لماذا اكتسب «يورجن كلوب» كل هذه الشعبية رغم قلة ألقابه؟
هل تعلم أن اكتمال البريميرليج موسم 2019/2020 وفوز ليفربول به، سيمثل اللقب رقم «9» في تاريخ مسيرة «يورجن كلوب» التدريبية؟ هل تعلم أن هذا سيضعه على بعد «4» ألقاب من أليجري، و«16» لقبًا من مورينيو، و«20» لقبًا من جوارديولا؟ هذا إن افترضنا أن رصيد أليجري وجوارديولا سيتوقف كرصيد مورينيو.
هل نظرت من قبل في هذه الأرقام قبل أن تعلن تفضيلك للمدرب الألماني؟ نحن أمام أمرين، إما أن تكون شخصًا عاقلًا – يندر وجوده بين مشجعي كرة القدم – لديه القدرة على تمييز الظروف، وتقدير الألقاب كيفًا وكمًّا، أو أن تكون شخصًا شغوفًا يتبع الهتاف الشهير «مش قصة كام بطولة، دا عشق من الطفولة».
ما بين الشغف والعقلانية، فلا يبدو الأمر بهذه السهولة، لأن الواقع يفيد بأن أحدًا لم يدغدغ مشاعر الجماهير كما فعل «كلوب». ليس فقط بتفاعله معهم وكأنه واحد منهم، لكن لأن مسيرته تتقاطع مع تفاصيل حياتهم أكثر مما تظن.
موظف سيئ الحظ
عرف «كلوب» نفسه للجماهير على أنه الرجل العادي «The Normal One»، وقد صرح من قبل أن هذا لم يكن بغرض لفت الانتباه، لكن لأنه يرى نفسه هكذا. وإن طبقت هذا الوصف على مسيرته، فستكتشف مدى التطابق بينهما.
فهو لم يقدم نفسه بعصا سحرية تجلب البطولات كما قدم مورينيو وجوارديولا نفسهما، بل قدم نفسه بنجاحات عادية رقميًّا، لتصبح قصته أقرب للتصديق. ذلك لا يعني التقليل من الآخرين، لكنه بطريقة أو بأخرى توضيح لمسار التعاطف، الذي يذهب تلقائيًّا للطرف الأضعف، تمامًا كتخيل بات مان يقاتل سوبر مان.
وكي تكتمل الحبكة، جسد المدرب الألماني شخصية الموظف المنحوس. في عام 2003، كان «كلوب» مدربًا لنادي «ماينز» في الدرجة الثانية. وفي آخر جولة ومع انطلاق صافرة النهاية، كان «ماينز» في طريقه للصعود، إلا أن منافسه «إنتراخت فرانكفورت» على الجانب آخر، أحرز هدفًا في الوقت القاتل، ليصعد بدلًا عن «ماينز». كانت هذه المرة الثانية على التوالي التي يخسر فيها ماينز-كلوب بطاقة الصعود في آخر جولة.
لازم النحس صاحبنا حتى اضطر لخسارة نهائيين بدوري أبطال أوروبا، ونهائي بالدوري الأوروبي، كي يفوز بلقبه الأوروبي الأول مع ليفربول في موسم 2018/2019. حتى على مستوى الحصول على الوظائف، كان غير محظوظ، تمامًا مثلي ومثلك.
في عام 2008، كان أحد المرشحين لتدريب بايرن ميونيخ، إلا أن إدارة البافاري فضلت في الأخير «يورجن كلينسمان». وفي تصريح سابق لـ«Eckhard Krautzun» مدربه السابق بماينز، أوضح أن النادي الذي كان يحلم «كلوب» بتدريبه في إنجلترا هو مانشستر يونايتد. وبالتالي نحن أمام رجل لم ينل وظيفة مثالية في بداية مشواره، ثم ضاعت عليه الوظيفة الحلم، لكنه استمر لينجز ما أنجزه، بل قدم نفسه كمدير مثالي نتمناه جميعًا.
مدير مثالي
وأثناء تدريبه بروسيا دورتموند، وعد «كلوب» لاعبيه بثلاثة أيام إضافية ضمن راحة الشتاء إذا تمكنوا مجتمعين من قطع مسافة تزيد عن 118 كيلومترًا في 9 من أصل 10 مباريات رسمية. لم يتمكنوا من فعلها لكنه منحهم الأيام الإضافية نظير محاولتهم.
أنت الآن تقول في داخلك، لماذا لا أمتلك مديرًا هكذا؟ وفي الحقيقة معك كل الحق، لكن إياك والاعتقاد أن الأمر يتوقف لدى «كلوب» على التساهل فقط، لأن ما سبق يمثل غيضًا من فيض، بنى «كلوب» من خلاله علاقته بلاعبيه. وكل تصرف صدر عنه بتلقائية، رسم منهجًا مثاليًّا للإدارة، ليس في كرة القدم فقط.
بعد شهر من تولي تدريب ليفربول، نشرت شركة «جوجل» نتائج دراسة، أجرتها لمدة عامين، على 180 فريق عمل داخل الشركة، بهدف معرفة السبب وراء صناعة أكثر الفرق نجاحًا. وفقًا للمنطق، فإن أكثر الفرق نجاحًا هي أكثرها ضمًّا للعناصر الموهوبة، لكن النتائج أظهرت أن الخمس الفرق الأولى اجتمعت على امتلاك ما يسمى بالأمان النفسي «Psychological Safety».
والمقصود هنا هو شعور الأفراد بالأمان الكافي للمخاطرة، مما يساعد على تطور أدائهم بشكل لافت. نقلت شركة «21st Club» للتحليل والإحصائيات تلك النتائج، وأضافت أن كرة القدم أيضًا تحتاج للأمان النفسي، أكثر من الشركات، و«يورجن كلوب» هو الأفضل في ذلك بلا منازع.
أمام الكاميرات، يظهر كلوب ودودًا مع لاعبيه، لكن خلفها يظهر دوره الأهم، بدعمه الدائم لهم حتى في الاستشارات التي تخص حياتهم الشخصية، كما يقول فينالدوم، متوسط ميدان ليفربول. ومن هنا، استطاع كلوب خلق بيئة نفسية مثالية، تجعله واثقًا في تصرفات لاعبيه خارج الملعب،ليحصد النتائج داخله.
ورغم إدراكي أنك الآن تظننا في رحلة بأحد دروس التنمية البشرية، إلا أننا لسنا كذلك، والجانب النفسي يحظى بأهميته، حتى إن كنا لا نستطيع قياسه. وبالنسبة لـ«كلوب» ورغم براعته وحصوله في المقابل على كم هائل من الإشادات، فإن ضرر ذلك كان أكثر من نفعه.
كلوب العبقري
حيث تبدو نسبة 70% و30% التي وزعها مساعد كلوب على الجانبين النفسي والتكتيكي – على الترتيب – ظالمة بعض الشيء، لأنها أولًا تهضم حق المدرب الألماني تكتيكيًّا، وثانيًا، تجعل الجميع يتغاضى عن السبب الحقيقي وراء الأمان النفسي الذي يمنحه لاعبيه.
دعنا أولًا نذكرك بكلوب اللاعب، الذي لا يتذكره أحد. المدرب الألماني «فولفجانج فرانك» الذي يعد واحدًا من الملهمين لأفكار كلوب التدريبية، وصف يورجن باللاعب كثير الأخطاء داخل الملعب لامتلاكه الكثير من الأفكار الجيدة داخل رأسه، لكنه لم يمتلك الموهبة لتنفيذها. وأكد كلوب نفسه ذلك، حينما لخص مسيرته في كونه لاعبًا بفكر البونديزليجا بإمكانيات مناسبة للدرجة الخامسة، فكانت النتيجة، مسيرة بالدرجة الثانية.
وهنا يظهر سبب انحياز كلوب وإصراره على لاعبين، قد يراهم كثير منا أنهم دون المستوى على الأقل مقارنةً بالمنافسين. لكن على ما يبدو أنه يرى نفسه خلالهم، ويحاول أن يمنحهم ما فاته وهو لاعب. وبالتبعية، تظهر حاجته لبيئة نفسية أكثر من مثالية، لاحتواء لاعبيه داخل نظامه التكتيكي، وزيادة استيعابهم لتفاصيله، التي ستنهال عليهم تدريجيًّا، بالتوازي مع ارتكابهم للأخطاء.
في كتابه «Zonal Marking: The Making of Modern European Football» يصنف «مايكل كوكس» «كلوب» على أنه واحد من عباقرة التكتيك، الذي بفضله عرفت كرة القدم مصطلح الـ «Gegenpressing»، لتترك ألمانيا بصمتها التكتيكية الأولى منذ تطوير «فرانز بيكنباور» لمركز الليبرو.
الـ «Gegenpressing» أو الضغط العكسي، يعني الضغط بمجرد فقد الكرة. ويكمن تعقيد الأمر في تمركز واستعداد فريق «كلوب» أثناء الاستحواذ، للحظة التي سيفقدون فيها الكرة (بمراعاة المسافات بينهم أفقيًّا وعموديًّا)، وبدلًا من التحول المنظم من الهجوم إلى الدفاع، وتحول الخصم من الدفاع إلى الهجوم أو قيامه بهجمة مرتدة، يقوم لاعبو «كلوب» بضغط مفاجئ شرس، يربك كل هذه التحولات، ويمكنهم من ضرب الخصم دون أن يستعد.
تشابه ذلك مع الطريقة التي كان يضغط بها برشلونة مع بيب جوارديولا، لكن اختلاف الغرض كان واضحًا. حيث أوضح جوارديولا أن عناصر فريقه كانت ستعاني دفاعيًّا إن ترك الكرة للخصم، وبالتالي لا مفر من استرجاعها بسرعة، ومن هنا كان الضغط محسوبًا، بلاعب على حامل الكرة، ويتولى بقية اللاعبين غلق زوايا التمرير المتاحة.
أما فريق «دورتموند-كلوب» فكان صلبًا بدون الكرة، واستخدم الضغط العكسي كسلاح هجومي، حتى وصفه «كلوب» بأفضل صانع ألعاب في الفريق. ومن هنا كانت طريقة الضغط مختلفة، أكثر شراسة، وأكثر مغامرة، بأكثر من لاعب على حامل الكرة، ومن أكثر من اتجاه.
ثم أضاف كلوب التوازن لعبقريته، بقدرته على التكيف مع نوعية وجودة لاعبي ليفربول، والتي تبدو أقل مهارة من سابقيه بدورتموند، لكنها أكثر حدة وقوة بدنية. وساعده ليفربول بمنحه ما لم يجده في ألمانيا، وهو التقدم عشر خطوات خارج الملعب أمام كل خطوة لكلوب داخله، ليتطور الفريق اقتصاديًّا وتزيد قدرته على الحفاظ على نجومه، عكس ما حدث في ملعب سيجنال إيدونا بارك.
يمكن أن نقول إن كلوب-ليفربول أكثر تنوعًا من كلوب-دورتموند، يركز أكثر على نقاط قوته، ولا يمانع من أن يكون فائزًا سيئًا في بعض الأحيان. ورغم الـ «Gegenpressing» وغيره من التفاصيل التكتيكية التي وصلت إلى رميات التماس، ستظل جميعها في المرتبة الثانية خلف كاريزمته، لأنك دائمًا ستظل معجبًا بشخصيته وتصريحاته، وفيها تصريحاته المتسرعة عقب الهزيمة، والتي لا توضح أنه خاسر سيئ، بقدر توضيحها أنه شخص عادي، يتصرف مثلنا دون قصد.