الاستعمار الاستيطاني: لماذا تفوق إسرائيل أي احتلال آخر؟
يُحكى أن فتوة سيطر على حي، ويتقاضى إتاوة إجبارية من سكان المنطقة، استطاع أن يجمع ثروة لا بأس بها، وقرر أن يفتتح شركة أمن، وتطلب منه الأمر مستوى اجتماعيًا مختلفًا يليق بطبقته الجديدة في تأمين الحي الراقي الذي انتقل إليه، ولكنه لا يزال يريد السيطرة على الحي القديم، فدفع بأحد رجاله في مجال الفتونة إلى الحارة، والفتوة الجديد لا يكتفي بالإتاوة وإنما يستمتع بقتل سكان الحي، يبيدهم تمامًا، ويجلب أصدقاءه للإقامة في بيوت أهل الحي، ويخبر القاصي والداني بأن هذه أملاك عائلته وأجداده.
حين قاومه أهل الحي، واستعادوا مساكنهم وطردوا أصدقاءه منها، ازداد بطشه، وأخبرهم أن هذا جزاء البلطجة، فإن طرد ضيوفه والتعدي عليهم ليس من شيم الرجال. وافقه بعض أهل الحي، فطلب منهم مساعدته في التخلص من البلطجية الذين فعلوا ذلك!
ما ارتكبه فتوة الحارة الأشد بطشًا يُعد نموذجًا عالميًا مُتعارفًا عليه ويطلق عليه اصطلاحًا وصف «الاستعمار الاستيطاني» (Settler Colonialism).
ما هو الاستعمار الاستيطاني؟
يقول باتريك وولف، أشهر من كتب حول «الاستعمار الاستيطاني»:
يُعرّف «الاستعمار الاستيطاني» وفقًا لجامعة كورنيل للقانون بأنه نظام اضطهاد استعماري، مبني على الإبادة الجماعية والاحتلال يهدف لاستبدال أمة غالبًا ما تكون هم السكان الأصليين بسكان المستعمر الجدد، ويجد هذا النظام أساسه في نظام السلطة الذي يقمع السكان الأصليين ويمحو تكوينهم الثقافي والاجتماعي محاولًا أن يحل – المستعمر ومستوطنيه – محله.
وهو مبني على السرقة والاستيلاء على الأراضي والموارد التي تخص السكان الأصليين، والتاريخ والنزاعات القائمة تدل على أن هذا النظام مبني على العنصرية وأفضلية الرجل الأبيض، ويكون متمركزًا حول فرض الهوية الأوروبية، فهو يرى أن قيمه وثقافته أفضل من ثقافة السكان الأصليين، وبناء على ذلك يعد تدمير السكان الأصليين وسلب حقوقهم والاستيلاء على أرضهم ومحو عاداتهم أمرًا مشروعًا.
ويختلف الاستعمار الاستيطاني عن الاستعمار الاستغلالي في كونه فعل من السيطرة أو القوة على دولة ما عن طريق فرض سيادة دولة أخرى باكتساب أو الحفاظ على السيطرة السياسية كليًا أو جزئيًا، إلا أن الاستعمار الاستيطاني يشمل معيارًا إضافيًا وهو الإبادة الكاملة واستبدل السكان الأصليين وثقافتهم بالمستوطنين الجدد وثقافتهم لترسيخ أنفسهم كسكان شرعيين، فلا يكفيهم استغلال موارد البلد المحتلة وأرضها وإنما محوها، بتغيير أسماء الأماكن والمدن التي استوطنوها لمحو أي أثر للسكان الأصليين. وعادة ما يكون مدعومًا من سلطات استعمارية أخرى ترفض الانضمام إليها وتتمرد عليها بوصفها شعوبًا جديدة.
ولتبسيط المقارنة بين نوعي الاستعمار، يمكنك إعادة ما تعرفه حول الاحتلال البريطاني لمصر، فقد استهدف الاحتلال الأراضي المصرية لكونها في موقع جغرافي متميز، ولديها كثير من الموارد، وعمالة زراعية رخيصة، لكنه لم يحاول محو هوية المصريين بالكامل، ولم يتعامل مع مصر كجزء من بريطانيا وإنما اعترف لها بسيادة ناقصة ومارس سلطته عليها من خلال المندوب السامي البريطاني، ويختلف الأمر عنه في الوضع الجزائري فلقد تم النظر إليها كمقاطعة فرنسية بالكامل، وحاول المستوطنون الجدد محو وهويتها وتم ارتكاب فظائع في حق سكانها ومحاولة طمس هويتهم بشكل لا إنساني.
ولا يُقصَد من ذلك أن المستعمر الإنجليزي لم يرتكب مذابح في حق المصريين كحادثة دنشواي، ولكن ما يقصد من المقارنة ما أوجزه باتريك وولف أن الإبادة الجماعية في الاستعمار الاستيطاني بنية وليست حدثًا، أي إنها في الاستعمار الاستغلالي حدث من خلاله يتم فرض سلطة المستعمر ومواجهة معارضيه والمقاومة ضده وقد لا يتكرر بكثافة، ولكنها في الاستعمار الاستيطاني جوهر الفكرة التي بني عليها، فلا يمكن تصور نجاحه دون إبادة السكان الأصليين بشكل مادي – في الصورة الأكثر شيوعًا – أو سياسيًا عن طريق الفصل العنصري كما حدث في جنوب أفريقيا.
فلسطين نموذجًا
يقول المؤرخ الإسرائيلي النقدي آلان بابيه في لقاء حول كتابه «إسرائيل وجنوب أفريقيا»:
إن هذا التصوير للصهيونية كبرنامج استعماري استيطاني ولدولة إسرائيل كدولة فصل عنصري يحدد أيضًا آلية الحل، مؤكدًا بشكل ساخر أن فكرة حل الدولتين ربما «نتج عنها الكثير من جوائز نوبل للسلام، وجبال من الوثائق، ومئات من المهن الأكاديمية»، لكنها لم تقدم «شيئًا على أرض الواقع!» وباستخدام النموذج الجديد للاستعمار الاستيطاني، فإن الحل بسيط: إنهاء الاستعمار في إسرائيل/فلسطين واستبدال النظام الإسرائيلي بالديمقراطية والمساواة للجميع.
أعاد بابيه تأكيد ذلك في فيديو مسجل منذ أكثر من خمس سنوات أنه يرى الحل في دولة فلسطينية واحدة.
كذلك ووفقًا لباتريك وولف، يتجلى الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي في سياسات الهجرة التي تشجع الهجرة غير المحدودة لليهود بينما تحرم المواطنين الفلسطينيين من لم شمل الأسرة. ويضيف وولف:
ولا يُعَد هذا الرأي مستجدًا، فقادة الحركة الصهيونية التصحيحية مثل فلاديمير جابوتنسكي كانوا ينطلقون بالأساس من رؤية أن «الصهيونية مغامرة استعمارية».
وغني عن البيان أن الاستعمار الإسرائيلي الاستيطاني –إضافة للفصل العنصري في حق العودة، والاستيلاء على الأراضي- قد عمد لإبادة الفلسطينيين جماعيًا عن طريق مذابح عديدة، كمذبحة بلدة الشيخ، ودير ياسين، وقرية أبو شوشة، والطنطورة، وقبية، وخان يونس، والقدس، وصابرا وشاتيلا، والمسجد الأقصى، والحرم الإبراهيمي، غير الإبادة الجماعية التي تجري حاليًا من حصار غزة وقصف مدارس الأونروا، والمستشفيات وسيارات الإسعاف في عملية ممنهجة ومستمرة للقضاء على كافة سبل الحياة دون أي مراعاة لحقوق المدنيين مع نشر دعايات كاذبة حول المتسبب في تلك الجرائم، إضافة لمحاولات الاستيلاء على الإرث الثقافي للمجتمع الفلسطيني حتى على مستوى الأكلات الشعبية مثل الحمص والفلافل التي تم التسويق لها كأكلات إسرائيلية، وهو ما يجعلها حالة استعمار استيطاني كما يقول الكتاب حرفًا.
الحق في المقاومة
حينما طلب الفتوة الجديد، مساعدة أهل الحي في التخلص ممن سماهم البلطجية، اعتلى شيخ وقور حجرًا ضخمًا في منتصف الحي قاطعا الحوار بقوله «أهانهم من استغلهم في السرقة والبلطجة، وأهانوا أنفسهم إذ عاونوه، وما على صاحب الحق إلا المقاومة».
فحين أتى الفتوة لطلب الإتاوة، كان الصراع مع بطش الفتوة وحده، أما حين أحضر رفاقه معه للاستيلاء على منازل السكان، فقد أصبحوا جزءًا من الصراع.
الطبيعة المختلفة للاستعمار الاستيطاني عن الاستعمار الاستغلالي بالشكل السياسي أو العسكري، لا بد وأن يترتب عليها شكل مختلف لمقاومة هذا الاستعمار.
ففي الوقت الذي تقتصر فيه مقاومة الاستعمار العسكري على العمليات الفدائية مثلًا ضد العسكريين فقط طلبًا للجلاء، وهو ما يُعَد مهاجمة المدنيين في ظله عمل شائن بالتأكيد، فإن الأمر يختلف في ظل الاستعمار الاستيطاني، لأنه في ظل الأخير يُعتبر المستوطن نفسه أداة من أدوات الاستعمار، فهو وسيلة من وسائل التوسع الاستعماري، ولا يمكن تصور إنهاء الاستعمار الاستيطاني من دون إنهاء إقامة المستوطنين الجدد في الأراضي المحتلة وإعادتها للسكان الأصليين!
وهذه النتيجة بالتحديد، لن تجعل اقتراح الدولتين (فلسطين – إسرائيل) مطروحًا على طاولة الحلول العادلة – وإن كان سيظل مطروحًا على مائدة السياسة بالتأكيد – وإنما سيذهب لأبعد من ذلك.
وما يجعل هذه النظرية تضع حدًا لسؤال تكرر كثيرًا في وسائط الإعلام الغربية، هل تدين حماس لاعتدائها على المدنيين؟
أرى أن الإجابة الأمثل في سياق ما تقدم من شرح مفهوم الاستعمار الاستيطاني: «أن إسرائيل قد جلبت ذلك لنفسها، فعلينا أن نُدين الاستعمار الاستيطاني الذي استخدم من يفترض كونهم مدنيين كوسيلة للتوسع الاستعماري، كما ندين من تخلى طواعية عن مدنيته في وطنه الأصلي، ووافق أن يكون أداة استعمارية للاستيلاء على حق السكان الأصليين وداعمًا للإبادة الجماعية»، وهو ما يجعل جملة شائعة كـ«الفلسطيني مدني ولو حمل السلاح، والإسرائيلي مستوطن ولو كان يستجم على الشاطئ» تعد تطبيقًا لها أصله الثابت والصحيح في النظرية السياسية.
وهو ما يؤكد أنه في الوقت الذي تُشيع فيه إسرائيل أن حماس تستخدم المدنيين دروعًا بشرية، كانت في حقيقة الأمر هي من تستخدم المدنيين درعًا استعمارية عن طريق المستوطنات، وهي طريقة أصيلة يستخدمها الاستعمار الاستيطاني في إسقاط أفعاله الاستعمارية على المواطنين الأصليين ولكنها قصة أخرى قادمة.