قراءة في رواية أحمد ناجي الخادشة للحياة
بهذه السطور يبدأ أحمد ناجي روايته «استخدام الحياة» التي يمكنك تصنفها كرواية «ديستوبيا» أو ما يعرف بأدب المدينة الفاسدة، ويمكنك أيضًا بسهولة أن تجد تشابهًا واضحًا بينها وبين روايات كثيرة صدرت خلال السنوات الخمس الماضية لتتنبأ بمستقبل هذا الجيل الذي شهد لحظة فوران عظيمة في يناير 2011. رواية ناجي لم تهتم بخلق أجواء حماسية أو مُحبِطة، لم تعطِ الأمر أكبر من حجمه، وإنما كانت معبرة بشكل صادق وصريح عن واقعها وواقعنا. دون اصطناع مبررات، فالمبررات كما كتب ناجي؛ «لم توجد في الحياة أبدًا».
لم أكد أنهي الرواية حتى شعرت بأنني إذا أردت أن أتذكر هذه الأيام البائسة في المستقبل البعيد فلن أجد خيرًا منها لتذكيري.
في قاع وعاء الكراهية
اتخذ أحمد ناجي من «القاهرة» رمزًا لتلك المدينة الفاسدة التي يكرهها بطله، يعرض نهاية القاهرة غير المتوقعة في بداية روايته ثم يبدأ في عرض ذكريات البطل عنها قبل دمارها. الدمار هنا يأتي إثر عواصف ترابية متتالية وموجات من ارتفاع الحرارة وكأن الأرض أرادت أن تبتلع تلك المدينة القميئة، أو قل أرادت أن تهيل عليها التراب بعد أن فقدت الحياة.المفارقة الغريبة أن القاهرة بدأت في التعرض فعلا لموجات من الأتربة والحرارة الشديدة في بداية الصيف التالي لنشر الرواية واستمرت هذه الهبات الحارة تصيبها على فترات متقطعة حتى الآن. في الرواية أيضا يتم نقل العاصمة، بعد زوال القاهرة، إلى مدينة أخرى يتم تسميتها «القاهرة الجديدة». والمثير للاهتمام أيضا أن مشروع نقل العاصمة الحقيقي قد ظهر للنور أيضًا بعد نشر الرواية، ولتكتمل الصورة المريبة لم تجد الحكومة المصرية اسمًا للعاصمة الجديدة سوى «القاهرة الجديدة». هل الواقع سطحي لدرجة تمكننا جميعا من التنبؤ به؟ أم أنه سخيف لدرجة تجعله نسخة من سخريتنا المتخيلة؟ في الحالتين فالمسخرة سيدة الموقف .لكن ناجي لا يعبر هنا عن صراعات السلطة ولا يهتم بالشأن السياسي «بمفهومه الضيق» ولكنه يسرد الحياة من أسفل، من التفاصيل البسيطة في حياة الناس لا التفاصيل الكبيرة في حكايات النخبة والحكام، لتشعر معه وكأنك تقرأ يوميات شخص «عادي»، قد يكون أنت أو أنا، أو شاب تعثرت بوجهه في أحد الشوارع، أو قادته الصدفة ليجلس بجوارك بضع دقائق على أحد مقاعد المترو . «بسام بهجت» لا يخبرك كثيرًا عن نظام الحكم، ولكنه يحدثك عن حياته وعن المجتمع، ومن قاع وعاء الكراهية الذي يعرضه لك ستتمكن أنت وحدك من التكهن بما يدور أعلى الهرم .
الحقيقة سوف تحررك
يقودنا أحمد ناجي عبر بطله «بسام بهجت» وسط أحياء القاهرة وشوارعها ليصف لنا كيف كانت قبل السقوط، تلك المدينة القبيحة التي يتخذها رمزًا لعصر كامل من التشوهات المادية و المعنوية، يستمر ناجي في عكس صورتها في مرآة الحقيقة، يزيل بعض الرتوش الرخيصة ليخدش وجه الحياة فيها، ليعرى زيفها وخبثها وما فعلته في نفوس أهلها.يفعل ناجي كل هذا دون أدنى ملحمية أو تعالٍ على الموقف، هو يمسك بأيدينا ليرشدنا إلى ما يعرفه الجميع، هو يمتلك قليلا من الشجاعة فقط ليخبرنا به، وفي هذا يكمن أحد أبرز أسباب قوة روايته، أنها تخبرنا «الحقيقة». الحقيقة تبقى، حتى لو نُسيت عبر الزمن وحتى لو اجتهد الطغاة في طمس معالمها، فالحقيقة تبقى لأن آثارها باقية، هي أكثر اتساعا من أن تُزال، حتى لو ابتلعت الأرض هذه المدينة، سيظل أثر الحقيقة في نفوس البشر باقيًا، كجرح قديم ترك أثرًا لا يزول.
مرة أخرى ناجي يعبر عن الحياة من أسفل، من تفاصيلها البسيطة، من الدليل المبدئي لاستخدام الحياة في تلك المدينة التي تعتبر المصرحين بالحب كالمصابين بالقذف السريع.
كيف تحكي عن «أدب المدينة القبيحة» بلا «أباحة»
قد يكون هذا هو المدخل الذي يدلنا على منهجية ناجي في «استخدام الحياة »، لطالما كان السؤالان المطروحان حول المنتج الأدبي هما «ماذا تقول؟» و«كيف تقوله؟». وقد اختار ناجي في إجابة السؤال الأول أن يخبرنا في روايته عن الحقيقة، حقيقة تلك الأرض العطبة التي كرهها جيله ثم استعادها – أو ظن ذلك – وما لبث أن فقدها مرة أخرى لينتزع أخيرًا الستائر من فوق عينيه ليرى كم هي قميئة. اختار ناجي أن يحكي عن جيل لم يسلَم من تشويه روحه كما تم تشويه كل شيء في محيطه.أما عن إجابة السؤال الثاني «كيف تقول؟» فهنا كانت الإجابة التي بسببها يقضي ناجي لياليه في أحد سجون القاهرة. و إن كانت المدينة قميئة وبائسة فلا تنتظر مني أن أحكي لك عن سجونها.اختار ناجي لغة ساخرة تجمع بين الفصحى والعامية يمكنني ببساطة أن أصفها ب «لغة الواقع». اللغة عند ناجي وسيط معرفي، لا يهتم بصياغات مركبة ولا جمل ذات طابع جمالي. وحينما يفعل ذلك ينهي تعبيراته الجمالية دائما بألفاظ «صادمة». وعلى أي حال ليس من الطبيعي أن تسمع جملًا جميلة مكتملة في مدينة بائسة كتلك التي نحكى عنها.اختار ناجي أن يكتب روايته دون رقيب على العقل، واللسان، والقلم، فخرجت جمل شخوصه حقيقية للغاية، بما فيها من سب ولعن وألفاظ ترتطم بآذاننا طوال تجوالنا في هذه المدينة. لم يهتم ناجي بأن يجلس على مقعده الخشبي ليلا ليفعل كما يفعل كل الكُتاب «الشطار» ويفتح «معجم الألفاظ المقبولة اجتماعيا» ليستخدمها بدلًا من تلك غير المرغوب فيها من التيار العام للمجتمع.هل اللغة غاية أم وسيلة؟ هي بالطبع وسيلة لدى ناجي، وهو يجيد استخدام تلك الوسيلة ليصل إلى قارئه المنشود، وإن كنت من جيل ناجي فلن تشعر طوال الرواية بأي غربة، فهذه هي لغة زماننا، دون رتوش أو مبالغة. هل هي فاضحة؟ هذا أمر نسبي فالفاضح يختلف باختلاف الزمان والمكان، لكن ناجي لا يهتم بكل هذا، ربما هو يسأل سؤالا آخ. «هل يؤدى هذا اللفظ الفاضح دوره اللغوي بشكل صحيح؟» هل يصل المعنى به واضحًا مكتملًا بحيث يصبح هو الاختيار الأول قبل كل بدائله الأخرى المقبولة اجتماعيا؟ وطالما كانت الإجابة نعم فناجي لن يفكر حتى في هذا السؤال، وإذا كنا نحكي عن أدب المدينة القبيحة والفاسدة، فلِمَ نضيف عليها بعضًا من محسنات اللون والرائحة؟ سيكون هذا وبلا شك «غشًا للزبون»
حينما يقترب الواقع من الفانتازيا
يبدأ ناجي روايته بخطاب مستقبلي من «بسام بهجت» بعد اندثار القاهرة، بسام يقودنا بعد ذلك كمرشد سياحي ناقم على مدينته في خطاب كراهية طويل يتنوع بين التقرير والتحليل الاجتماعي والخطاب الساخر. ينتقل النص بعد ذلك إلى مربع الفانتازيا حيث يتم إرجاع سبب زوال القاهرة إلى جمعية سرية تُسمى «جمعية معماريّي المدينة». يخلق أحمد ناجي لهذه الجمعية تاريخًا طويلا متخيلًا ويزيف به الماضى بشكل متقن لدرجة تجعلك تصدق تلك المعلومات التي يلوكها بسام بهجت بين الفينة والأخرى مستخدما فيها أسماءً لشخوص وأحداث حقيقية من تاريخ القاهرة القديم والحديث، لنجد أنفسنا أمام استدعاء لشخصيات من نوعية «شفيقة الإسكندرانية»، و«محمد طه»، و«شوقي القناوي» و«حفني أحمد حسن».
يعبر بسام في هذا الزمن أيضا عن فقدان الأمل في كل شيء. فقدان الأمل حتى في تجنب الأذى الذي تلحقه بك القاهرة وسكانها، لتتلخص كل مجهوداتك في محاولة الانعزال والخروج بأقل الخسائر الممكنة.في نهاية الألفية الأولى بدا أكيدًا أن الأيديولوجيا قد ماتت لتحل محلها الثقافة، والسياسة تحولت إلى علم الإدارة. لا أحلام بتحقيق المستحيل في ذلك العصر. بدا واضحًا بالنسبة لي ولآخرين أنه ما من أمل، والألم هو قدر الإنسانية، لا نستطيع إيقافه أو القضاء عليه نهائيا. نستطيع أن نبني سدودًا، لكنها سرعان ما ترشح، تصيبها الشروخ وتنهار بكل بساطة كغشاء فقاعة صابون تنفثئ.في الزمن الثاني يظهر بسام بهجت الكهل الأربعيني كرجل يحكى عن زمنٍ ماضٍ وعن مدينة طالما كرهها، عن فشل في الانتقام و فشلٍ في الإنقاذ، وعن عصر ما بعد زوال القاهرة الذي خلق فيه الناس صورة جميلة مُدعاة عن كل ما فُقد، فكل ما ينتمي لحقبة ما قبل زوال القاهرة يوضع في نفس الحزمة لدرجة تجعل أعمال «سميرة سعيد» في نفس مستوى أعمال «أم كلثوم». عن عصر ما بعد الدول القومية التي تديرها سلطات عسكرية وأجهزة أمنية، عن عصر الشركات الكبرى واستبدال الصخب والظلم والقتل بالملل والاكتئاب والانتحار، وبالطبع تواجدت «الجمعية» في هذا الزمان كمعبر عن السلطة الجديدة، وانفضت الدنيا حول بسام الذي يبدو وحيدًا للغاية هنا، لا يشاركه الأحداث سوى الشخصيات النسائية القوية التي ظلت على قيد الحياة من الزمن الأول.
تفردت «استخدام الحياة» بنهج جديد آخر على مستوى السرد، توقف نص أحمد ناجي في بعض الأحيان لتكمله رسوم «أيمن الزرقاني». يقول ناجي إن أسلوب كتابته «المشهدية» تناسب صناعة الكوميكس بشكل كبير، ويقول الزرقاني أنه شعر أن نص ناجي ربما سيسرد عن طريق الكوميكس بشكل أفضل، حيث أن خيال القارئ هو ما سيكمل الحكاية في الفراغ الزمني بين كل مربع مرسوم والمربع الذي يليه.في حقيقة الأمر فقد خرج هذا التعاون بشكل جيد جدًا، خلق الكوميكس وسيطًا جديدًا لإيصال أفكار ناجي عبر رسوم الزرقانى، أتى ذلك في سياق متصل في بعض الأحيان، وصنعت الرسوم سياقًا منفصلا ولكنه مكمل للنص في أحيانٍ أخرى، وربما ستظل – على وجه الخصوص – رسوم الزرقاني عن شخوص المدينة، نصف البشرية/ نصف الحيوانية، عالقةً في ذهن القارئ بعد انتقال السرد من نص ناجي إليها.
عن الكتابة لا الكاتب
اخترت في هذا المقال أن أتحدث عن رواية استخدام الحياة لا عن الكاتب أحمد ناجي، لأن ليالي الكاتب في ظلام السجن سوف تنتهي، عاجلا أم آجلا، ولكن الكتابة هي ما سيبقى. وبعيدًا عن أي أحكام قد تتأثر بموقف الكاتب الحالي، وبعد التأكيد على إيماني بحرية الفكر والخيال والتعبير والنشر، ثم تنحية كل ذلك جانبًا، وبالحكم على المنتج من منظور أدبي وليس من منظور حقوقي، فقد وجدت «استخدام الحياة» روايةً معبرة عن واقع هذا الجيل، شديدة الشبه بزمانه، تشبه لغتها عمارة مدنه، التي تجمع بين الجميل الشاعري والفظّ القبيح جنبًا إلى جنب. تجمع بين «الاستخدام» و ماديته و«الحياة» ومعنويتها. تكره اختزال إحباطات هذا الجيل في فشل القاهرة، فترد على ذلك باختزل خطاب كراهيتها تجاهها وحدها. وجدتها «رواية» تسرد أحداثًا خيالية فيقتبسها الواقع وتسرد أحداثًا واقعية وتدعي فيها الخيال، فتصل دون إقحام إلى مغزى فن الرواية .ربما كره البعض تلك الرواية لأنهم يكرهون زمانهم، وعلى أي حال من أحبوها يكرهون زمانهم أيضًا. وكما بدأ «ناجي» روايته، ننتهي بقول «لوكريتيوس»: «الولادة تتكرر من شيء إلى شيء، والحياة لا تُعطى لأحد كملكية وإنما كاستعمال».