أصدق أشكال السينما، أن تصنع فيلمك بنفسك، لنفسك.
بيتر جاكسون

في عام 1983 صنع «محمد خان» تُحفته الأثيرة «الحريف»، عمل سينمائي تقاطعت روحه بشكل تراجيدي مع ظروف صنعه، فقد كان باكورة إنتاج شركة «أفلام الصحبة» التي أسسها خان وعاطف الطيب وبشير الديك ليفروا بها من إملاءات الإنتاج وشروط السوق ويصنعوا الأفلام التي تُشبههم.

فشل «الحريف» بشكل مدوٍّ في شباك التذاكر، وقطع كل ممكنات التعاون الفني بين عادل إمام وخان للأبد، ليعود «عادل إمام» لأدواره الآمنة التي يعرفها ويُحبها الجمهور وتترجم نجاحها في صورة إيرادات مفهومة بدلًا من مغامرة تجريبية قوامها رجل يفر في شوارع المدينة بأنفاس لاهثة ثقيلة من خطر لا يراه المشاهدون.

 

كان اللعب بقواعد خان في نظر «عادل إمام» وقتها أشبه بعبارة الحريف الأخيرة «لعب مع الخسران»، ومثلما جسد الفيلم اغتراب شخصية فارس عن زمنه وشعوره الدائم بسُكنى الهامش، عُلق فيلم الحريف وحيدًا في شجرة أفلام الصحبة كأول وآخر ثمرات إنتاجاتها قبل أن تتوارى إلى الهامش وتتوقف للأبد.

بعد أربعين عامًا لا يحضر الحريف فقط ضمن أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، إنما تستعيده الأجيال التي ولدت بعده – مواليد التسعينيات والألفية، الجيل yوz – بشكل مُلح، باعتباره تُحفة منسية، يزيلون عنها الغبار ويرون في مرآتها بعضًا من ملامحهم!

يحاول المقال أن يفسر لماذا يُمثل فارس بطل الثمانينيات المهزوم، الموصوم باغترابه حتى عن جمهور زمانه، والمولود بشكل مُبتسر كجنين أخير لمحاولة لم تكتمل لصنع تيار سينمائي مُستقل إنتاجيًّا، أيقونة ومرآة عاكسة لأجيال شابة لم تولد وقت ظهوره؟ ولماذا في ملامح فارس ومأزقه وهزيمته نجد بعضًا من ملامحنا وهزيمتنا الشخصية وكذلك إلهام جمالي لنتمثله؟

عمل بلا حبكة، قوس لم ينغلق أبدًا 

الحبكة هي مصطلح أنيق تُخفي به عبارة، وماذا حدث بعد ذلك؟
إريكا يونغ

تقول الكاتبة Jane Yolen إن الحبكة هي أن تجعل بطلك بطريقة ما يصعد أعلى الشجرة، ثم تحاول طوال الحكاية حل مأزقه وإنزاله عنها، كل الأفلام تدور حول بطل في مأزق، قوس مفتوح يُغري باحتمالات شتى، تغوينا الحكاية الجيدة لنقع في شركها بحثًا عن إرواء فضولنا في الختام بأي الاحتمالات سيختارها صانع العمل ليُغلق قوس حكايته.

ما يميز الحريف أنه فيلم لا يمتلك حبكة، الفيلم هو الشخصية، أو كما يقول «أرسطو»، إن الحبكة أحيانًا ما هي إلا شخصية ينكشف جوهرها ببطء عبر الأحداث.

ندرك من البداية أن فارس مُتمرد، خسر حلمه بالانضمام لأشبال «الترسانة» بعدما فقد أعصابه وضرب مدربه، خسر زواجه بعدما ضرب زوجته وحطم ضلوعها، وسيخسر وظيفته كأكثر عمال الأحذية مهارة في الورشة باستهتاره وارتباك مواعيد عمله.

يُشبه فارس عنوان فيلم جيمس دين الشهير «متمرد بلا قضية»، أفسد حياته بإرادته ولا يصطنع جهدًا كافيًا لإصلاحها، لا توجد شجرة هنا يُمكن إنزال البطل عنها، ولا توجد قضية يقاتل لأجلها، فالخطوات واضحة للم شتات حياته لكنه لا يفعل شيئًا.

من فيلم Rebel without a cause

لا يمتلك فارس إلا شعورًا لا يملك سندًا من الواقع بالاستحقاق entitlement، إنه يستحق حياة أفضل، وحكاية أفضل، لذلك لا يبذل جهدًا لإنقاذ حكايته لأنه يوقن أنها لا تُشبهه، حذاء مقاسه لا يُناسب قدمه، يعبر عن ذلك بثيمة الفرار التي تظل معنا طوال الفيلم، أنفاس لاهثة ثقيلة، ورغبة في الهروب من مصير يُطبق فكيه عليه لكن دون وجهة بعينها يذهب لها.

 يؤطر خان الفكرة أكثر بجعل كادر المدينة شديد السعة، حكاية فارس ضيقة جدًّا على وجدانه والمدينة واسعة جدًّا على أحلامه، يملك فارس مهارة حاذقة لصنع حذاء جيد على المقاس، لذا يوقن أنه رهين مقاسات لا تشبهه، مدينة واسعة يحيا على هامشها ويمكنها سحقه بعنفوانها، وواقع يقدم حكاية ضيقة يمكنها سحقه بمحدوديتها.

توصم أجيال y وz بأنها أجيال تُعاني شعورًا مفرطًا بالاستحقاق، أجيال ولدت في زمن معولم، يُمكننا رؤية سيناريوهات الحياة البديلة في ألف مكان على الأرض عبر تصفح شبكة افتراضية، نوقن أننا نستحق حياة أفضل في مكان آخر، لكننا لا نعرف بعد شكلها.

تتشابه تلك الأجيال مع مأزق فارس في كونها عالقة في أحلام ضيقة يقدمها الواقع، واضحة المعالم في تدرجها الاجتماعي والطبقي والمهني لكنها لا ترضينا، وبانوراما عالم واسع يشبه مدينة فارس، نلهث فيها بحثًا عن مثال لا نعرفه بعد.

صُنع الحريف ليقدم بطلًا يملك حياة داخلية مُعقدة، وتطلعات لا يفهمها زمنه، لكنه أسير فقره وموقعه الطبقي، العدو الحقيقي الذي يُحجم مُمكناته، يحيا على سطح عمارة أنيقة لا يعترف حارسها أنه من سكانها، إنما طُفيلي عليها، لا يستحق استخدام المصعد.

عادل إمام من فيلم الحريف

 يخرج الحريف من ثيمته الطبقية الضيقة في نظر الأجيال التي تلته ليصير مُعبرًا عن تلك العاطفة الجياشة التي تعذب بطلها، عاطفة الاستحقاق لحياة أفضل يُمكن صنعها على عين صاحبها، لكنها عالقة بين حكاية ضيقة ورحاها التي تدور في بانوراما مدينة واسعة.

 تلك الأجيال تعاني الحكاية الضيقة نفسها، لكن ليس في مدينة واسعة بل في عالم بات ضيقًا افتراضيًّا، لم نعد نحيا بشكل طفيلي على هامش عمارة ثرية مثل الحريف، بل صرنا افتراضيًّا نتلصص لنحيا داخل بيوت تلك العمارة، ولكننا لا زلنا لا نملك إمكانية عيش الحيوات التي نراها بشكل حقيقي، اقتربنا بالمسافة بشكل أكثر تعذيبًا لآمالنا، لم نعد نتلصص على عمارة بل بلدان وحيوات في قارات أخرى، لكننا لا زلنا نشاهد الأحلام ولا نحياها، وفي التفاوت ذاك لا يُبرز الكادر في أي مرة حجم قصتنا الحقيقي وُممكناتها. في هذا التفاوت نفهم عاطفة فارس وإن عبر عنها طبقيًّا وعشناها افتراضيًّا.

لماذا تجذبنا بطولة سيزيف؟

الكفاح وحده تجاه قمة نعلم أننا سننزاح عنها يكفي ليملأ قلب المرء، لذا علينا أن نتخيل أن سيزيف في قصته طيف سعيد.
ألبير كامو

يبدأ فارس رحلته بأنفاس ثقيلة لاهثة، فرار في المدينة بلا وجهة هربًا فقط من حياة لا تشبهه وحياة يتمناها ولا يجيد صياغتها، وينتهي الفيلم بالأنفاس نفسها، طابع سيزيفي يخلو من الحبكة. الحبكة هي ما يغلق القوس، ومعها ينتهي كثير من تأثير الفيلم الذي يتحول لحكاية رجل في سيناريو له بداية ووسط ونهاية.

https://www.youtube.com/watch?v=jlIfyWmzlx8

 جاذبية أسطورة سيزيف أنه لا يزال حتى اليوم يجر الصخرة، وجاذبية فارس أنه ربما لا يزال حتى اليوم يركض لاهثًا، يقول كامو إن سيزيف اختار هذا المصير لأنه خدع إله الموت، في مصيره بعض من الحرية ولو كان مأساويًّا لأنه اختاره.

 يستحضر الجيل الحالي فارس بالفكرة نفسها، ليس منتصرًا وليس مهزومًا بشكل كامل، جاذبيته على سيزيفية موقعه بين الفوز والخسارة في كونه حقيقيًّا، ربما الاعتراف بالتيه والهروب من حياة لا تشبهنا وإن لم نملك بعد القدرة على تشكيل حياة تشبهنا، يعد موقفًا أكثر أصالة من حياة مصطنعة.

ندرك أن فارس استسلم لحياة أخرى لا تشبهه في النهاية لكن يختار خان أن ينهي الحكاية بانتصار رمزي ولا يُرينا طيفًا من فارس المهزوم، ربما يقوده مزاجه المتقلب مثلما قاده طوال الحكاية للتحلل من هزيمته والعودة للركض.

 

يظل فارس قوس مفتوح ينضم له في الركض أرواح شابة من أجيال تالية، مثل مشهد فورست جامب الشهير، نتوقع فارس يلتفت وهو يخبرهم أنه لا يعلم وجهته ولم يطلب أن يكون رمزًا لوجهة، لكنهم يخبرونه أن تيهه واعتناقه الأصيل له هو الرمزية نفسها.

بطولة يطويها الصباح

ويعزينا أننا نعرف أمرًا أو اثنين؛ عن ارتكاب الجمال، عن الصداقات الصلبة، عن فتوة الروح. ويعزينا أننا نعرف تحديدًا أن العوالم تنتهي، وتبدأ أخرى. كان قدرنا جميلًا في إحداها، تحطمنا في آخر، وربما في ثالث، سنجرب أحياءً نشوة البعث.
بلال علاء

عندما عُرض فيلم الحريف هاجمه الناقد «أحمد صالح» واصفًا إياه بأنه إاتنساخ ماسخ لفيلم «روكي» الشهير، وهو ما استنكره خان، وربما يليق النقد أكثر بفيلم «النمر الأسود» الذي عُرض بالسينمات بالفترة نفسها، في روكي والنمر الأسود نحن أمام قصة صعود كلاسيكية لبطل رياضي من اللاشيء للمجد، وفي الأفلام الرياضية تكون رمزية التحقق شديدة المباشرة، فالقدر يمنح البطل ميدالية وكأسًا فعلية، ويخبره أنه انتصر. يسحب البطل اعترافًا من الجميع بأحقيته ولقبه.

سلفستر ستالوني من فيلم Rocky

في الحريف يمتلك فارس كنقيض لسُكنى الهامش على سطح عمارة أنيقة وحياته كعامل بسيط وزوج فاشل وأب سيئ الحظ، حياة ليلية ساحرة، هو فيها بطل الساحات الشعبية، التي تنتظر حلول الليل وظلامه حتى تتحول لمسرح ألعاب للكرة الشراب. في تلك اللحظات نلمح ابتسامة فارس، تألق عينيه، حضور قلبه خارج أسوار اللامبالاة، وهي اللحظات الوحيدة التي يُجيد فيها خان تغيير معادلة الكاميرا، يمتلئ الكادر بفارس بينما تصغر الموجودات حوله وتنسحب، عكس الصباح الذي فيه تتغول المدينة بحضورها على الفتى المهزوم، فيصير نقطة بائسة في كادر متسع.

 

عندما يحل الصباح ويزول سحر المباريات، يجلس فارس على المقهى ليُشاهد أبطالًا قدامى للكرة والساحات الشعبية، أصابهم العجز والوهن وطواهم الزمن بإرادته الساحقة مثل كابتن «مورو» الذي يحاول فارس مساعدته بالمال دون أن يجرح تعففه.

بطولة فارس سرية، ليلية، عمرها قصير مثل الفراشات، لا يعترف بها أحد سوى سمسار مراهناته «رزق الإسكندراني» الذي يستغله فقط كما يستغل القواد العاهرة.

يظل الحريف مؤرقًا وحاضرًا في ذاكرة أجيال تلته، لأنه لا يجسد حلمًا مُكتملًا في النور ومُتحققًا بنهاية سعيدة مثل قصص نجاح الرياضيين، ولا يُجسد هزيمة كاملة ومرثية، إنما يُجسد الإمكانية في شكلها السحري المشوش بداخلنا، الأحلام تحدث في الليل ويطويها الصباح بواقعيته، وكذلك بطولة فارس الكروية.

تؤطر النهاية هذا الارتباك، فارس مهزوم لأن تلك البطولة لا تكفي، كذلك عمره وجسده يهزمه بظهور أبطال ساحة أكثر شبابًا ولياقة منه، لكن الهزيمة ليست كاملة، يجسد فارس وداعه في صورة انتصار أخير. وانحياز لفظي للخسران ربما على المدى القصير لكنه المستحق دومًا للانحياز له لأن البعض يلعب لأجل المال، أما هو فيلعب بروحه نفسها.

لا يقدم الحريف إلهامه كقصة نجاح رياضية سعيدة، ولا يقدم نهاية مرثية ومدوية مثل أبطال أفلام «دارين أرنوفسكي»، حيث يموت المصارع في ساحته، وتموت البجعة السوداء في ذروة تحققها، بل يقدم مواربة تحيي الأحلام بداخلنا وإن كان يهزمها صباح، وترفض إكمال قوسها بهزيمة بل نصر رمزي، يبقيها حية.

تلخص عبارة هلعب مع الخسران، الانحيازات التي اتخذها جيل كامل بعد عقود من الحكاية سياسيًّا واجتماعيًّا، وراهن لأجلها وحطمته، ووصمته باعتباره جيلًا مهزومًا أحلامه طواها الصباح، جيل مسه الحلم، وهزمه، لكنه ترك هزيمته في صورة انتصار استثنائي لا تمحوه الذكرى، ولم تكن الاحتمالات لتراهن عليه أبدًا أن يحدث من الأساس. 

يدرك فارس في النهاية أنه لا بد أن يتحرك مع إيقاع زمنه وعصر الانفتاح، ويستسلم، لكنه لا يخفي انحيازه الداخلي، وأنه حتى في هزيمته الكاملة يُمكنه بإرادته أن ينتصر، وتلك هي النهاية التي تليق به وإن لم تتحقق.

المدينة قاهرة أصحابها وصانعة الفن

في الشارع
أخطاء كتير صبحت صحيحة
لكن صحيح هتكون فضيحه
لو يوم نسينا وبوسنا بعض في الشارع
أمينة جاهين

تدور حكاية الحريف بأكملها كطابع أفلام الواقعية الجديدة، حول زمن مثالي يموت وزمن مخيف لم يولد بعد، وهو مأزق جيل مخرجي الواقعية العالق بين مثالية الستينيات التي تحطمت وبراجماتية الانفتاح القبيحة، لذلك يفر خان من مناورة الزمان ولهاثه نحو خلود المكان في استضافته لكل التحولات.

تبدأ الحكاية باقتباس شهير عن «أمينة جاهين»، يؤكد أن الفضاء المكاني لا يتسامح أبدًا مع الضعف، أو العاطفة، بينما موسيقى «هاني شنودة» تهمس لنا أن شوارع المدينة حواديت، حوداية فيها الحب وفي أخرى أشباح وعفاريت مُرعبة، وبين الحب والعفاريت لا تدور رقصة أبدًا، بل مطاردة.

 القرية دومًا في سينما خان هي الفردوس والقادمون منها شديدو البراءة والذاهبون لها متطهرون من أدران المدينة وعائدون لتلك البراءة لتنقذهم مثل فيلمه خرج ولم يعد.

أما المدينة فهي مسرح المعركة الحقيقية التي تُختبر فيها رومانسية أبطاله، في المدينة يحاول الفارس وفيها تقتله فروسيته، لأن الحلبة أكبر دومًا من نبل بطلها ومحاولاته، يظهر ذلك في مشهد وقوف «فارس» الشهير أسفل لوحة إعلانية ملونة ومضيئة، لوحة متلألئة بوعود استهلاكية، لا تعبأ بصعلوك مُحطم أسفلها بعدما علم بخبر موت أمه. في القرى يُزلزل خبر موت أحدهم سلام المكان، بينما في المدينة يتسول فارس عاطفة مُشاركة من الجميع تهون فقدانه لأمه ولا يجد. يظهر شر المدينة كذلك في قريب فارس الذي يأتي من القرية، تفسده المدينة وتصنعه على صورتها في زمن قليل.

تمتلك المدينة جمالية وحيدة في أي وطن عن الريف، وهي أنها مجال ظهور النجوم وتحقق الفن بانتشاره، يُهدي خان كثيرًا من أفلامه للنجوم الذين جاءوا من الهامش وشكلتهم المدينة مثل ليلى مراد وسعاد حسني وعبد الحليم حافظ. الذي يحتل بوستر حزين له حائط غرفة فارس طوال الفيلم. 

في كل أفلام خان يمتلك الأبطال جوار حياة داخلية ثرية ومعقدة وصال مع فنان، مع موسيقي، كأن فروسية البطل التي تنتهكها المدينة يحفظها الفن ويصير صوت فنان أو موسيقي هي وصال البطل مع صورته المثالية عن المدينة، يمنحه الفنان وعد بأن المدينة يمكن أن تكون حنونًا يومًا ومسرح للتحقق لا لقتل الأحلام، فيصير الفن عزاء البطل في حكايته. تفر البطلة في «زوجة رجل مهم» من سلطوية زوجها في صوت ذكر آخر حنون ومثالي مثل حليم بينما تعمل أغاني «ليلى مراد» كتعويذة تحفظ براءة الفتاة القادمة من المنيا في فيلم «في شقة مصر الجديدة»

خالد أبو النجا وغادة عادل من فيلم في شقة مصر الجديدة – إخراج محمد خان

بعد أربعين عامًا يصير فارس الحريف بطلًا للعملية نفسها، يُستعاد من خلال أجيالنا كرمز تذكاري لبطل رومانسي، لم يهزم مدينته، لم يحقق أحلامه، لم يرفع الكأس، لكنه احتضن صديقه في لحظة تحطم واختبآ كلاهما من عجزهما الشخصي في محاولة تقديم فعل مساعدة لعابر بتحريك سيارته ولو قليلًا، مقدمين لغريب في ليل مدينة موحشة لفتة رحمة. 

يحضر الفن في عوالم خان لتقديم الرحمة نفسها، ويحضر فارس الحريف لأجيال تلته لتقديم الشعور نفسه. نتعلم من فارس أن جيلنا لا يمتلك خصوصية الهزيمة، فهي موروثة من أجيال سبقتنا، لكن تبقى شخوص سينمائية مثل فارس تخبرنا عن فروسية ونبل وأحلام ماتت بداخل أصحابها، ولم يمنحها العالم مسرح للتحقق. لسنا استثناءً لكن هناك فرصة لحفظ ما تمنينا تحقيقه ونقله لأجيال تالية مثلما حفظ فارس أحلام جيله المُجهض ونقلها لنا. 

لو صنعت الأفلام من مادة الأحلام، تحيا للأبد

الفيلم الجيد لديه القدرة على اقتناص جوهر الحلم.
مارتن سكورسيزي

مثل أي فيلم يمتلك الحريف عناصره الآنية التي يسري عليها التقادم، التحول الدرامي من الستينيات للانفتاح لم يعد حدثًا آنيًّا، وإن كانت تبعاته حاضرة، كثير من الأماكن التي خلدتها كاميرا خان لم تعد موجودة من الأساس، كرة الساحات الشعبية وأساطيرها صارت تاريخًا لا أكثر.

تموت الأفلام وتحيا في أجيال تالية تبعًا لما تمتلكه بخلاف عناصر التقادم، عندما تمتلك جوهرًا يجاوز زمنها، عندما تلتقط بذائقتها القدرة الخلابة على التعبير عن الأحلام.

من كواليس فيلم الحريف

في فيلمه الشهير hugo، يستعيد سكورسيزي قصة السينمائي الشهير Georges Méliès، الذي خبا نجمه واندثرت أفلامه، لكن في زمن حديث يقاتل الجميع لاستعادتها، رغم بدائيتها، لأن بعض الأفلام تحوي معها تحريضًا على الحلم، تحريض لا يزول ولا تزول الحاجة له، تلك الأفلام التي تلامس جوهر الحلم تمتلك أبديتها.

في الحريف يفتتن ابن فارس بأبيه، يحاول أن يكون مثله، يفر من المدرسة ويلعب الكرة، يحاول أبوه إثناءه عن ذلك، لأنه يعلم أنه لا يمتلك حكاية يجذبه لها، يعلم جيدًا ما يكرهه لكنه لا يملك حلمًا يمنحه لولده، لكنه في النهاية يفطن أن الأبوة لا تدور إلا حول منح الطفل التصديق في القدرة على الحلم والقدرة على الانتصار، لذلك يمنح ابنه ذكرى انتصار لا يزول حتى لو انتهى زمن اللعب. ويمنح لأجيالنا بعد عقود الفكرة نفسها.

اقرأ أيضًا: فيلم «الحريف»: وقائع امتثال فارس مهزوم