لماذا تخلت «ميدترونيك» عن بيضتها الذهبية؟
أعلنت شركة ميدترونيك الأمريكية العملاقة توفير مخططات تصنيع جهاز للتنفس الصناعي تنتجه الشركة مجانًا للتحميل، بحيث يمكن لأي شركة في العالم أن تبدأ إنتاجه، للمساهمة في الحد من تأثير انتشار فيروس كوفيد-١٩ الذي يصيب بالأساس الجهاز التنفسي ويؤدي في بعض الحالات لضيق في التنفس واحتياج لأجهزة تنفس قد تنقذ المريض من الموت.
نؤمن بالخير في العالم، لكن لماذا تتخلى شركة أمريكية عملاقة خاضت عبر السنوات الماضية معارك للسيطرة على شركات أصغر ودفعت مليارات الدولارات في عمليات استحواذ على شركات منافسة؟ ولماذا الآن؟
بدأ فيروس كورونا في الانتشار منذ ديسمبر/كانون الأول في العام الماضي، وبحلول يناير/كانون الثاني عرف العالم أن الفيروس يهدد منظومة الرعاية الصحية في العالم لنقص في أجهزة التنفس الصناعي بجانب عوامل أخرى متنوعة. ومع مرور الوقت، لم تذكر ميدترونيك أنها بصدد توفير مخططات تنفيذ أجهزة التنفس الصناعي المطلوبة في كل العالم في أي لحظة. لم تعلن عن ذلك إلا بعد مرور ٢٤ ساعة على تحقيق صحفي نشرته صحيفة النيويورك تايمز يتناول فشل المنظومة الصحية الأمريكية في بناء مخزون من أجهزة التنفس الصناعي.
هل كان تقرير الصحيفة الأمريكية هو السبب، أم أن هناك أسبابًا أخرى اجتمعت لدفع الشركة نحو ذلك؟
قبل أن نعرض تحقيق النيويورك تايمز سنتعرض لحوار أجراه فافا جمالي، نائب رئيس شركة ميدترونيك، مع قناة CNN حول مخططات الشركة في زمن الكورونا.
الملكية الفكرية وصعوبة التنفيذ
اعترف جمالي قبل يوم من إعلان ميدترونيك إتاحة تصميم جهازها للجميع أن الشركة تفكر في الأمر، لكنه أكد على صعوبة تنفيذ الأجهزة. يقول جمالي:
تعليق جمالي جاء بعد سؤال عن إمكانية إنتاج أجهزة التنفس الصناعي بكثافة أكبر مما توفره ميدترونيك اليوم، بعد أن وصلت بحدود إنتاجها للطاقة القصوى ورفعتها خمسة أضعاف المعتاد لتصل إلى ٥٠٠ جهاز في الأسبوع بحد أقصى ٢٦ ألف جهاز في العام.
فيما طالبت الولايات المتحدة وحدها أن توفر الشركات الطامحة للتعاقد معها ٨٠ ألف جهاز كدفعة أولى. بالفعل أقدمت الحكومة الأمريكية على التعاقد مع جينرال موتورز التي بدورها تعاقدت مع عملاق صناعة الأجهزة الطبية فينتيك، لكن العقد الذي قدر بمليار دولار توقف أيضًا.
ماذا كشفت نيويورك تايمز؟
نشر تحقيق الصحيفة الأمريكية بتاريخ 29 مارس 2020، وبعدها بأقل من 48 ساعة صدر قرار من ميدترونيك بتوفير مخططات الأجهزة، فماذا قال التقرير؟
تناول التقرير مخططًا حاول مجموعة من مسئولي الصحة في الولايات المتحدة تنفيذه في العام 2008. بدأت المجموعة في تقييم قدرات الولايات المتحدة على تفادي وباء عالمي يضر الجهاز التنفسي بعد خوض العالم عدة أزمات بداية من سارس (SARS) عام 2003 وحتى متلازمة الشرق الأوسط التنفسية (MERS) عام 2012، وإنفلونزا الخنازير والطيور.
قدرت مجموعة العمل أن أمريكا ستعاني من نقص حاد في أجهزة التنفس الصناعي حال انتشار وباء كالإنفلونزا لكن بأعراض أقوى قليلًا. قدرت المعلومات احتياج البلد لحوالي ٧٠ ألف جهاز تنفس صناعي إضافي، فما كان من مجموعة العمل إلا البدء في التخطيط لتخزين هذا القدر بحلول عام 2014.
شركة صغيرة بطموحات كبيرة
أعلنت الحكومة الفيدرالية عن حاجتها لأجهزة تنفس صناعي غير تقليدية بتكلفة صغيرة وطموح لشراء أربعين ألف جهاز كمرحلة أولى، حددت الحكومة السعر عند ثلاثة آلاف دولار بينما كان جهاز التنفس يباع في المتوسط بحوالي عشرة آلاف دولار؛ كان العدد المطلوب ضخمًا، لذلك توقعت الحكومة أن السعر المخفّض لن يمنع الشركات من التنفيذ بسبب العدد. وبالفعل، قدمت عدة شركات عقودًا متنوعة لتنفيذ المخطط الأمريكي الذي كان ليستمر حتى عام 2012 على أقل تقدير.
فازت شركة صغيرة تدعى Newport Medical بالعقد. لم يكن العقد ضخمًا لشركات تصنيع المعدات الطبية؛ لكن لشركة صغيرة كتلك كان عقدًا مغريًا جدًا. دفعت الحكومة أكثر من ستة ملايين دولار كمقدم للعقد، لتبدأ نيوبورت في العمل على تصميم الجهاز والحصول على كل التصاريح المطلوبة لبدء تصنيعه.
الشركة التي تمتلكها بالأساس شركة يابانية لم تكن تنتج أي شيء سوى أجهزة التنفس الصناعي؛ ما دفع الحكومة للوثوق فيها لأنها رأت أن السعر المنخفض لن يناسب الشركات الضخمة لكن الشركات الأصغر. وبالفعل، بدأت نيوبورت في العمل وتقديم تقارير ربع سنوية عما تم إنجازه. ومع مرور الوقت، اطمأن المسئولون الحكوميون إلى أن نيوبورت تتحرك في الاتجاه السليم وأن الحكومة أصبحت جاهزة لأي وباء قادم.
توقف العمل
في العام 2012، وبينما المشروع يسير في الاتجاه الصحيح، وقبل أن تقدم نيوبورت مخططاتها لتحصل على التصاريح اللازمة لبدء التصنيع. استحوذت شركة كوفيدين على نيوبورت في صفقة تجاوزت المائة مليون دولار. كوفيدين التي تحقق مبيعات تتجاوز ١٢ مليار دولار سنويًا من ضمنها أجهزة تنفس صناعي أنهت الصفقة سريعًا، ثم بدأت في مراجعة عقد التنفيذ الفيدرالي وقررت إيقافه.
بدأت كوفيدين في توزيع المسئولين الرئيسيين عن مشروع نيوبورت في وظائف مختلفة. بعضهم اضطر للاستقالة بعد أن وجد نفسه يعمل على مشاريع لا يهتم بها. وفي العام 2014، أرسلت الشركة خطابًا تطلب فيه فسخ التعاقد على توريد ٤٠ ألف جهاز تنفس صناعي للحكومة الأمريكية متعللة بأنها لا تجد السعر مناسبًا لها. وتوقف المشروع منذ تلك اللحظة.
ميدترونيك تظهر في الصورة
بعد فسخ التعاقد بعام واحد، استحوذت شركة ميدترونيك الرائدة في إنتاج أجهزة التنفس الصناعي على شركة كوفيدين في صفقة تخطت خمسين مليار دولار. ثم قامت الحكومة الأمريكية بطلب جديد لتنفيذ الأجهزة المطلوبة، فحصلت على عقد جديد مع فيليبس الهولندية لتنفيذ عشرة آلاف جهاز فقط يتم تسليمها منتصف عام ٢٠٢٠؛ وحتى الآن لم يتم تسليم أي منها.
انتهى تقرير النيويورك تايمز. وردّت ميدترونيك أنها لا تعرف شيئًا عن تلك الأزمة، وأن فشل نيوبورت في تنفيذ اشتراطات الحكومة الأمريكية هو ما دعا الشركة لفسخ العقد!
ولكن هل كان تحقيق النيويورك تاميز وحده محفزًا كافيًا لميدترونيك للتخلي عن أرباح تقدر بمئات الملايين؟ بالطبع لا؛ هناك عدة أسباب متنوعة سنحاول التعرض لها.
هل تتحمل ميدترونيك مشاكل نيوبورت السابقة؟
عندما ردّت ميدترونيك في بيان صحفي على تحقيق النيويورك تايمز، لم تدّعِ أن لا شأن لها بالأمر، لكن أقدمت على توضيح حقيقة عدم التزام نيوبورت بتعاقداتها ما دفع شركة كوفيدين لفسخ تلك العقود، متناسين أمرًا رئيسيًا وهو أن نيوبورت بالأساس شركة لا تعمل إلا على تصنيع أجهزة التنفس الصناعي، وأن الأخبار التي تناقلتها الصحف عن صفقة الاستحواذ والبيان الذي أصدرته الشركة يؤكد أن خطة الاستحواذ التي تخطت ١٠٠ مليون دولار كانت للاستحواذ على الملكية الفكرية لتصنيع أجهزة تنفس صناعي ذات تكلفة قليلة؛ فكيف لشركة أن تعقد صفقة بهذا المبلغ ثم تكتشف أن ما أقدمت على شرائه غير موجود؟
وبالمثل فإن ميدترونيك تشتهر اليوم ليس فقط بتصنيع أجهزة التنفس الصناعي، لكن برخص هذه الأجهزة. وهو أمر ربما لم يتوفر لها إلا باستحواذها على كوفيدين المستحوذة بدورها عى نيوبورت صاحبة الملكية الفكرية الأولى لأجهزة التنفس الصناعي.
وراء الأكمة ما وراءها
بعد يومين فقط من نشر تحقيق النيويورك تايمز، أعلنت لجنة التجارة الفيدرالية تحقيقها في خرق ميدترونيك لقوانين منع الاحتكار، وأعلنت ريبيكا لاتر أحد أعضاء اللجنة أن صفقة استحواذ كوفيدين على نيوبورت تم إنجازها في أقل من شهر واحد، وكذلك صفقة استحواذ ميدترونيك على كوفيدين أنجزت في وقت قصير جدًا، رغم ما يشوب الأمر من مشاكل.
ربما بدأت الصورة تتضح أكثر، فخطوة ميدترونيك الاستبقاية بالإعلان عن إتاحة منتجها الأهم في سلسلة الاستحواذات محل التحقيق سيكون مخرجًا لها من أي أزمة.
أيضًا، إضعاف المنافسة
بعد أن أعلنت ميدترونيك بشكل غير رسمي عبر نائب الرئيس عن خطتها لنشر حقوق ملكيتها لأجهزة التنفس الصناعي، أعلنت الحكومة الأمريكية تعطيل صفقتها مع جينرال موتورز بقيمة مليار دولار. المصنع الكبير للسيارات ليس الطرف الوحيد في الصفقة، فلتصنيع أجهزة تنفس صناعي تعاقدت جينرال موتورز مع فينتك لتصنيع المعدات الطبية للحصول على ترخيص لتنفيذ الأجهزة. قالت الحكومة الأمريكية إنها تلقت عروضًا أفضل، وأن السعر المتفق عليها ربما يكون مبالغًا فيه.
الآن بعد أن أتاحت ميدترونيك تصميماتها، لن تحتاج شركة مثل جينرال موتورز لشركة مثل فينتك، يمكنها البدء في العمل على الأجهزة دون دفع مئات الملايين من الدولارت للحصول على حقوق الملكية الفكرية، وتظل كما عرضنا في البداية الخبرة عامل حاسم في تنفيذ الأجهزة بأفضل شكل.
حدود الإنتاج
منذ تصاعد أزمة فيروس كورونا والعالم يبحث عن أجهزة التنفس الصناعي لتفادي تفاقم الأزمة. أبرمت بالفعل عشرات العقود مع دول عدة لتصنيع تلك الأجهزة.
أبرمت ميدترونيك عقدًا لم يفصح عن كامل تفاصيله مع شركة تسلا لتصنيع السيارات الكهربائية بموجبه يسمح لتسلا بتنفيذ عشرة آلاف جهاز تنفس صناعي. العقد أبرم بعد أيام قليلة من فشل تيسلا في الحصول على عقد حكومي لتنفيذ تلك الأجهزة، واتجهت حكومة ترامب لشركة جينرال موتوز لتصنيع السيارات الشهيرة لتنفيذه بدلًا من تسلا، بعدها أقدمت تيسلا على تنفيذ العقد الثنائي مع ميدترونيك.
وقالت هيئة المستشفيات الأمريكية إن 960 ألف أمريكي سيحتاج لجهاز تنفس صناعي. في ولاية نيويورك وحدها يوجد 160 ألف جهاز، وحوالي 13 ألف جهاز احتياطي، لكن الطلب الضخم على الأجهزة يعني أن عجزًا قد يقع في أقرب وقت.
في المقابل فإن شركة ميدترونيك لا يمكنها أن تلبي الاحتياج العالمي وحدها، فقدراتها على التنفيذ لا تتخطى أكثر من ٥٠٠ جهاز في الأسبوع بعد أن ضاعفت إنتاجها خمس مرات من 40٪ إلى 200٪ من طاقة مصانعها.
لذلك أقدمت ميدترونيك وعدة شركات لتصنيع أجهزة التنفس الصناعي على إبرام عقود تنفيذ مشتركة مع مصانع السيارات. ففي تلك الحالة، يمكن أن توفر شركة تصنيع المعدات الطبية التصميم وتوفر مصانع السيارات القدرة على التنفيذ فيرتفع الإنتاج.
قدرات ميدترونيك تجعلها غير متمكنة على تنفيذ أكثر من 25 ألف جهاز سنويًا حتى بعد مضاعفة الإنتاج خمس مرات. في المقابل، لا يتوقع العلماء أن يحتاج الأمر أكثر من18 شهرًا للحصول على مصل وتصنيعه، وقد يقتصر الأمر على 12 شهرًا فقط.
الصين: أزمة أخرى لميدترونيك
أزمة أخرى تواجهها ميدترونيك وهي قدرات الصين. فالدولة التي لا يوقفها شيء عن التصنيع تستعد لتنفيذ آلاف الوحدات من أجهزة التنفس الصناعي، ولن توقفها حقوق الملكية عن ذلك، فالصين لها تاريخ طويل من السطو على الملكيات الفكرية لأشهر المنتجات في العالم، حتى وصل الأمر لتنفيذهم لموديل متطابق لطائرة الولايات المتحدة الشهيرة C-17.
في وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت وزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات الصيني أن الصين أبرمت عقودًا لتنفيذ ٢٠ ألف جهاز تنفس صناعي، وأن 8 من أصل 21 مُصنّعً لديها حصلوا على تصاريح أوروبية لمنتجاتهم، وأن عقودًا يومية يتم إبرامها لتنفيذ تلك الأجهزة.
ما بعد كورونا
قد يتبادر للذهن سؤال عن الضرر الذي قد يلحق بميدترونيك بعد انتهاء وباء الكورونا وإتاحة تصاميم أجهزتها للعالم؛ الأمر الذي سينتزع أي ميزة نسبية تمكنها من تنفيذ عقود جديدة، لكن الحقيقة أن توقعات سوق أجهزة التنفس الصناعي بعد الأزمة ليست كبيرة، بل ربما تتعرض لانكماش كبير جدًا، فبالأساس لا يحتاج العالم لهذا القدر من أجهزة التنفس الصناعي إلا في حالة الوباء، ووباء متعلق بالجهاز التنفسي تحديدًا، وبعد أن تشتري الدول ما تحتاجه سيتراكم مخزون الأجهزة ليصل لمستوى غير معقول، فمئات الآلاف من هذه الأجهزة لن تجد مريضًا تعالجه بها ولن تقدم الدول أو المستشفيات على شراء الجديد منها لتوافر المئات منها دون أي استخدام.
كمثال نجد أن دولة مثل اليابان لديها بالفعل آلاف الأجهزة التي لم تستعمل أبدًا، تلك الأجهزة موجودة للطوارئ، ومع ذلك أعلنت اليابان تقديم حوافز لشركات تصنيع أجهزة التنفس الصناعي حال أن تفاقمت الأزمة لديها واضطرت لاستقدام المزيد منها، بعد الأزمة ستعود الأجهزة لتخزن مرة أخرى.
بالتأكيد يتسع السوق اليوم لأي شركة تصنيع أجهزة تنفس صناعي، فالطلب العالمي عليها غير مسبوق، وربما ساهم وصول ميدترونيك للحد الأقصى من قدرات الإنتاج على إقدامها على خطوة توفير المخططات الخاصة بأجهزة التنفس، فهي خطوة تقلل في الحقيقة من قدرات منافسيها المباشرين ممكن يحتكرون مثلها مخططات التنفيذ، وتفتح المجال لتحسين سمعة الشركة التي حتى لو لم تتأثر بتحقيق النيويورك تايمز، فهي اليوم تتصدر كل صحف ومواقع العالم كشركة أقدمت على توفير منتجاتها للعالم عندما احتاج لها، لكن لم تخسر أي شيء بذلك، ولم تقدم للعالم أي إضافة حقيقية خاصة مع التعقيد النسبي لإنتاج تلك الأجهزة، ما لن يسمح لدول فقيرة أو صغيرة بتنفيذ تلك الأجهزة وسيطرتها في النهاية أيضًا للبحث عن محتكر جديد ليشتروا منه.