لماذا أعادت التشريعات المعاصرة تعريف الوقف؟
كان من أهم دوافع تقنين أحكام الأوقاف في تشريعات معاصرة: كثرة الآراء الفقهية وتضاربها في هذا المجال، وتدني أداء الأوقاف في عمومها، وتفشي الفساد في مختلف جوانبها؛ وكلها سلبياتٌ تعلقتْ في المقام الأول بـ«النِظارة» على الوقف، إلى جانب دوافع أخرى كثيرة تناولتها في كتابي عن «الأوقاف والمجتمع والسياسة».
وقد صدرت التشريعاتُ الوقفية الحديثةُ والمعاصرة في البلدان العربية تباعًا ابتداءً من نهاية النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري/ قرب منتصف القرن العشرين الميلادي. واتفقت كل تلك التشريعات تقريبًا على أمرٍ أساسي وهو : توسيعُ ولايةِ الجهات الحكومية على الأوقاف وإخضاعها لمركزية الإدارة الحكومية، وتقليصُ ولاية الجهات الأهلية والمجتمع المدني: أفراداً كانوا، أو جمعيات، أو مؤسسات نفع عام. وكانت هذه هي الأسباب الرئيسية لإعادة تعريف الوقف في تلك التشريعات، حتى إن قانون الوقف المصري الصادر برقم 48 لسنة 1946م قد أخرج الوقف عن معناه الذي عرف به منذ الفتح الإسلامي للبلاد في سنة 21 هجرية، وحوّله إلى «وصية بالمنافع» على حد وصف الشيخ أحمد فرج السنهوري، وكان رحمه الله أحد كبار واضعي قانون الوقف المصري المشار إليه.
وقد اجتهدت بعض البلدان في تحديث تشريعاتها الوقفية التي صدرت خلال الربع الأول من القرن الخامس عشر الهجري/العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، ومنها على سبيل تشريعاتُ الأوقاف في كل من السودان، والأردن ، والجزائر، والمغرب. وفيما يلي رؤية مقارنة بين هذه القوانين فيما يخص «تعريف الوقف» وهي مسألة كانت – ولا تزال – من المسائل الجوهرية في الأوقاف قديمًا وحديثًا.
السودان
لم يرد في قانون الوقف الخيري الإسلامي السوداني الصادر برقم 116 لسنة 1970م تعريف مباشر لما هو الوقف؟ وإنما ورد فيه ما يفيد التعريف الذي تبناه هذا القانون عمليًا أو إجرائيًا. فالمادة الخامسة منه نصت على أنه: «يجوز وقف أي مالٍ بما في ذلك العقار، والمنقول، وأسهم الشركات، وحصص الشركات، والسندات وجميع الأوراق المالية والتجارية التي تقبل طبيعتها الوقف؛ متى كانت تلك الأموال مستغلة استغلالاً جائزًا شرعًا». ونصت المادة السادسة من هذا القانون أيضًا على جواز أن يكون الوقف مؤقتًا ومؤبدًا؛ إلا أوقاف المساجد، فلا تكون إلا مؤبدة، وإذا أطلق الوقف كان مؤبدًا.
وعندما صدر قانون هيئة الأوقاف الإسلامية لسنة 1996م لم ينص على تعريف الوقف إلا ما جاء في م/3 من تفسير للمقصود بكلمة «وقف»، ونصت على أنه «يقصد به أى وقف يخضع لأحكام الشريعة الإسلامية سواءً كان خيريًا أو ذريًا، وتعتبر أراضي المساجد والخلاوي وأموالها وأراضي مقابر المسلمين أوقافًا دون تسجيل». ولا يتعبر هذا تعريفًا للوقف؛ بقدر ما هو وصف للأوقاف التي تدخل تحت ولاية هيئة الأوقاف المشار إليها.
ولكن تعريف الوقف بشكل مباشر ورد في قانون ديوان الأوقاف القومية الإسلامية في سنة 2008م. فالمادة الثالثة من هذا القانون نصت على أن لفظ «وقف»: «يقصد به حبس الأصل وتسبيل ريعه أو ثمره، والتصرف بمنفعته في الحال أو المآل، سواء كان وقفًا خيريًا أو أهليًا أو مشتركاً. وتعتبر أراضي المساجد والخلاوى والزوايا وأراضي مقابر المسلمين وأموالها أوقافًا ولو لم تسجل». وعرّفت المادة نفسها «الوقف القومي» بأنه: يقصد به الوقف الخيري أو الأهلي أو المشترك الذي يوقف لجهة من جهات البر الإسلامية التي تعمل في أكثر من ولاية، والوقف الإسلامي الذي تتعدى منفعته أكثر من ولاية، والوقف الإسلامي السوداني الموجود خارج السودان.
ويشيرُ تعريف الوقف على النحو السابق، سواء في القانون 116 لسنة 1970م، أو في القانون رقم 16 لسنة 2008م، إلى أن المشرعَ السوداني قد أخذ بأكثر الآراء الفقهية تيسيراً ومرونة في تحديد ما يجوز وقفه بالنص على مصطلح «المال» وليس الملكية، أو العين، كما درجت الصياغات الفقهية التقليدية؛ بل إن هذا التقنين قد استوعب في حينه أغلب الأنواع المستحدثة للملكية. وقد ترسم في ذلك خطا بعض ما ورد بشأن جواز وقف الأسهم والسندات في قانون الوقف المصري الذي صدر بالقانون رقم 48 لسنة 1946م.
ثم إن المشرع السوداني قد ذهب في تقنينه الوقفي إلى أقصى درجات المرونة في مسألة تأبيد أو تأقيت الوقف؛ فأجاز المبدأين بحسب ما يريده الواقف، ولم يتقيد بالتأقيت كما في القانون المصري ، ولا بالتأبيد كما في القانون المغربي، أو كما في القانون اليمني مثلاً. وفيما ذهب إليه المشرع السوداني توسيعًا لحرية الاختيار أمام الراغبين في الوقف. ولعل هذا الفرق في درجة المرونة يرجع إلى أن الدولة في السودان تنزع دومًا نحو اللامركزية والمرونة في علاقتها بالمجتمع.
ومع هذا، فإن مما يؤسف له، أنه لم يمض عام واحد على صدور قانون الوقف السوداني المذكور، حتى أصدر مجلس قيادة الثورة السودانية برئاسة جعفر نميري في مطلع سبعينيات القرن الماضي قانونًا آخر باسم قانون الأوقاف الخيرية رقم 19 لسنة 1971م، وبموجبه بسطت السلطة الحكومية العسكرية سيطرتها على الأوقاف الخيرية، وأنشأت لجنة لها سلطة تغيير مصارف الوقف وتعديل نصوص حجج الواقفين دون مراعاة لشروطهم أو اختياراتهم الحرة. وقد ترسم مجلس الثورة السودانية في ذلك خطا مجلس قيادة الثورة المصرية فيما فعلته في الأوقاف المصرية غداة ثورة يوليو في سنة 1952م. ولكن سرعان ما تغلبت سمة اللامركزية على إدارة الدولة السودانية، ومن ثم تمت إعادة تعريف الوقف وتحديد علاقته بالدولة والمجتمع بدرجة عالية من المرونة، على نحو ما تضمنه قانون الأوقاف القومية الإسلامية رقم 16، الصادر في سنة 2008م .
ليبيا
وفي ليبيا، صدر قانون «أحكام الوقف» في سنة 1972م، ونصت مادته الأولى على أن: «الوقف هو حبس العين وجعل غلتها أو منفعتها لمن وقفت عليه». وقررت المادة الثانية، أن الوقف يتم بالإشهاد دون توقف على الحوز. والمقصود هو: أن الوقف ينعقد صحيحًا حتى في حالة عدم حيازة العين الموقوفة وقت إنشاء الوقف. وهذا تيسير محمود في إجراءات إنشاء الأوقاف.
ولكن التعريف الذي نصت عليه المادة الأولى هو تعريف تقليدي لا اجتهاد فيه ولا تجديد. بل إنه بصيغته المذكورة يتضمن كثيرًا من الغموض بشأن صرف «غلة» العين الموقوفة أو «منفعتها». فالنص يقول، إنها تصرف «لمن وقفت عليه». وهذا الغموض كثيرًا ما جرى تفسيره برؤية متشددة غير المرنة تتبناها السلطة، وليس في صالح الرؤية المتسامحة لمؤسسي الأوقاف.
وإذا فسرنا «مَنْ» – الواردة في النص السابق ذكره – تفسيرًا واسعًا على أنها اسم موصول مشترك بمعنى أنه يشير إلى العاقل: المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث؛ فسينحصر المستحقون في غلة الوقف أو منفعته طبقًا لنص المادة المذكورة في الآدميين، ومن ثم لا يجوز أن يخصص الواقف ريع وقفه أو غلته لجهة أو مؤسسة أو هيئة خيرية ذات شخصية معنوية مستقلة.
وهذا جمود وتضييق لأبواب الخير لا مبرر له، ولا يراعي أهمية الدور الذي تقوم به منظمات العمل الخيري ومؤسساته المختلفة. وتتجلى تقليدية تعريف القانون الليبي للوقف وعدم مرونته أيضًا فيما نصت عليه المادة الأولى المشار إليها على أن يكون الموقوف «عينًا». ومفهوم العين يشمل المنقول، والثابت من العقارات. ولكنه لا يشمل الصور الجديدة من أنواع الملكية: مثل حقوق الملكية الفكرية بأنواعها ومنافعها المختلفة. وقد يكون المشرع الليبي معذورًا في ذلك الوقت؛ فهو قد جاء في بداية الموجة الثانية من التشريعات الجديدة للأوقاف في سبعينيات القرن الماضي من جهة؛ وآنذاك لم تكن الصيغ المستحدثة من الملكية قد شاعت أو أخذت حيزًا مؤثرًا في النظم الاقتصادية المعاصرة من جهة ثانية.
قطر
أما قانون الوقف رقم 8 لسنة 1996م في دولة قطر، فقد نصت المادة الثانية منه على أن: «الوقف: هو حبسُ مالٍ معين يمكن الانتفاع به، مع بقاء عينه، على مصرف مباح شرعًا». وتنقسم أنوع الوقف طبقًا لهذا التعريف إلى: وقفٍ خيري، وهو ما خصصت منافعه لجهة بر ابتداءً، ووقفٍ أهلي وهو ما خصصت منافعه للصرف على النفس أو الأهل والذرية، على أن ينتهي في جميع الأحوال إلى جهة بر معينة. وفي رأينا أن هذا التعريف هو من أكثر تعريفات الوقف مرونة مقارنة بكثير من التشريعات الوقفية العربية الحديثة. ويتجلى هذا في أن المشرع آثر استخدام مفهوم «المال» بدلًا من «العين»، أو «الأصل» للإشارة إلى الشيء الموقوف.
ومفهوم المال في الفقه أشمل من الأصول الاقتصادية الثابتة والمنقولة؛ فهو يشمل الأرصدة النقدية، والأوراق المالية من الأسهم والسندات وأذون الخزانة، وغير ذلك مما ينتفع به، وأجازه الشرع، وأمكنت حيازته.
وطبقاً لهذا التعريف الذي نصت عليه المادة الثانية من قانون الوقف في قطر؛ لم يعد ثمة وجه للخوض في الجدال القديم حول جواز أو عدم جواز وقف المنقولات، أو وقف النقود؛ فقد أحدثت التطورات الاقتصادية المعاصرة تغييرات جوهرية في مكونات الثروة الاقتصادية، وأعادت هيكلة مصادر الثروة بصورة مختلفة اختلافًا يكاد يكون جذريًا عما كانت عليه في أزمنة الفقه التقليدي عمومًا، وفقه نظام الوقف خصوصًا.
ولم يعد من المعقول ولا من المقبول غض الطرف عن الصيغ الحديثة للملكية في صورها المادية مثل: الإيداعات البنكية، أو السندات أو الأسهم في شركات استثمارية، أو الملكية في صورها المعنوية والأدبية مثل: حقوق التأليف، والترجمة، والنشر، وحقوق الاختراع، والنماذج التدريبية، والعلامات التجارية…إلخ.. وهذه النوعيات من الملكية تدخل في نطاق «المال» ويمكن الانتفاع بها مع بقاء أصلها، ومن ثم يمكن وقفها طبقًا للتعريف الذي تبناه قانون الوقف القطري؛ طالما أنها تعمل في نشاطات مشروعة وغير محرمة بنصوص قطعية الثبوت والدلالة.
الأردن
وقد تبنى قانون الوقف الأردني رقم 32 لسنة 2001م تعريفًا تقليديًا للوقف يكاد يكون مقتبسًا من التعريفات الفقهية القديمة، وقد نصت عليه م/2 من هذا القانون، وحددت أنواعَه على نحو ما جرى عليه العرف في تقسيم أنواع الوقف. فالوقفَ طبقًا لتلك المادة هو «حبسُ عينِ المال المملوك على حكم ملك الله تعالى على وجه التأبيد، وتخصيصِ منافعه للبر، ولو مآلا. ويكون الوقفُ خيريًا إذا خصصت منافعه لجهة بر ابتداءً، ويكون ذريًا إذا خصصت منافعه لشخص أو أشخاص معينين وذرياتهم من بعدهم، ثم إلى جهة من جهات البر عند انقراض الموقوف عليهم».
وإذا كان هذا التعريف يشترك مع التعريف الوارد في القانون القطري من حيث النص على وقف «المال»؛ إلا أن نص القانون الأردني جاء أقل مرونة من نظيره القطري؛ حيث قيد هذا المال بعدة قيود أهمها: أن يكون «مملوكًا» ملكية تامة، وأن يكون الحبس، أو الوقف منصبًا على «عين المال» ذاته، وأن يكون الوقف «على وجه التأبيد» وليس التأقيت. ولا يجوز طبقًا لهذه القيود وقف المنافع، أو حقوق الارتفاق وحدها على سبيل المثال.
صحيح أن عدم الجواز هذا يتفق مع أخذِ المشرع الأردني بمبدأ «تأبيد الوقف»؛ إلا أنه يضيق من نطاق المبادرات الخيرية؛ التي يشهد الواقع أنها قليلة أصلاً. كما أنه يقصر تلك المبادرات على الفئات التي تمتلك أعيانًا اقتصادية ملكيةً تامة وتدر منافع مع بقاء عينها. وكان الأولى أن يتبنى المشرع الأردني تعريفًا أكثر مرونة ليوسع نطاق الوقف ويشمل كل ما هو «مال» وفيه منفعة مع بقاء عينه ولو لمدة، وأمكنت حيازته، وأجازه الشرع.
الجزائر
اختار المشرع الجزائري تعريفًا تقليديًا للوقف مثله مثل المشرع الأردني الذي عرضنا تعريفه في المقال السابق، مع بعض الاختلافات في الصياغة. فقد نصت م/3 من قانون الوقف الجزائري رقم 91ـ – 10، مؤرّخ في 12 شوال 1411هـ الموافق 27 أبريل 1991م، على أن الوقفَ هو «حبس العين من التملك على وجه التأبيد، والتصدق بالمنفعة على الفقراءِ، أو على وجه من وجوهِ البرِ والخير».
وهذا التعريف يختلف عن تعريف القانون الأردني في نقطة مهمة وهي: تقديم النص على «التصدق بالمنفعة على الفقراء»، وهو اتجاه حسن، ويأخذ في اعتباره ضرورة إسهام الوقف في الحد من ظاهرة الفقر التي تضرب قطاعات واسعة من أبناء المجتمعات المعاصرة. ولكنه اتفق مع التعريف الوارد في القانون الأردني من حيث الأخذ بمبدأ «تأبيد الوقف»؛ ومن ثم فإنه يضيق نطاق المبادرات الخيرية الوقفية؛ ومن ثم فهو أقل مرونة في تناوله للمبادرات الطوعية الاجتماعية.
ولم يحدد القانون الجزائري في تعريفه للوقف المقصود بمفاهيم: «الفقر»، و«البر»، و«الخير»،، ولا المقصود بـ «الأعيان» التي يجوز وقفها؛ وكان الأولى أن يحددها ولو على سبيل المثال، أو بالإحالة إلى تعريفات معتمدة لدى جهات رسمية أخرى، أو تشريعات جزائرية أخرى؛ وذلك حسمًا للجدل والاختلاف عند التطبيق، أو عند نشوب نزاعات بشأن الوقف ومصارفه أمام الجهات القضائية.
اليمن
أما المشرع اليمني، فقد عرف الوقف في القانون رقم 23 لسنة 1992م في م/3 منه بأنه «حبسُ مالٍ، والتصدق بمنفعته أو ثمرته على سبيل القربة تأبيدًا، وهو نوعان: وقف أهلي، ووقف خيري». وجاء في م/4 أن «الوقف الأهلي هو ما وقف على النفس أو الذرية، والوقف الخيري هو ما وقف على جهات البر العامة والخاصة(مثل كوائن زبيد)، والكوائن عبارة عن أوقاف من واقفين متعددين جُهِلَ ما وقفه كلُّ واحدٍ منهم وجهات مصارفها، فضُمت إلى الأوقاف العامة، وصُرف ما عين عليها للمدارسِ والمساجدِ وغيرها».
وبالمقارنة بين هذا التعريف والتعريفات الواردة في قوانين الوقف في كل من: قطر، والأردن، والجزائر؛ يتبين أن المشرع اليمني كان أكثرهم دقة ومرونة، وأنه كان أكثرهم احترازًا لجهة المحافظة على مفهوم الصدقة الجارية باعتباره النواة الصلبة للوقف.
فالمشرع اليمني في تعريفه، اختار النص على «المال»، ومن ثم اختار أن يوسع نطاق ما يمكن وقفه؛ بخلاف كل من: المشرع الأردني، والمشرع الجزائري؛ اللذين تمسكا بالنص على وقف «العين»، أو «المملوك»، وهو اختيار يؤدي إلى تضييق نطاق ما يجوز وقفه، ويتجاهل التغيرات الحديثة في أنماط الملكية في الاقتصاد المعاصر كما سلف القول.
كما أن المشرع اليمني ذهب أيضًا إلى النص على «المنفعة»، و«الثمرة» معًا وهو ما يفتح الباب لاستيعاب أنواع مختلفة من الأموال لتكون محلاً للوقف؛ فبعض الأموال تكون لها منافع عينية كحقوق الاستعمال وحقوق الاستغلال، أو منافع مجردة كحقوق الارتفاق مثلاً، وبعضها تكون لها ثمار مثل: المزراع، والحدائق، والبساتين. ولم يكتف المشرع اليمني بالنص على المنفعة فحسب كما فعل كل من: المشرع القطري، والمشرع الأردني، والمشرع الجزائري. وهذا الاتجاه الذي اختاره المشرع اليمني فيه مرونة وتوسعة تستوعبان أنواعًا متعددة من الأموال التي يجوز وقفها.
وإضافة إلى ما سبق، نجد أن نص المشرع اليمني في تعريفه للوقف على أنه «قربة» قد أصاب كبد حقيقة الوقف باعتباره صدقة جارية، مقصدُها الأعلى هو أن يتقرب بها الواقف إلى رب العالمين. ولئن كان مفهوم القربة معلومًا من الوقف بالضرورة، إلا النص عليه أولى وأسلم.
ورغم أن تعريف القانون اليمني للوقف يتسم بقدر كبير من المرونة والسعة كما أوضحنا؛ إلا أنه قد أخذ بمبدأ «تأبيد الوقف» شأنه شأن القانون الأردني، والقانون الجزائري. وثمة اجتهادات جديدة ترجح الأخذ بمبدأ تأقيت الوقف بمدة زمنية معينة، أو بطبقتين أو جيلين من أجيال الواقف؛ وذلك أخذًا بآراء بعض فقهاء المذاهب، ومراعاة لاعتبارات عملية في واقع المجتمعات المعاصرة، وهو اتجاه نميل إليه ونرجحه. وقد سبق أن أخذ به المشرع المصري في قانون الوقف رقم 48 لسنة 1964م.
وإذا ذهبنا إلى سلطنة عمان، سنجد أن المشرع العماني اختار في قانون الوقف الصادر برقم 65 لسنة 2000م، أن يعرف الوقف في المادة الثامنة تعريفًا إجرئيًا ينص على أنه: «يشترط في الشيء المراد وقفه أن يكون مالاً متقومًا، قابلاً للانتفاع به، مملوكًا للواقف ملكًا تامًا ومعلومًا له علمًا نافيًا للجهالة عند إنشاء الوقف، ويشترط في وقف المسجد بالإضافة إلى ذلك أن يكون مفرزًا عند إنشاء الوقف».
وهذا التعريف الذي نص عليه المشرع العماني يتسم بالمرونة شأنه شأن أغلب التعريفات الواردة في التقنينات الوقفية الحديثة. فقد اختار مصطلح «المال» بدلاً من «الملكية»، ثم اشترط أن يكون هذا المال متقومًا؛ أي أن يكون محرزًا ويجوز الانتفاع به شرعًا. وهذا الاشتراط لا يضيف شيئًا جديدًا؛ حيث إنه من قبيل البديهيات في أي عمل خيري بمعايير المرجعية الإسلامية. ولكن النص في المادة نفسها على أن يكون هذا المال: مملوكًا ملكًا تامًا للراغب في الوقف؛ فيه شيء من التضييق والحصر لما يجوز وقفه في الملك التام. وهذا الشرط يستبعد حالات لا يكون فيها الراغب في الواقف حائزًا للملك التام؛ كأن يكون مالكًا للمنفعة وحدها، أو للعين وحدها.
صحيح أن التعديل الذي تم إدخاله في قانون الوقف رقم 54/2013 م قد سمح بإنشاء مؤسسات وقفية ذات نفع عام؛ وهو تطور جديد وجدير بالتنويه لكونه يعيد وصل قطاع الأوقاف بمؤسسات المجتمع المدني على نحو مباشر، وهو ما طالبنا به مرات عدة في بحوثنا السابقة عن أحوال الأوقاف في البلدان العربية؛ إلا أن استمرار اشتراط الملك التام في المال الموقوف سيظل يمثل عقبة أمام بعض الراغبين في الوقف ولا تسمح ملكياتهم للمنفعة ، أو للعين وحدها بالتصدق بها على سبيل الوقف طبقًا لأحكام قانونه في السلطنة.
المغرب
وفي المغرب، يخضع نظامُ الوقف في المملكة لسلسلة من الظهائر (القوانين) التي يرجع تاريخها إلى فترات زمنية بعيدة، ومن أهمها الظهير الشريف المؤرخ في 16 شعبان 1331-21 يوليو 1913 المتعلق بتحسين حالة الأحباس العمومية. والظهير الشريف رقم 1.77.83 بتاريخ 24 شوال 1397 – 8 أكتوبر 1977 في شأن الأحباس المعقبة والمشتركة. ولم يتضمن أي منهما تعريفًا محددًا للمقصود بالوقف. وفي 8 من ربيع الأول سنة 1431هـ الموافق 23 من فبراير سنة 2010م، صدر الظهير الشريف رقم 1.09.236 بشأن «مدونة الأوقاف» في المملكة المغربية. وقد ورد التعريف في المادة الأولى منه وهو أن: «الوقف هو كل مال حبس أصله بصفة مؤبدة أو مؤقتة، وخصصت منفعته لفائدة جهة بر عامة أو خاصة. ويتم إنشاؤه بعقد، أو بوصية، أو بقوة القانون. يكون الوقف إما عامًا، أو معقبًا، أو مشتركًا».
ويعبر هذا التعريف عن أن المشرع المغربي قد اختار الأخذ بأكثر الاجتهادات الجديدة انفتاحًا ومرونة في تعريف الوقف، وانضم بذلك إلى من سبقوه من المشرعين في بعض البلدان العربية. فهو قد ذهب مذهب المشرع السوداني، والمشرع القطري، والمشرع اليمني إلى أن «المال»، وليس «الملكية»، هو موضوع الوقف؛ فكل مال يحبس أصله يكون وقفًا. وسبق أن نوهنا إلى أن مصطلح «المال» يوفر درجة أعلى من المرونة وحرية الاختيار أمام الراغبين في الوقف، مقارنة بمصطلح «الملكية».
ثم إن المشرع المغربي نص صراحة على جواز التأبيد والتأقيت في الوقف؛ وفتح بذلك بابًا واسعًا أمام المتبرعين في اختيار ما يناسبهم، ولا يحصرهم في اختيار «التأبيد» فحسب مثلما ذهب المشرع الأردني، والجزائري، واليمني على سبيل المثال. وزاد المشرع المغربي التعريف الذي اختاره مرونة بأن نص على أن إمكانية تخصيص منفعة الموقوف لجهة بر أو إحسان عامة، أو خاصة، وأجاز إنشاء الوقف بعقد، أو وصية، أو بقوة القانون. ومن شأن هذا كله أن يسهم في توسيع أبواب الدخول في الوقف وترغيب المحسنين فيه. ويمكن أن يكون هذا التشريع المغربي نموذجًا تحتذيه البلدان الأخرى التي تسعى لوضع تشريع وقفي جديد، أو لتعديل التشريع الذي ينظم أوقافها وتحديثه.
تونس
في تونس، لا يوجد تشريع للوقف أو الحبس منذ سنة 1956م أي من بداية عهد الاستقلال. وفي أعقاب الثورة التونسية التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي في مطلع سنة 2011م، تشكلت لجنة لإعداد مشروع قانون للأوقاف، وأنجزت هذه اللجنة مشروع القانون في 144 فصلاً. ولكنه ظل حبيس الأدراج ولم يناقشه المجلس التشريعي ولم يصدره حتى كتابة هذه السطور. ونظرًا لأهمية الاجتهادات التي تضمنها هذا المشروع، عمدنا إلى تناول ما ورد فيه بشأن تعريف الوقف، مع مقارنته بغيره من القوانين الوقفية الأخرى.
عرف مشروع القانون الوقفي التونسي الوقفَ في الفصلين الأول والثاني. فالفصل الأول، ينص على أن «الوقف تحبيس مال وتسبيل منفعة». والفصل الثاني، ينص على أن الوقف عام، أو خاص، أو مشترك. والوقف العام ما خصصت منفعته في وجوه الخير ابتداءً أو مآلاً، والوقف الخاص ما كان لأشخاص معينين بذواتهم أو صفاتهم على أن يؤول عند انقطاعه إلى جهة برّ عامّة وفق ما يضبطه هذا القانون. والوقف المشترك ما تصرف منفعته لأشخاص معيّنين ولجهة برّ معًا.
ويتسم هذا التعريف بالمرونة شأنه شأن التعريف الوارد في قوانين الوقف في كل من قطر، واليمن، والمغرب؛ من حيث اختيار مصطلح «المال» للإشارة إلى الموقوف. ولكن إذا نظرنا إلى أنواع الوقف التي نص عليها هذا المشروع، يتضح أن فيها خلطًا بين الوقف الأهلي أو الذري وهو ما يسميه مشروع القانون «الوقف الخاص»، والوقف الخيري، وهو ما يسميه المشروع «الوقف العام». ويتجلى الخلط فيما نص عليه المشروع بشأن تعريف «الوقف العام». فقد عرفه بأنه «ما خُصصت منفعته في وجوه الخير ابتداءً أو مآلاً».
ولا يقع الخلط بالنص على تخصيص المنفعة ابتداءً في وجوه الخير بمعنى تصنيف الوقف، فهذا وقف خيري بلا خلاف، وإنما يقع الخلط بالنص على تخصيصه في وجوه الخير «ابتداءً أو مآلاً»، واعتراضنا هنا على «أو مآلاً». فنص الواقف في وثيقة وقفه بأن يؤول وقفه الخاص، أو الذري إلى الخيرات لسبب أو لآخر، لا يسوغ تصنيفه ابتداءً ضمن «الوقف العام» أو الخيري.
وكل ما هنالك هو أن الوقف الذري أو الخاص عندما ينقطع المستحقون فيه، أو تنتهي مدة تخصيصه لأشخاص محددين من الذرية أو من غيرهم، فإنه ينتقل بشرط الواقف ليصبح وقفًا عامًا أو خيريًا. ولحظة انتقاله تلك هي لحظة نشأته كوقف خيري، وهي لحظة خاصة به، ولا يصح خلطها بالوقف العام أو الخيري أو دمجها معه في مادة قانونية واحدة؛ وإلا لما جاز أن ينص مشروع القانون على الوقف الخاص ويعرفه بأنه «ما كان لأشخاص معينين بذواتهم أو صفاتهم، على أن يؤول عند انقطاعه إلى جهة برّ عامّة وفق ما يضبطه هذا القانون»؛ فهذا تداخل وخلط واضح بين النوعين «العام والخاص»، والصحيح هو حذف «أو مآلاً» من تعريف الوقف العام، والاكتفاء بالنص على أيلولة الوقف الخاص للعام وفق ما ورد في تعريفه بالمشروع منعًا لتكرار المعنى، وتفاديًا لما يمكن أن يترتب على ذلك من مشكلات في التطبيق العملي. فللوقف الأهلي أو الخاص أحكام، وللوقف العام أو الخيري أحكام.
ومن مظاهر التجديد والمرونة في مشروع القانون التونسي للوقف أيضًا أنه أجاز أن يكون الوقف مؤبدًا ومؤقتًا، وأجاز أن يكون ناجزًا أو مضافًا، وتضمن عددًا آخر من الاجتهادات التي لو قدر له أن يصدر؛ لكان من شأنها تجديد حيوية نظام الوقف وإحياء دوره في بناء مجال تعاوني مشترك بين المجتمع والدولة.