لماذا قررت حماس فتح «الصندوق الأسود» للأسرى الآن
«الصندوق الأسود»، هو المسمى الذي أطلقته كتائب عز الدين القسام على تلك الأسرار التي تتعلق بحرب غزة الأخيرة في عام 2014. فخلال مهرجان «عهد الانتصار للقدس والشهداء الأبرار» الذي أقامته الكتائب في نوفمبر 2014 في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة للاحتفال بشهداء الحرب، أظهرت صندوقًا أسود كبيرًا كُتب عليه باللغتين العربية والعبرية (الصندوق الأسود)، وفيما بعد كشفت الحركة عن أن ذلك الصندوق الأسود يحوي الكثير من أسرار الحرب، والتي لن تكشف الحركة عنها إلا بثمن كبير يدفعه الاحتلال الإسرائيلي.ولم تحمل المعلومات التي كشف عنها أبو عبيدة، المتحدث الرسمي لكتائب القاسم، في الأول من إبريل 2016، بشأن الجنود الإسرائيليين المحتجزين لديها، أي جديد. فصور الجنود الإسرائيليين التي تم الكشف عنها، قد تم تداولها إعلاميًّا خلال الشهور السابقة التي تلت حرب غزة الأخيرة. ولكن جاء هذا الإعلان بمثابة الاعتراف الأول الرسمي من جانب الكتائب بأسرها لهؤلاء الجنود (أو الاحتفاظ بجثامينهم)، وهو الأمر الذي يثير تساؤلًا منطقيًّا، مفاده: لماذا قررت حماس فتح ملف الأسرى الآن، مع اقتراب الذكرى الثانية لحرب غزة الأخيرة؟.
خطاب أبي عبيدة لم يأتِ بجديد
في مساء الجمعة الأول من إبريل عام 2016، جاء الإعلان الرسمي الأول من جانب كتائب عز الدين القسام عن احتجازها لأربعة جنود إسرائيليين كأسرى، وذلك بعد أشهر عديدة من انتهاء حرب غزة الأخيرة، تبنت خلالها الحركة خطابًا مُلتبسًا حول مصير هؤلاء الجنود.
بدأت قصة الجنود الأسرى في 20 يوليو 2014، حيث أعلنت حماس أسرها الجندي الإسرائيلي «شاؤول آرون».
ففي أكتوبر 2014، أكدت تقارير صحفية بناءً على تصريحات من مسئولين داخل حماس، وجود أسرى إسرائيليين أحياء من جيش الاحتلال أُسِروا خلال الحرب الأخيرة، وكذلك جثث لجنود قُتلوا في معارك مباشرة مع مقاتلي القسام في الشجاعية وبيت حانون ومناطق أخرى. وفي 14 ديسمبر 2014، جاء خطاب أبي عبيدة، الذي قال فيه: «لدينا جنود»، ولم يقل لدينا جندي في إشارة إلى شاؤول أرون.وجاء التطور الأهم في يوليو 2015، حيث أعلنت حماس يوم 7 يوليو على لسان خالد مشعل رئيس مكتبها السياسي، أن إسرائيل طلبت منها، عبر وسيط أوروبي، الإفراج عن أسيرين مدنيين وجثمانين لديها، لكن حماس امتنعت عن تقديم أي رد على هذا الطلب، وفقًا لحديث مشعل أمام عدد من الصحفيين العرب في الدوحة. وفي 8 يوليو أعلن أبو عبيدة، أن أوراق حرب غزة 2014، لا تزال مفتوحة، وعلى رأسها ملف الأسرى، قاصدًا بذلك الأسرى الإسرائيليين في غزة.
أجنبي وأفريقي وعربي: قصة الجنود الإسرائيليين
ظهر أبو عبيدة في خطابه المُتلفز، وفي الخلفية صورة لأربعة جنود إسرائيليين، من المُرجّح أن القسام تحتفظ باثنين منهم أحياءً على الأقل، وهم:«شاؤول آرون»، و«هادار جولدن»، وهما من أصول أجنبية، و«أباراهام منغستو» من أصول أفريقية، و«هاشم بدوي السيد» من أصول عربية.تم أسر شاؤول آرون في فجر يوم الأحد 20 يوليو 2014، حينما نفّذ مقاتلو كتائب القسام عملية محكمة ضد قوة إسرائيلية حاولت التقدم شرق حي التفاح شرق غزة؛ مما أسفر عن مقتل 14 جنديًّا إسرائيليًّا على يد مقاتلي القسام، وبعد ذلك أعلنت الكتائب عن أسر آرون، ونشرت رقمه العسكري. ولم تعترف إسرائيل بفقدان آرون سوى في 22 يوليو 2014.أمّا، هادار جولدن، فقد أشاع جيش الاحتلال أنه قُتل خلال معارك مع مقاتلي القسام في 1 أغسطس 2014، وأنها ما زالت تحتفظ بجثمانه، وهو الأمر الذي لم تردّ عليه كتائب القسام، سواء بالإثبات أو النفي، إلى أن جاء تقرير قناة “الجزيرة، في أغسطس الماضي 2015، ليكشف خلاله مقاتلو القسام تفاصيل عملية أسر جولدن، وأن جيش الاحتلال لم يعلم باختفائه إلا بعد بساعتين، حيث أن جيش الاحتلال قد أخذ جثمان القسامي «وليد مسعود» على أنه جولدن، في الوقت الذي كانت فيه مجموعة القسام تأخذ فيه جولدن في الاتجاه الآخر.
رغم أن إعلان أبي عبيدة عن الأسرى الإسرائيليين لم يحمل جديدًا، إلا أنه كان بمثابة «رسالة معلومات» مُوجهة بالأساس إلى الرأي العام الإسرائيلي.
الأسير الثالث هوأباراهام منغستو، وهو إسرائيلي من أصل إثيوبي. ووفقًا لرواية جيش الاحتلال أن الجندي الإسرائيلي، قام في 7 سبتمبر 2014، بالعبور إلى قطاع غزة عن طريق شاطئ عسقلان، وأن الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يراقبون المنطقة سمحوا له بالمرور دون أن يعترضوا سبيله. وعند نهاية خدمتهم، نسوا أن يُبلغوا الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عن الحادث. ويدّعي الاحتلال أيضًا أن منغستو يعاني من مشاكل نفسية، جعلته يدخل المستشفى أكثر من مرة، وأنه قد تم رفته من الخدمة العسكرية، عكس رواية حماس التي تعتبره جنديًّا أسيرًا.أمّا الجندي الرابع، والذي تعتبر قصته هي الأكثر غموضًا بين الأسرى الأربعة، هو هاشم بدوي السيد، وهو إسرائيلي من أصول عربية، من بلدة «حورة» بالنقب الشمالي. وقد ظهرت قصته عندما أعلنت القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي فقدان مواطن إسرائيلي غير يهودي على حدود قطاع غزة، دون أن يتم تأكيد ذلك من الجهات السيادية الإسرائيلية، لكن مصدرًا في حركة حماس قال إن «إسرائيل سألت عبر وسطاء غربيين عن شخص غير يهودي اختفت آثاره على حدود غزة». والسيناريو الأكثر ترجيحًا وفقًا لوسائل الإعلام الإسرائيلية أن بدوي قد دخل غزة بمحض إرادته عبر معبر «إيريز» في شهر إبريل 2015، وتدّعي سلطات الاحتلال أنه يعاني من مشاكل نفسية أيضًا.
لماذا تأخر الإعلان الرسمي؟
إذن إعلان أبي عبيدة يوم الجمعة 1 إبريل 2016، لم يحمل جديدًا، أو بمعنى أصح لم يتضمن مفاجآت للرأي العام الإسرائيلي والفلسطيني، وإنما يمكن وصف هذا الإعلان بـ«رسالة معلومات» مُوجهة بالأساس للرأي العام الإسرائيلي، للقضاء على محاولات المراوغة التي تحاول حكومة نتنياهو ممارستها باستخدام ذلك الملف. لكن السؤال على سبب التوقيت يجعلنا نتعرض لمعلومتين هامتين في خلفية الحدث:
- في عام 2011، تم إطلاق سراح الجندي المختطف جلعاد شاليط مقابل 1027 أسيرًا فلسطينيًّا، في صفقة سُميت «وفاء الأحرار»، وتوسطها دبلوماسي ألماني، ولكن لم تلتزم إسرائيل بالإفراج عن كافة الأسرى الفلسطينيين، كما أن إسرائيل قامت بإعادة اعتقال 70 أسيرًا ممن تحرروا في صفقة شاليط خلال حملة اعتقالات واسعة شنتها بالضفة الغربية في يونيو 2014، وهو ما جعل حماس تُطور من أساليب تعاملها مع الاحتلال في هذا الشأن، حيث أجرت نقاشات مستفيضة، وعقدت ورش عمل، لمعرفة نقاط الضعف والقوة لدى الحركة في تفاوضها مع إسرائيل، ووصلت لجملة من الدروس، أهمها أن تدير ملف الإسرائيليين الأسرى بعيدًا عن الإعلام، والتشديد على أن كل معلومة بهذا الملف لها ثمن واجب الدفع إسرائيليًّا، كما أنها عينت في 13 يوليو 2015، يحيى السنوار القيادي في الحركة، مسئولًا عن ملف الأسرى الإسرائيليين، وهو عضو المكتب السياسي لحماس، وأحد الأسرى المحررين.
- تمتلك حماس القدرة على الاحتفاظ بالجنود الإسرائيليين لديها، دون أن يتمكن الاحتلال من التوصل إلى أي معلومات استخباراتية حول أماكن احتجازهم، فهي من تمكّنت من اختطاف جلعاد شاليط والاحتفاظ به مدة 5 سنوات، دون تمكن إسرائيل من الوصول لخيط معلومات يُوصلهم له، وثبت لاحقًا أن كتائب القسام تمكنت من تشكيل وحدة متخصصة للاحتفاظ بالجنود باسم «وحدة الظل»، تُدار بواسطة جهاز أمني عسكري يعمل وفق نظام الدوائر المغلقة، ويضم عناصر تتصف بالمهنية العالية والسرية والكتمان.
وعن توقيت إعلان حماس عن أسراها الأربع، يجدر بنا التوقف عند تطوريْن بالغي الأهمية بالنسبة لسياق قضية الأسرى، لابد وأنهما قد ساهما بنسب متفاوتة في دفع الحركة إلى الإعلان الرسمي عن أسراها.التطور الأول، هو زيارة وفد حركة حماس إلى مصر مرتين على مدار الشهر المنصرم، مارس 2016، بفاصل زمني بين الزيارتين بلغ 15 يومًا، مع العلم أن الزيارة الثانية جاءت قبل 4 أيام فقط من إعلان حماس عن الأسرى.ووفقًا لما تداولته وسائل الإعلام، فقد زار وفد الحركة مصر بناءً على دعوة جهاز المخابرات العامة، الذي التقى وفد الحركة، وناقش معه تطورات العلاقة بين الطرفين، وسبل استعادتها. وبعيدًا عن الأهداف المتعددة التي دفعت الطرف المصري لاتخاذ مثل هذه الخطوة – والتي يأتي ضمنها محاولة استعادة الدور المصري في القضية الفلسطينية – فمن المحتمل أن يكون جهاز المخابرات قد ناقش قضية الأسرى مع وفد حماس، وربما يكون قد سعى بالفعل لإبرام صفقة تبادلية بين حماس وإسرائيل، وربما فترة الـ 15 يومًا التي فصلت بين الزيارتين، كانت مهلة للتفكير واتخاذ القرار من جانب حماس.وقد وردت هذه الاحتمالات في تقارير صحفية بالفعل، وقد نفتها مصادر داخل الحركة أيضًا، ولكن هذا لا يعني إغفال مثل هذا الاحتمال.
حماس أرادت أن تثبت لإسرائيل، أنها فاعلٌ قويٌ، يمتلك أوراق ضغط، ويستطيع تحريك مسألة الأسرى وقتما شاءت.
التطور الثاني، هو إعلان نتنياهو في أواخر شهر مارس 2016، وخلال لقائه بعدد من الصحافيين الإسرائيليين، أنه يتابع شخصيًا مسألة الجنود الموجودين بقبضة حركة حماس في غزة، وأن هناك تطورًا مهمًا طرأ على الملف، دون أن يعطي مزيدًا من التفاصيل، وقال: «هناك جهود مضنية تجري بهذا الشأن، حيث تعقد اللقاءات حوله كل عدة أيام، وقد تم إطلاعي قبل يومين لا أكثر على تطور مهم، لكن بطبيعة الحال يستحيل تحقيق أي تقدم في هذه القضايا إلا بعيدًا عن الأضواء».وهو الأمر الذي نفاه أبو عبيدة في خطابه جملةً وتفصيلًا، حيث أكد أن إسرائيل لم تُجرِ مع الحركة، أو عبر وسطاء أي محاولات للتفاوض. وبذلك تكون حماس قد أحرجت القيادة السياسية الإسرائيلية أمام الرأي العام، وأظهرت أن نتنياهو يكذب على شعبه ويُضلل جمهوره وأهالي وذوي جنوده الأسرى.وجاء هذا الإعلان متوافقًا مع عدة فعاليات أقامتها أسر الجنود المفقودين. وكأن حماس تبعث برسالة إلى الشارع الإسرائيلي، مفادها: أن أولادكم قد يكونوا على قيد الحياة، ومهمتكم تتمثل في الضغط على الحكومة الإسرائيلية؛ أي أنها تستخدم الرأي العام الإسرائيلي للضغط على نتنياهو وربما إجباره على دفع ثمن للقسام مقابل الكشف عن مصيرهم، أو معلومات بشأنهم.
ما الذى يعنيه – إذن – هذا الإعلان الآن؟
يمكن القول أن حماس أرادت أن تثبت لإسرائيل، أنها فاعلٌ قويٌ، يمتلك أوراق ضغط، ويستطيع تحريك المسألة وقتما شاء، وتجاهلها – مثلما فعل خلال الشهور الماضية – وقتما شاء.كما أن إثارة موضوع الأسرى على هذا النحو، أدخل القيادة الإسرائيلية في إشكالية مجتمعية، تتعلق بالبعد العنصري للدولة، حيث أن أحد الجنود الأسرى من أصول أفريقية، وهناك آخر من أصول عربية؛ ما جعل الشارع الإسرائيلي يشعر أن هذا «البعد العنصري» هو الذي يقف وراء تخاذل الحكومة في إدارة الملف واتخاذ خطوات جادة من خلاله. وفي ضوء التقارير التي تشير إلى أن تعامل الحكومة مع القضية يدلّ على تقليلها من أهمية المُختطَفين، فمن المُرجّح أن تتجدد الأعمال الاحتجاجية التي قادتها الطائفة الإثيوبية في إسرائيل، العام الماضي 2015، اعتراضًا على العنصرية التي تتعامل بها الحكومة مع أبنائها من الأقلية السمراء.وأخيرًا، جاء هذا الإعلان ليؤكد على جدية الحركة في تفعيل ملف الأسرى المفقودين في قطاع غزة، حيث أنه رفع من مصداقيتها لدى الجماهير، وبعث برسالة ضمنية إلى الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال بأننا «لن ننساكم».
- "كتائب القسام تكشف عن أربعة أسرى إسرائيليين لديها (فيديو)"، موقع روسيا اليوم، 2 إبريل 2016.
- "كتائب القسام تعلن عن احتجاز أربعة جنود إسرائيليين، ولن تقدم معلومات عنهم دون ثمن"، موقع تايمز أوف إسرائيل، 3 إبريل 2016.
- ضياء خليل، "الصندوق الأسود بيد القسام: لكل شيء ثمنه"، موقع العربي الجديد، 16 نوفمبر 2014.
- "مصادر في حماس: لدينا أسرى إسرائيليين أحياء وجثث"، موقع وكالة فلسطين اليوم الإخبارية، 11 أكتوبر 2014.
- عدنان أبو عامر، "تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل.. على نار هادئة"، موقع المونيتور، 15 يوليو 2015.
- "شاؤول آرون.. صيد إسرائيلي ثمين بيد القسام"، موقع الجزيرة نت، 28 مارس 2016.
- "هل ينجح نتنياهو في اختبار الهوية مع جنوده الأسرى؟"، موقع جريدة الحياة المصرية، 3 إبريل 2016.
- مدني قصري، "ابراهام منغستو.. رهينة حماس وتراخي إسرائيل"، موقع إرم نيوز، 9 يوليو 2015.
- إسماعيل الخولي، "العلاقات بين القاهرة وحماس.. هل تعود القضية الفلسطينية إلى أحضان مصر؟"، موقع المونيتور، 30 مارس 2016.
- أشرف الهور، "نتنياهو يكشف عن تطور مهم في ملف الجنود الأسرى لدى حماس في غزة، موقع صحيفة القدس العربي، 28 مارس 2016.