لماذا يستقيل المصريون من وظائفهم؟
بالطبع تُذكِّرك هذه العبارة بأحد أشهر موظفي الدولة «توفيق الدقن» في فيلم «مراتي مدير عام»، ذلك الموظف الذي يدِّعي العلم ببواطن الأمور، ويلجأ إلى كل الوسائل المقبولة وغير المقبولة، حتى لو وصلت إلى إبلاغ بوليس النجدة لإحضار موظف.
قد يُحيلك التذكر إلى سؤال تخيُّلي: ماذا لو كان الأستاذ أبو الخير هو مدير العمل الذي يلاحقك بالسؤال عن تحقيق «التارجت»؟ هل كنت ستستمر في العمل تحت إدارته؟ أم أنك ستترك العمل وتتقدم باستقالتك؟ وهل تركك للعمل سيتعلق –فقط- بالأستاذ أبو الخير وأفعاله أم أنه «في سبب تاني»؟
جناب المدير
كشفت دراسة أعدتها أكيومن كونسلتنج أن الخلاف مع المدير هو السبب الأول الذي يدفع الموظفين للاستقالة، خاصة في الدرجات الوظيفية العليا والمتوسطة، فيما كان السبب الثاني هو عدم إمكانية النمو والترقي داخل مكان العمل، خاصة لدى حديثي التعيين وموظفي الشركات العائلية، أما السبب الثالث فكان عدم وجود نظام واضح يحكم بيئة العمل.
في المقابل ذكرت الدراسة أن أسباب بقاء الموظفين في وظائفهم هي وجود إمكانية كبيرة للتعلم وزيادة الراتب، إلى جانب ثقافة ومرونة جهة العمل، ومدى التقدير الذي يشعر به الموظفون كنتيجة لمجهوداتهم.
ووفقًا لوزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري فإن هناك 10 سلوكيات سيئة من المديرين تدفع الموظفين إلى الاستقالة، وهي أن المدير:
1. يقوم بتعيين وترقية أشخاص غير أكفاء.
2. لا يوفر الأدوار والمهام بكفاءة.
3. لا يدافع عن الحقوق المالية للموظفين.
4. يتدخل في كل تفاصيل العمل ولا يسمح للموظف بأي حرية.
5. لا يدعم الموظف عند حدوث مشكلة وظيفية.
6. لا يضع توقعات واضحة بخصوص المستقبل ونظام العمل.
7. يركز دائمًا على نقاط ضعف الموظف.
8. لا يثق في الموظف ولا يشجعه.
9. ينسب أعمال الموظف الناجحة إلى نفسه.
10. لا يهتم بالجهود الإضافية للموظف.
اتهام «جناب المدير» يؤيده ترافيس برادبيري، مؤلف كتاب (Emotional Intelligence 2.0)، الذي يرى أن «الناس لا يتركون الوظائف بل يتركون المديرين»، موضحًا أن أسوأ تسعة تصرفات للمديرين هي:
1. إرهاق الموظفين الجيدين، فيشعرون وكأنهم يعاقبون على إجادتهم، أو يرهقون أنفسهم دون جزاء إضافي.
2. عدم الاعتراف بمجهودات الموظفين أو مكافأتهم على عملهم، فيفقدون الشعور بالرضا عن وظيفتهم.
3. عدم تحقيق التوازن بين المهنية والإنسانية، فلا يهتمون بمشاعر موظفيهم الشخصية، ولا يحرصون على إقامة علاقة إنسانية معهم.
4. عدم احترام التزاماتهم أو تراجعهم عن وعودهم، فيفقد الموظفون إحساسهم بالثقة والشرف تجاه مديريهم.
5. إهمال تعيين الأكفاء، وترقية الأقل كفاءة، وهو ما يُشعر الموظفين الجيدين بالإهانة ويدفعهم لترك العمل.
6. عدم السماح للموظفين بمتابعة شغفهم وتقييدهم بمواعيد وأعباء الوظيفة؛ خوفًا من إهمالهم للعمل، فيترسخ لدى الموظفين أن العمل مضاد للشغف.
7. الفشل في تطوير مهارات الموظفين، والاهتمام فقط بتقديم الملاحظات ورؤية الأخطاء، فيشعر الموظفون وكأنهم يخطئون فقط، ولا يجيدون العمل.
8. الفشل في مواكبة إبداع الموظفين، فيشعرون أن مديريهم أقل كفاءة منهم، مما يُفقدهم الثقة في قيادتهم وأوامرهم.
9. الفشل في وضع خطط العمل، فيطلبون من موظفيهم إنجاز أعمال شاقة أو غير منطقية أو أعلى من قدراتهم.
أما «ليز ريان»، صاحبة كتاب «Reinvention Roadmap»، فتنظر للقضية نظرة حيادية، إذ تذكر 10 أسباب لترك الموظفين لوظائفهم، منها ما يتسبب به المديرون ومنها ما يتعلق بالموظفين، وهي أن الموظفين:
1. يئسوا من مناقشة أفكارهم حول العمل وعدم رغبة المديرين في الاستماع إليهم.
2. سئموا من تجاهل المديرين، وأنهم إذا رحلوا فهناك «طوابير مستنيين مكانهم».
3. فقدوا الثقة في إدارة المديرين للعمل بفاعلية.
4. تعبوا واستُنفدت جهودهم.
5. سئموا من السياسة الداخلية ولوائح العمل.
6. يعانون من البيروقراطية التي لا تسمح لهم بتنفيذ أفكار إبداعية.
7. يتقاضون رواتب منخفضة مقارنة بالعمل أو بما قد يتقاضونه في عمل آخر.
8. يسعون للترقي بمعدل أسرع مما تسمح به الشركة وثقافتها وسياساتها.
9. لا يتمكنون من تغيير مساراتهم الوظيفية.
10. يريدون بناء وتطوير أنفسهم، وظروف العمل لا تساعدهم أو لا تتطلب ذلك.
إنها «الكوسة» يا عزيزي
ربما يكون ضعف الخبرات الإدارية وقلة المهارات الوظيفية سببين رئيسين في سلوكيات المديرين الوظيفية التي تضطر الموظفين للاستقالة، وقد تكون الاستقالة نتيجة للاعتماد على ذوي الأقدمية وشيوع «الواسطة» التي دفعت قانون الخدمة المدنية إلى أن ينص في مادته الرابعة والعشرين على منع تعيين الأقارب من الدرجة الأولى «أبناء العاملين» في الإدارة نفسها؛ وذلك لمنع الواسطة، بحسب تصريح وزيرة التخطيط، لكنه لم يمنع تعيينهم في إدارة أخرى داخل وحدة العمل أو خارجها.
شكل آخر من أشكال «الكوسة» يواجهه الموظفون بنظام المكافأة الشهرية والمعينون بعقود مؤقتة مدتها شهور على أمل أن يتم تثبيتهم، حيث يُواجهون بقرارات حكومية بوقف التعيينات، وفي الوقت نفسه يتم تعيين «أصحاب الخبرات» -هكذا يُوصفون– بعقود خاصة أو يستمرون بالعمل بعد بلوغهم «سن المعاش»، فتقل الحاجة إلى موظفين جدد، فيضطر المؤقتون للاستقالة.
للاستقالة وجوه أخرى مُقنَّعة
أحيانًا تكون استقالة الموظف وجهًا مقنَّعًا لإقالته أو «تطفيشه»؛ فبسبب الحاجة إلى تقليل العاملين وتقليل الإنفاق يلجأ أصحاب الأعمال إلى كثرة الخصومات، وزيادة أعباء العمل، وتقليل الإجازات، في مقابل ثبات الرواتب، وضعف أو وقف زيادتها، فيضطر الموظف إلى الاستقالة، التي يمكن تسميتها «إقالة مقنَّعة»، أو إقالته بجانب تطفيشي آخر، وهو «التارجت» الذي يعد «سفاح الموظفين»؛ لتسببه في استقالة ملايين الشباب لعدم تحقيقهم له.
وإذا كان هذا القناع التطفيشي يناسب وظائف القطاع الخاص، فوظائف الحكومة وقطاع الأعمال العام ترتدي قناعين آخرين، الأول يمكن تسميته «استقالة مقنَّعة»، وهي تقديم الاستقالة بسبب انتهاء مدة العقود المؤقتة للعمل، والثاني هو تشجيع الموظفين على الاستقالة تحت قناع «المعاش المبكر» في مقابل تعيين أحد أقاربهم من الدرجة الأولى.
يأتي هذا وسط ضغط إعلامي وسياسي؛ بسبب تكدس مؤسسات الدولة بالعاملين أو بسبب ميكنة الخدمات وإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، الذي يرى عدد من نواب البرلمان أنه يعالج سوء أوضاع العاملين وعشوائية التعيين، ويعيد النظر في الرواتب لتحقيق العدالة، ويساعد على زيادة المرتبات وإعادة توزيع العمالة الزائدة، مما ينعكس بالإيجاب على جودة الأعمال وسرعة الخدمات، ويقلل عجز الموازنة العامة، فتتمكن الدولة من تقديم دعم سلعي ونقدي إضافي للمواطنين، وكل هذه الأسباب تعد أقنعة للخطة التقشفية التي وضعها البنك الدولي لمصر؛ إذ تتطلب تقليل الإنفاق الحكومي، وبخاصة بند الأجور، وذلك بتقليل عدد العاملين بالدولة.
كذلك من أقنعة الاستقالة إعلان وزارة التربية والتعليم عن حاجتها لسد العجز المُقدر بحوالي 320 ألف معلم، وهو ما يدفع ملايين المعلمين إلى التقديم، ليجدوا أن المطلوب تعيينهم 120 ألفًا فقط، وبعقد مؤقت مدته سنة، ويُجدد مرة واحدة، وراتب حوالي 1200 جنيه، في مقابل العمل في بيئات تعليمية سيئة، والخضوع لكل أنواع الخصومات و«التلاكيك» الإدارية، وهو ما يشجع المدرسين على الاستقالة؛ تخلصًا من هذا الكابوس.
وهنا تجب الإشارة إلى أن الأقنعة السابقة لدفع الموظفين نحو الاستقالة تُمكِّن الحكومة من التخلص من بعض الموظفين؛ لتدَّعي تقليل نسب البطالة، فبحسب الإحصاءات الرسمية فإن معدل البطالة في الربع الثاني لعام 2019 بلغ 7.5% في مقابل 8.1% في الربع الأول للعام نفسه و9.9% في الربع الثاني لعام 2018، وهو ما دعا المركز المصري للدراسات الاقتصادية إلى إصدار تقرير ذكر فيه أن انخفاض معدلات البطالة «ليس حقيقيًّا لكنه مقنَّع»؛ لأنه مرتبط بانخفاض قوة العمل من 29.18 مليون فرد في الربع الثاني لعام 2017 إلى 28.07 مليون فرد في الربع المماثل لعام 2019؛ وذلك لعدة أسباب منها: الإجازات دون مرتب، وزيادة أعداد الموقوفين عن العمل، والعجيب أن هذا الانخفاض يحدث في ظل زيادة السكان، وهو ما يشير إلى انخفاض نسبة المشتغلين ضمن سن العمل، مما يؤكد تحايل الحكومة على لغة الأرقام.
«القانون حمار-أحمق»
في رواية أوليفر تويست اقتبس تشارلز ديكينز عبارة إنجليزية تعود إلى أعمال أدبية من القرن السابع عشر، فحين تعرَّض السيد بامبل للمحاكمة بسبب ما ارتكبته زوجته، وأخبروه أن القانون يجعله مسئولًا عن أفعالها، رد السيد بامبل قائلًا:
وتعد هذه العبارة مثلًا إنجليزيًّا يُطلق على القانون المتعارض مع المنطق؛ فقد جاء الوصف لشهرة الحمير بالعناد والغباء، وكأنها تعني «تطبيق صارم غبي للقانون».
وفي نسختها المصرية يقولون: «القانون حمار للي يعرف يركبه»، وهو تعبير يوضح أن القانون لا يخدم من وُضع لهم بل يخدم من وضعوه، وهذا ينطبق على تشريعات وقوانين العمل المصرية التي تتسبب في ارتفاع معدلات البطالة وإحجام الشباب عن العمل أو تقديم استقالاتهم؛ بسبب غياب الأمان الوظيفي، وضعف التأمينات الصحية والاجتماعية، وانتصار القوانين لأصحاب الأعمال على حساب العمال والموظفين.
فضلًا عن عدم وجود تشريع موحد للعمل في كل القطاعات بالدولة، لذا فالموظفون «يتفرق دمهم» بين قانون الخدمة المدنية وقوانين العمل العام والخاص وقوانين الاستثمار والمناطق الحرة، ومعظمها قوانين دُمغت بختم «سيِّئ السمعة»؛ لأنها لا تمنح حماية وظيفية كاملة، ولا تتناسب مع المتطلبات المعيشية في ظل ارتفاع أسعار السلع والخدمات، إلى جانب أنها لا تتضمن تدريب وتأهيل الموظفين، وتنمية مهاراتهم الوظيفية؛ من أجل التكيُّف مع سوق العمل، ولا تخلق توازنًا حقيقيًّا بين العامل وصاحب العمل، ولا تهتم بتحسين ظروف العاملين وضمان حقوقهم ضد تحايل القطاع الخاص على القوانين وتلاعبه باللوائح الداخلية.
كما تفتقد القوانين للنظرة الشمولية والتنسيق بين قوانين العمل والاستثمار والتأمينات الاجتماعية، وأحيانًا يتم تعديل أو تغيير القوانين دون توضيح الحالات التي ينطبق عليها التعديل أو التغيير، وهو ما يضطر العمال والموظفين إلى اللجوء للقضاء من أجل الحصول على حقوقهم البسيطة، مثلما حدث مع المادة 74 من قانون الخدمة المدنية، حيث جمَّدت الحوافز التي يحصل عليها الموظفون غير الخاضعين لقانون الخدمة المدنية، وهو ما تطلَّب حكم محكمة باستحقاقهم للعلاوات والحوافز كاملة.
يقول المثل الشعبي: «إن فاتك الميري اتمرَّغ في ترابه»، وربما لم يعد للميري وغير الميري ترابًا يتمرَّغ فيه الموظف، وإذا كانت الحكومة والمديرون والقوانين بالسوء قائمين، فشيمة الموظفين كلهم الاستقالة، ومهما تعددت أسباب الاستقالة فالنتيجة واحدة، والأسباب كلها أقنعة متشابهة.