخابات برلمانية حقَّق فيها الوفد نجاحًا ساحقًا على منافسيه، وأبرزهم الحزب الوطني الذي تبنَّى أيديولوجية تختلف تمامًا عن ميول سعد؛ فمن ناحية هو يدور في الفلك التركي العثماني بينما زغلول لا يرى مصر إلا دولة مستقلة لا تتبع أحدًا يمينًا أو يسارًا حتى لو كانت دار الخلافة، ومن ناحية أخرى فإن رجال الوطني اعتنقوا مذهبًا يمينيًّا متطرفًا في حلولهم المقترحة لإجلاء الإنجليز عن مصر.

رفض أتباع مصطفى كامل مبدأ المفاوضات بشكلٍ تام، وخوَّنوا كل من سار على خطاه حتى لو كان زعيم الأمة نفسه، وبدلًا من ذلك اعتنوا بتدشين تنظيمات سرية مُسلحة تنفِّذ عمليات اغتيال بحقِّ الإنجليز والمتعاونين معهم، من وجهة نظرهم طبعًا.

أبرز هذه الجمعيات السرية كانت «جمعية التضامن الأخوي»، التي تأسست منذ العام 1905م، ونشطت في مجال القتل السياسي، عبر الاعتماد على تجنيد وتدريب الطلبة المصريين في الخارج – حتى يكونوا بمأمن من ملاحقة الإنجليز – وخاصةً في الدول التي لا تجمعها بإنجلترا علاقة ودية مثل ألمانيا وإيطاليا.

جرت عمليات التجنيد تلك تحت إشراف كامل من أكبر قيادات الحزب الوطني، وتحديدًا الزعيم محمد فريد.

من الخارج توالت وفود الطلبة المصريين «الوطنيين» الذين تورَّطوا في العديد من جرائم الاغتيال السياسي، أبرزها قتل بطرس غالي رئيس الوزراء على يدي طالب الصيدلة إبراهيم الورداني عام 1910م، ثم محاولة اغتيال الخديوِ عباس حلمي الثاني ورئيس وزراء مصر محمد سعيد باشا عام 1912م، ثم محاولة قتل السلطان حسين كامل – تولَّى الحُكم بدلًا من الخديوِ عباس – وأخيرًا محاولة تصفية وزير الأوقاف إبراهيم فتحي.

باستثناء قتل الورداني لبطرس غالي فشلت جميع هذه المحاولات في تحقيق أهدافها، لكنها بقيت ناقوس خطر على اشتعال خطر «التنظيمات السرية» التي تزعمتها جماعات الحزب الوطني.

جرت هذه العمليات في ظل أجواء مسمومة بالخلافات بين سعد ورجال الوطني، فتمتَّع بعلاقة سيئة للغاية مع محمد فريد دفعت زغلول لرفض مساعدته في مرضه أو حتى التكفُّل بجنازته رغم إلحاح أصدقاء سعد في هذا الشأن.

وهو ما أعاد للأذهان الهجوم المتواصل الذي شنَّه مصطفى كامل على سعد عبر صفحات جريدة «ليتاندار إجبسيان» عام 1907م، التابعة للحزب الوطني والصادرة باللغة الإنجليزية، والذي اعتبر فيه أن تعيين سعد زغلول ناظرًا للمعارف خطيئة كبرى لم تتم إلا بدعمٍ من اللورد كرومر المندوب السامي الإنجليزي في مصر، وهو ما دفع سعد يومًا لوصف مصطفى كامل بـ«النصَّاب» وفي مرة أخرى بـ«ممارسة التهريج السياسي»!

ووفقًا لمذكرات سعد زغلول فإن الخلاف بين الفريقين أكبر وأعمق من ذلك، وإنما تنبع جذوره من العلاقة المحتدمة بين الشيخ محمد عبده وتلاميذه التنويرين – منهم سعد زغلول – وبين الخديوِ عباس حلمي وأتباعه المؤمنين بسياسته، منهم مصطفى كامل.

فرَّق هذا الخلاف الحركة الوطنية المصرية إلى طودين عظيمين؛ حزب الإمام محمد عبده، والذي سيتولَّى تلاميذه تدشين حزب الأمة والذي سيكون كوادره النواة الأساسية لحزب الوفد. أما الطود الآخر فهو حزب الخديوِ الذي سيتحوَّل إلى الحزب الوطني، والذي سيكون مصطفى كامل قُطبه الأبرز وسيحظى بدعمٍ سخي من الخديوِ، وسيُعرفون في أدبيات التاريخ الاجتماعي المصري بلقب «أنصار الجامعة الإسلامية».

لاحقًا ستتعدد القضايا التي يقف فيها سعد وقائد الوطني على طرفي النقيض بدايةً من أزمة طابا 1906م وحتى قضية تحرير المرأة التي أثارها قاسم أمين صديق سعد زغلول، وهاجمها مصطفى كامل معتبرًا أنها «لا محل للحديث عنها الآن».

المفارقة أن سعدًا إبان شبابه لم يُعارض مبدأ الاغتيال السياسي، وانضم إلى «جميعة الانتقام» التي دعَّمت الثورة العرابية وتبنَّت مبدأً حربيًّا بسيطًا وهو قتل أعضائها لأي جندي إنجليزي يرونه في الشارع!

أرسلت هذه الجمعية منشورات تهدد كل من يؤوي جنديًّا إنجليزيًّا في منزله أو يتعامل معهم – بالبيع والشراء – بقتله واغتصاب أمواله وإرغام عائلته على الخروج من الوطن.

بسبب اشتراكه في هذه الجمعية، قُبض على سعد عام 1883م لعدة أشهر ثم أُفرج عنه لعدم كفاية الأدلة، وبعدها كفر سعد بهذا الأسلوب، وآمَن أن المفاوضات هي الوسيلة الأمثل والأنجع لتحرير مصر من الإنجليز، وهو ما أحدث بونًا شاسعًا بينه وبين رجال الوطني، لم يتصوَّر أن تصل حِدَّته يومًا لمحاولة اغتياله.

المفارقة الأخيرة هنا، أن سعد زغلول الذي أصرَّ على التفاوض، سافر إلى الإنجليز وقابل كبار رجالاتها وعلى رأسهم رئيس الوزراء رامزي ماكدونالد، وفشل في التوصل لأي اتفاقٍ مُرضٍ للطرفين، واشتعلت الخلافات بين الطرفين حتى أتت حادثة مقتل لي ستاك سردار الجيش المصري في السودان – دبَّرها أعضاء الحزب الوطني أيضًا – وبسببها اضطر زغلول للاستقالة من منصبه، ليفلح خصومه في هزيمته لأول مرة في الملعب السياسي، فما عجزوا عنه بالانتخابات نجحوا فيه بالاغتيالات!