لماذا تعامل فرنسا لبنان كأنه ابنها الوليد؟
انفجار كبير في بيروت..
أرقام مُفزعة في الخسائر المادية والبشرية
شرخٌ جديدٌ يُضاف إلى الثوب الوطني اللبناني المُرقّع فيزيده هلهلة ويُضاعف من احتماليات انهياره
حدثٌ كفيل بفتح النار على السياسيين والمسؤولين الفاسدين، وهي النار التي لم تُفتح من الداخل فقط وإنما من الخارج أيضًا.
زار الرئيس الفرنسي ماكرون العاصمة اللبنانية، وتفقّد حطام مرفأ بيروت المتفّحم وأصدر عددًا من التعليمات للمسؤولين المحليين كما لو أنه يتجوّل في قلب باريس
قابل فيروز ومنحها وسامًا وقابل ماجدة الرومي وطمأنها على مستقبل بلادها، ثم وجّه رسالة حازمة لزعماء البلاد قال فيها: «أنتظر من السلطات اللبنانية أجوبة واضحة حول تعهداتها بالنسبة لدولة القانون والشفافية والحرية والديموقراطية والإصلاحات الضرورية».
وهو ما دفع وسيلة إعلامية لـطرح سؤال خبيث: هل أصبح «الرئيس الرابع» للبنان؟
وهو ما دفعنا لسؤال أكثر خبثًا: لماذا تُعامل فرنسا لبنان دائمًا كأنه طفلها الذي لا يتعلّم أبدًا من أخطائه؟
يقول ريتشارد ولين الباحث في التاريخ الأوروبي، إنه لطالما كانت الإمبراطورية الفرنسية في الشرق الأوسط مصدرًا للاعتزاز بالهوية الفرنسية، فهي من وجهة نظر الرؤساء الفرنسيين، كانت وسيلة لتوسيع «مجد» العصر النابليوني.
وشرح لإضاءات أن باريس تسعى فرنسا للحفاظ على نفوذها بين المستعمرات السابقة، لتثبت أنها لا تزال موجودة على الساحة الدولية، ودولة قوية وفاعلة كما كانت في الماضي.
فيما تضيف ليدا منصور الباحثة في اللغة العربية بجامعة السوروبون، إن فرنسا هي التي خلقت لبنان.
وتعتبر أن علاقة لبنان بفرنسا أقوى من وقوعها تحت حُكمها لعدة سنوات، وتضيف: «طول عمرنا نسمع إن فرنسا قدمت مصاري (نقود) لترميم الطرق ولتنفيذ بعض المشاريع لصالح الشعب اللبناني».
كما أن فرنسا قدّمت الكثير من منح اللجوء إليها لعائلات لبنانية كاملة، وهو تصرف نادر من باريس التي تتبّع سياسة انتقاء شديدة الدقة بحقِّ كل الراغبين في العيش على أراضيها.
هذه الأمة جزء من فرنسا
وضعت الحروب الصليبية المتتالية على الشام أولى بذور التواجد الفرنسي بلبنان، بعدما اعتبرت باريس نفسها حامية لمسيحيي الشرق، وهو ما دفعها لإضفاء حماية تاريخية على طائفة الموارنة في هذه المنطقة وحماية وجودهم من جيرانهم المسلمين بأي شكلٍ كان.
يقول الدكتور سعيد عاشور في كتاب «تاريخ الدراسات العربية في فرنسا»:
يؤكد هذا الرأي عدد من الوثائق القديمة، مثل الرسالة الشهيرة التي وجّهها لويس التاسع إلى الموارنة في مايو/آيار 1250م وقال فيها:
وحتى عندما خضعت بلاد الشام للحُكم العثماني عام 1516م، احتفظت فرنسا لنفسها بكثير من الامتيازات داخل الأراضي التي باتت تركية، ووفقًا لمعاهدة 1535م بين فرنسا والدولة العثمانية فإن باريس لها الحق في الدفاع عن الكاثوليك في لبنان، وهو الوعد الذي التزم به الملك لويس الرابع عشر في برقية بعثها إلى البطريرك عام 1649م،، قال فيها:
تعهد لويس الرابع عشر بمعاملة الموارنة بكل الاحتراق، ومساعدتهم على السفر إلى بلاده دون فرض أي رسوم.
هذا الوعد لم يكن حبرًا على ورق، فلقد فرضت القوى الدولية على أنقرة أن تحكم لبنان وفقًا لنظام خاص يقتضي تقسيم هذه المنطقة إلى ولايتين شمالية للنصارى وجنوبية للدروز، وهو النظام الذي جرى تطبيقه في كانون الثاني عام 1843م.
ويحكي نقولا مراد في كتابه «نبذة تاريخية في أصل الأمة المارونية»، أنه حينما حاولت الدولة العثمانية الالفتاف على اتفاق «النظام الخاص»، وحاولت اقتطاع منطقة إقليم جبيل عن الدولة المسيحية الشمالية اعترضت فرنسا مؤكدة أن هذه المقاطعة ذات أغلبية مارونية ما يضعها تحت نطاق النفوذ الفرنسي وليس للدولة العثمانية حق في تغييرها، فتراجعت أنقرة عن قرارها.
وعندما اندلعت مواجهات طائفية دامية بين الدروز والموارنة في جبل لبنان عام 1860م، أرسلت فرنسا حملة عسكرية مكوّنة من 6 آلاف جندي نجحت في تهدئة الأوضاع وإعادة الأمن إلى البلاد.
وطوال العهد العثماني للبنان ظلَّ النفوذ الفرنسي يُناطح الحُكم التركي فازدهرت حياة الجالية الفرنسية بشدة في لبنان وانتشرت اللغة الفرنسية بين أهلها حتى أنها كنت تُكنّى بـ «باريس الشرق».
يقول باسكال مونان الأستاذ في جامعة السوربون:
وعندما أبدت القوات المصرية التي كانت رابضة في الشام بأمر عثماني، أبدت تراجعًا أمام القوات البريطانية انطلقت مظاهرات في باريس تهتف: «أخذ الإنجليز بيروتنا». ما دفع المدير السياسي في الخارجية الفرنسية إلى إرسال كتاب إلى القنصل العام في الإسكندرية يقول فيه بوضوح:
وسجّلت الصحافة حالات عدة لجأ فيها اللبنانيون إلى فرنسا كملاذٍ من أي اعتراضات لديهم على طريقة الحكم، ففي 26 أيلول/سبتمبر من العام 1908م، نشرت جريدة «لسان الأحوال» البيروتية اليومية تفاصيل زيارة قام بها ممثل الصحافة اللبنانية إلى القنصل الفرنسي في بيروت للإعراب عن معارضته تطبيق القوانين العثمانية على أراضيهم، دون أخذ موافقة الدول الكبرى.
وبعدها بعامين، رفع أعضاء نقابة الصحافة عريضة احتجاج أخرى إلى القنصل الفرنسي بسبب قانون الصحافة العثماني الجديد
وخلال هذه الفترة مرّت البلاد بمجاعة شديد وفقد الجبل اللبناني نصف سكانه بسبب استئثار العثمانيين بمحاصيل الأراضي للمجهود الحربي، كما عجز ولاتها عن وقاية الأهالي من الأوبئة المنتشرة، واعتبرت الأكثرية المسيحية أن الحل الناجع لكافة هذه المشاكل هو التخلص من الأتراك المُسلمين وتسليم البلاد إلى الفرنسيين.
وبسبب هذه العوامل وغيرها حافظت باريس على حصة ثابتة من النفوذ في لبنان بشكل يستعصي على أي دولة أخرى حتى لو كانت كإنجلترا تمتلك قوة عسكرية واقتصادية كبيرة أو كالإمبراطورية العثمانية التي تحتلُّ الأراضي اللبنانية بالفعل.
وذكرت صحيفة «صدى لبنان» أن القنصل الإنجليزي يحاول توزيع رقعة نفوذ لبلاده في هذه المنطقة عن طريقة محاولة استمالة الشخصيات المارونية المعروفة بعلاقتها الوطيدة مع الفرنسيين.
وظهرت على الساحة بعض الصحف، كجريدة «الثبات»، التي تبنّت الميول الفرنسية وكانت تتلقى توجيهًا من القناصل الفرنسيين ولا تتوقف عن الهجوم على الدولة العثمانية وسياستها السيئة في الحكم.
وفي العام 1912م، أثار دخول مركب حربي فرنسي إلى ميناء بيروت ضجة كبرى لأنه تزامن مع ضجة رافضة لمرور كتيبة عثمانية بالأراضي اللبنانية.
وهو ما استدعى تعليقًا من صحيفة «الإقبال» لسان حال الجامعة الإسلامية في بيروت والمؤيدة للعثمانيين قالت فيه:
وهو ما ردَّت عليه جريدة «المناظر» المؤيدة للفرنسيين:
بل ومن اللافت للغاية، أن وكان لافتًا أن فرنسا احتجت على زيارة القوات العثمانية للبنان بدعوى أنه يخرق النظام الاساسي الذي تم وضعه بالاتفاق مع الدول الكبرى عام 1864م.
وبالطبع كان هذا الدعم السخي الممتد عبر الزمن دورًا في الدعوة التي أطلقها المطران مراد بالعمل على سلخ تاريخ الموارنة وجبل لبنان عن إطاره الشرقي بشكل نهائي، وربطه بتاريخ فرنسا، وهي إشارة إلى العلاقات المتميزة التي ربطت بين اللبنانيين القدامى (الفينيقيين) وبين القبائل الجرمانية القوية التي احتلت العاصمة روما وأسّست التاريخ الحقيقي لفرنسا، وعُرفوا بلقب الفرنجة Franque.
ولا يمكن اعتبار هذا الرأي خيانة للتراب الوطني، وإنما يجب فهمه هذه التصريحات في إطار حالة العداء التاريخي التي جمعت مسيحيي هذه المنطقة بجيرانهم المسلمين حتى أنهم أطلقوا على أنفسهم لقب «فرنسيو الشرق».
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بهزيمة الدولة العثمانية وسقوط أملاكها غنيمة بين أيدي بريطانيا وفرنسا، اهتمت باريس بشدة بالشام فقامت بإنشاء المدارس التبشيرية وضخّت رؤوس الأموال في أسواقها المحلية وعملت تدعيم علاقتها بالطوائف المختلفة أملاً في أن يكون قاعدة لها في البحر المتوسط.
لذا كان طبيعيًا أن تكون لبنان من نصيبهم لحظة توزيع التركة بين الدول الكبرى وفقًا لاتفاقية سايكس-بيكو التي وُضعت عام 1916م وقسّمت الشرق الأوسط إلى قطاعات شبه متساوية تخضع للإشراف الإنجليزي والفرنسي، طمعت لندن في الأردن ومصر فيما لم ترفع باريس عينيها عن سوريا ولبنان.
لبنان أمانة مُقدسة في عُنق فرنسا
في العام 1918م، دخلت قوات الحلفاء دمشق للمرة الأولى، ولم تكد الحرب تنتهي إلا وافصحت فرنسا عن نواياها بأن تبقى في لبنان إلى الأبد.
ومن أجل منح هذا الوجود العسكري شرعية دولية تم اختراع ما يُسمّى بـ«نظام الانتداب»، والذي ظهر لأول مرة عام 1919م كأحد توابع مؤتمر فرساي، الذي عُقد لمناقشة كافة نتائج الحرب العالمية، وما استقر عليه المجتمعون من فصل جميع المناطق العربية عن جسد الإمبراطورية التركية، ووضعها تحت تحت إشراف عالمي، أطلق عليه اسم «نظام الانتداب».
وفي ذات المؤتمر حضر وفد ما كان يُسمّى وقتها «مجلس إدارة جبل لبنان»، وطالب بعددٍ من الأمور منها أن تقدم فرنسا الدعم اللازم للحكومة اللبنانية وتُساند مطالبها الاستقلالية.
أصدرت عصبة الأمم (الأمم المتحدة وقتها) بيانًا حمل كافة تفاصيل هذا النظام شبه الاستعماري، والذي منح للدول المنتصرة الحق في إدارة كافة أراضي الدول المهزومة في الحرب، باعتبار أن الشعوب التي تسكنها عاجزة عن إدارة أمورها بنفسها في وسط مخاطر المدينة الحديثة، وشدّد البيان على أن «سعادة وتقدم هذه الشعوب ماهو إلا أمانة مقدسة في عنق المدنية، وأن ضمانات القيام بهذه الأمانة واجب في عنق الدول الكبرى».
وفي 23 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1920م صدر مرسوم منح المفوّض السامي الذي يُعيّنه في لبنان صلاحيات رئييس الجمهورية الفرنسية ألكسندر ملليران في تنفيذ الانتداب الذي عُهد به إلى باريس، ومن منطلق هذا التفويض، حكم لبنان وسوريا مندوب سامي اتّخذ من بيروت مقرًا له، وجمع في يديه كافة الصلاحيات، وخضعت له بشكلٍ مباشر إدارات الأمن العام والتعليم والآثار وغيرها.
اعتبر الجنرال غورو المفوض السامي الفرنسي نفسه ملكًا على المنطقة وليس منتدبًا لحمايتها، فأصدر سلسلة من القرارات التي قطّعت هذه البلاد إلى حفة متناثرة، فأمر بإنشاء دولة لبنان الكبير في 31 آب/ أغسطس 1920م (قبل صدور المرسوم الجمهوري بتكليفه رسميًا)، والذي أضاف إلى مقاطعة لبنان الإدارية (عُرفت بِاسم متصرفية جبل لبنان) أراضي تم انتزاعها من سوريا، هي: بعلبك والبقاع وراشيا وحاصيبا، بالإضافة إلى صيدا وبيروت، مُعلنًا قيام دولة لبنان الكبير على مساحة 11 ألف كم.
وهي تقريبًا ذات الحدود التي تُشكّل دولة لبنان الحديثة كما نعرفها الآن، ولم تُقتطع منها إلا منطقة الحولة التي ضمتها بريطانيا إلى فلسطين وكانت مساحتها 600 كلم.
ونصَّ القرار رقم 318 على أن «بوسع لبنان الذي أنشئ ضمن حدوده الطبيعية أن يواصل بصفته دولة مستقلة، وبمساعدة فرنسا، الخطة التي وضعها بصورة تضمن مصالحه السياسية والاقتصادية».
كما أنشأ غورو دولة للعلويين وعاصمتها اللاذقية في 30 آب/ اغسطس، ودولة حلب في الأول من أيلول/ سبتمبر، ودولة دمشق في 9 تشرين الأول/ أكتوبر.
تولّى السُلطة التنفيذية في لبنان وبلاد العلويين حاكم فرنسي، بينما تولاها في حلب ودمشق حكومتان محليتان تحت إشراف مندوب المفوض السامي المقيم في بيروت، وفي 16 آذار/ مارس 1922 فُصل جبل الدروز عن دولة دمشق، وأصبح كيانًا قائمًا بذاته.
استهدفت فرنسا من وراء كافة أعمال التقطيع هذه إضعاف الحركة القومية العربية في البلاد والقضاء على أي حركة تمرد تُناهض الاحتلال، وتسهيل السيطرة على البلاد بشكل تام عن طريق خلق قوميات من الطوائف الدينية لا تكفُّ عن التصارع فيما بعضها ولا تفيق للتطلع إلى المطالب الوطنية.
ويكشف غابريل بيييو المفوض الأمني الفرنسي في بيروت عن دوافع هذه السياسية في مذكراته بقوله:
هذا الغرض عبّر عنه الرئيس الفرنسي بأكثر عبارات الدنيا وضوحًا: «إن مهمة فرنسا ترتكز إلى «فَرنَسة لبنان» بأكبر قدرٍ ممكن، ومن أجل هذا يجب أن تقوم سُلطة فرنسية مهمة وتمثيلية تتمتع باستقلالية واسعة»، وفقًا للرسالة التي نقلها لنا الدكتور محمد مراد في بحثه «السياسة الإنتدابية الفرنسية في سوريا ولبنان».
وهو المعنى نفسه الذي شدّدت عليه الرسالة التي بعث بها أرستيد بريان وزير الخارجية الفرنسي إلى الجنرال غورو في 17 آذار/مارس 1921، يقول فيها:
يقول الدكتور وليد الزيدي في كتابه «سياسة فرنسا الثقافية»، إن باريس استعانت بالإرساليات التبشيرية من أجل تحقيق مصالح سياسية كبرى، فمن خلال محاولات نشر المسيحية الكاثوليكية جرت عملية واسعة النطاق لنشر اللغة والثقافة والأفكار والتقاليد الفرنسية.
وكذلك أسست هذه الإرساليات مؤسسات حظيت بعدم سخي مثل جامعة القديس يوسف في بيروت، كما جرى إنشاء شبكة من المؤسسات الخيرية كالمستشفيات ودور الأيتام وغيرها.
وتضيف ديانا عبّاني الباحثة الثقافية في أطروحتها «طرب بيروت في زمن الانتداب»، أن بيروت خلال العهد الفرنسي «أضحت مركزًا ثقافيًّا ومدينة كوزموبوليتيّة منفتحة أكثر فأكثر على الغرب، تكوّنت تدريجيًّا طبقة وسطى مدنيّة و«عصريّة» مؤلّفة من مثقّفين ومتعلّمين، تجّار وموظّفين، تبلورت لاحقًا في عهد الانتداب الفرنسيّ، وأصبحت ذات تأثير واضح في الحياة اليوميّة البيروتيّة. تكوّنت هذه الطّبقة من رجال ونساء متعلّمين يتشاركون مستوىً اقتصاديًا وثقافيًا مماثلاً ونمطَ حياة مرتبطاً بالتسلية والترفيه».
وتتبع: شكّل مجيء الفرنسيّين بعد الحرب العالميّة الأولى نقطة مفصّلية، إذ شهدت العشرينيّات والثلاثينيّات تغييرًا جذريًا لأنماط التّسالي تزامَنَ مع كافّة التغييرات الاجتماعيّة والسياسيّة التي شهدتْها البلاد، وذلك «نتيجة الاختلاط بالأجانب والسّعي إلى تقليدهم». تطوّر نوعٌ جديد من الحانات متغرّب يُعرف باسم بار أو كازينو أو دانسينغ، «أرتيستاته» أوروبيّات يُسمح لهنّ بمراقصة الرجال ومجالستهنّ، على شرط تقديم الشراب لهنّ. فتغيّر تدريجيًّا الذَّوق البيروتيّ الذي أضحى يستهويه كلّ ما هو غربيّ. وأصبحت أهمّ وسائل التسلية التي يُقبل عليها البيروتيّون والشاميّون هي السينما والحانات الراقصة وسباق الخيل.
وعلى الرغم من هذا الانفتاح الفني والاجتماعي، لم تعرف لبنان انفتاحًا سياسيًا موازيًا له، فحينما حاول شخص مسلم هو الشيخ محمد الجسر الترشح للانتخابات الرئاسية عام 1932م، رفضت سلطات الانتداب الفرنسي بدعوى أنها «لا تقبل إلا أن يكون رئيس الجمهورية مسيحيًا، لأن الحفاظ على الانتداب الفرنسي يقتضي ترسيخ هيمنة المسيحيين».
وعندما أقيمت أول انتخابات في لبنان أسفرت عن فوز الوطنيين المُطالبين بالاستقلال التام، ولم تقبل السلطات الفرنسية بالنتيجة، واعتقلت رئيس الجمهورية اللبناني ورئيس الوزراء وعدد من الوزراء في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1943م، ولم يُفرج عنهم إلا بعد ضغوط بريطانية.
وظلّت فرنسا هي الآمر الناهي الأول في لبنان حتى انتهت الحرب العالمية الثانية، وعندما حاولت حكومة الجنرال ديغول إعادة وضعها في لبنان إلى ما كانت عليه، وهو ما أحدث اشتباكات بين القوات المحلية السورية والقوات الفرنسية، وضُربت دمشق بالقنابل، فتدخلت بريطانيا مجددًا وأصرّت على انسحاب فرنسا من المنطقة، وهو ما جرى عام 1945م، وأعلنت فرنسا الجلاء عن لبنان في 31 آب/ أغسطس.
ويعتبر الزيدي، أن التغلغل الثقافي عن طريق الإرساليات أدّى إلى إرساء الطافية وترسيخها في البنية الاجتماعية، حتى أصبحت عقيدة لها أتباع ومدافعون، في جمعيات وأحزاب وتنظيمات، بل لها فلاسفة يُبرّرونها ويعزون إليها وجود لبنان.
وهو ما يُفسّر تلك الظاهرة العجيبة التي يعيشها لبنان، فإن كانت معاهدة الاستقلال تكفلت بالخروج العسكري الفرنسي من البدن اللبناني، أما عن الخروج الثقافي والسياسي فلم يخرج منها أبدًا، ولا يزال حتى الآن يتم استدعاؤه كلما مرّت الأمة اللبنانية بِانفجار ما، وقبل أن يُفكر أحد في إزالة الركام أو البحث عن الناجين أو القبض على المُتسبب يكون رد الفعل الأوّلي هو الصراخ في الشوارع: «واه فرنسااااااااه».
ويُرجع ريتشارد ولين لإضاءات سبب هذه الظاهرة إلى أن لبنان «دولة فاشلة»، وهو ما يسمح لفرنسا بالتدخل المستمر في شؤونها كما يحدث في الدول الهشة غرب أفريقيا كالنيجر ومالي التي طلبت دعمًا عسكريًا فرنسيًا ضد الإسلاميين وحصلت عليه.