لماذا «الدحيح» ليس هو الحل؟
من منّا لم يتابع إحدى حلقات «الدحيح» باستمتاع شديد، بسبب المحتوى العلمي الدسم المقدم، بالترافق مع الإبهار البصري والأداء الاحترافي من مُقدِّم البرنامج «أحمد الغندور»؟
بالطبع ذكرت «الدحيح» لأنه يعتبر أحد أشهر الأمثلة في ذلك المجال، ولكن هناك الكثير من مشاهير هذا المحتوى، ولكن ما يقدمه هذا النوع من المحتوى ليس فقط الجزء العلمي عن الظواهر من حولنا، ولكنه أيضًا يقدم شعورًا لدى المشاهد أنه أصبح مُسلَّحًا بالعلم. وبتباين الموضوعات التي تبحثها برنامج العلوم المبسطة، فإن الإنسان يبدأ بالشعور بأنه ليس بحاجة لعمل أي بحث أعمق في أي موضوع.
إن الاستخدام الخاطئ لمواقع التواصل الاجتماعي، والمحتوى المبتذل، هما بالفعل أشياء خطرة تواجه كل منْ يستخدم مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتالي فإن محتوى العلوم المُبسَّطة يعتبره الكثيرون منزهًا من هذا الابتذال، وهو كذلك بالفعل، ولكنه أحيانًا يؤخذ على أنه محتوى علمي متكامل، وهنا تكمن المشكلة.
إن الموضوعات التي يتم طرحها في هذا النوع من المحتوى تحتاج إلى تبسيط لكي يصبح لدى الإنسان خلفية عامة عنها، ولكنها بالطبع لا يمكن أن تعني أن منْ يُشاهد هذه المدة عن موضوع قُتل بحثًا من مئات الباحثين والعلماء والكتّاب، أصبح لديه المعرفة الكافية التي تسمح له بالحديث في الموضوع من وجهة نظر الباحث.
ما لا يقوله لك صانع أي محتوى علمي أنه عليه الاختصار وعليه ألّا يعرض كل ما قيل في ذلك الموضوع، بل أهم ما قيل. وشئنا أم أبينا فهو أهم ما قيل حتى الآن. بمعنى أن العلم لا يقف عند نقطة معينة ويتوقف عن البحث في أي موضوع مهما كان بديهيًا، وما تفعله العلوم المبسطة هي أنها تنقل لك أهم ما قيل في الأوساط العلمية عن ذلك الشيء حتى تلك اللحظة على أنه مُسلَّم به. هذا لأنه كذلك على الأرجح حتى تلك النقطة. ولكن كما قلت سابقًا فصانع المحتوى يدرك أن أي موضع بحث مرّ بمراحل تطور وربما قام بالقراءة عنها والاطلاع عليها في رحلة بحثه وتحضيره، ولكنه بالطبع –لأسباب عديدة- لا يسردها للمشاهد.
أنا لا أحاول هنا أن أقول إن المحتوى العلمي المبسط محتوى مُضلِّل، أو أنه يتعمد إخفاء بعض المعلومات ويعرض أخرى بأجندة خاصة به. ولكن أقول إنه لو قام بعرض كل ما قيل أو حتى نصف ما قيل في موضع البحث، لما أصبح علوم مُبسّطة.
إلى هنا يبدو حديثنا منطقيًا، أعني منْ الذي يعتقد أنه أصبح خبير برمجيات لأنه شاهد حلقة تتحدث عن أنواع لغة البرمجيات، صحيح؟
تلك بالفعل هي المعضلة، أن لا أحد يعتقد أنه خبير في مجال بعينه لأنه شاهد حلقة أو اثنان عن هذا المجال أو هذا الموضوع، ولكن العلوم المبسطة تقريبًا قضت على قدرة الناس على تحمل العلوم التقليدية بنظرياتها وأبحاثها وطرق طرحها المعتادة.
فإن أردت أن أتعلم عن نظرية العرض والطلب مثلًا لأنني طالب بكلية التجارة، وقرّرت البحث عن الموضوع في يوتيوب مثلًا، ورأيت أن أول نتيجة ظهرت هي أحد برامج العلوم المبسطة الشهيرة ومحاضرة كاملة من أحد المتخصصين في علم الاقتصاد عن النظرية، فالخيار الأول بالنسبة لي سيكون العلوم المُبسّطة، فمحاضرة متخصص علم الاقتصاد ستكون مملة، هو ماهر بالفعل في علوم الاقتصاد ولكنه ليس بذات المهارة في صناعة المحتوى.
النتيجة شبه الحتمية للمثال السابق، هو أنني سأعتقد بعد مشاهدة حلقة لا تتجاوز 15 دقيقة عن نظرية العرض والطلب أنني أصبحت مؤهلًا الآن لخوض نقاش علمي مع بروفيسور المادة، وأجتاز الامتحان بدرجة عالية، ولكن هل هذا صحيح؟
في اللغات مثلًا، لا توجد طريقة مختصرة لتعلمها، فلكي تستطيع أن تخوض محادثة بسيطة جدًا مع متحدث تلك اللغة، عليك على الأقل قضاء 10 إلى 15 ساعة في دراسة تلك اللغة، فقط لتكون مُلمًا بالقواعد الأساسية والأفعال والأسماء الأساسية، التي تسمح لك بالتعبير عن نفسك وفهم منْ أمامك بشكل مبدئي. وإن أردت أن تصبح محترفًا في مجال اللغات، كأن تعمل مترجمًا مثلًا، فلا يمكن أن تصل لهذا المستوى إلا بدراسة 10 آلاف ساعة لتلك اللغة. فلكل مستوى إذن عدد ساعات محدد.
ما تفعله العلوم المُبسّطة أنها تضعك على أول الطريق نحو الموضوع الذي تشاهد الحلقة عنه، ولهذا يكررون في نهاية كل حلقة أهمية مطالعة المصادر، فالمشكلة في اعتقاد الناس أن العلوم المبسطة هي النوع الأوحد الذي يمكنهم الاطلاع عليه، وأنهم يستطيعون إهمال العديد من مصادر العلوم الأخرى، والتي على الأرجح ستكون أكثر بكثير -كقيمة علمية- من 15 دقيقة مُكثفة من أي موضوع علمي.
في رأيي الشخصي أن المحتوى العلمي الأهم في تلك المرحلة، هو تعليم الناس طرق وكيفية البحث عن الموضوعات العلمية؛ ما هي المواقع والمصادر الموثوقة وما هو غير ذلك؟
وفي المرة القادمة التي تشاهد فيها أحد برامج العلوم المبسطة، لا تنسَ أن «تبص بصة على المصادر».