لماذا «اضطرابات الأكل» هي الأخطر على الإطلاق؟
هكذا عبّرت «ماكينزي» من ولاية ويسكونسن الأمريكية لـ «إضاءات» عن مرضها الذي تغلّبت عليه فاقدة الكثير.
بدأ الأمر بتفكك أسرتها حتى عاش والداها مرحلة الطلاق، ومن ثَمَّ أحست «ماكينزي» بأن حياتها خرجت عن السيطرة. ولكي تسيطر عليها من جديد، صبّت كل تركيزها على نمط أكلها، حيث قيّدت كل ما تأكله وكان لا يدخل جسمها أكثر من 400 سعر حراري في اليوم. وأخذت هذا الأسلوب حسبما وصفته كآلية للتأقلم من جديد، وانغلقت تمامًا عن الأصدقاء والمناسبات لأنها كانت تعلم بأنه سيكون هناك طعام.
استشعرت ماكينزي خطرًا ما بعدما علّقت والدتها «يمكنني أن أرى عظامك من خلال جلدك» وصار شعرها يتساقط مع إحساسها بالخمول وفقدانها لدورتها الشهرية. حدّدت موعدًا مع طبيبة العائلة والتي نقلتها على الفور للمستشفى بسبب حالتها الحرجة، وكانت حينها ترهب بعض أنواع الطعام والشراب مثل الحليب الأبيض. بدأت في العلاج واستجابت له تدريجيًا وقالت: «كنت أعلم أن هذه الأشياء ضرورية لأصبح أفضل مرة أخرى».
وأضافت: «عندما كنت أشعر بالإحباط وعدم الأمان، أقوم بقراءة اقتباسات إيجابية على الفور أو مشاهدة أفلام تفعمني بالأمل». وعلى الرغم من حبها لقضاء الوقت بمفردها منذ أن كانت طفلة، فإنها كانت تشعر بأنها ليست وحيدة تمامًا خلال فترة علاجها. وأشارت: «خلال فترة العلاج تتعلم كيف تواجه أفكارك، وإذا تركت تلك الأفكار تتمكن مني، لكنت انتكست مُجددًا».
قطعت «ماكينزي» طريقًا يصل إلى حوالي عام ونصف، ولكن اتضح أن هناك المزيد من المقاومة مُخبأة بداخلها. وبعد عدة شهور أخرى من العلاج، تخلّصت «ماكينزي» أخيرًا من خوفها. والذي صرّحت عنه بفرح:
تعد اضطرابات الأكل من الأمراض النفسية التي تنجم عنها معدلات عالية من الأمراض المُصاحِبة والمُهدِّدة للحياة، وتعود لأسباب طبية نفسية. والذين يعانون منها لديهم معدلات من الاضطرابات النفسية، بما في ذلك القلق والاكتئاب واضطراب الوسواس القهري -وهي أسباب قد تؤدي لحدوث أحد اضطرابات الأكل أيضًا- ويُذكر أن معدلات وفيات المرضى الذين يعانون من اضطرابات الأكل هي الأعلى من أي اضطراب نفسي آخر.
وأوضح الأخصائي النفسي «أحمد سويلم»، بأن هذا الاضطراب هو عبارة عن طريقة تناول الأكل بشكل معين بما له دلالات نفسية. وينقسم إلى: فقدان الشهية، والشره العصبي، والشراهة.
يتجنب المريض الأكل في حالة فقدان الشهية (AN) خوفًا من زيادة وزنه، أمّا في الشره المرضي (BN) يشعر المريض بالجوع الشديد ثم يأكل كمية أكثر من المعتادة –حوالي 2000 سعر حراري في الوجبة– ومن ثَمَّ يتخلص منها بالتفريغ أو الرياضة أو بأخذ ملينات. ولكن في الشراهة (BED) فيأكل نفس الكمية الضخمة من الطعام ولكن ليس شرطًا أن يتخلص منها ولذلك يعاني من زيادة الوزن.
فقدان الشهية
هو عبارة عن حالات سلوكية خطرة تتميز باضطراب شديد في الأكل، حيث تبدأ بفقدان الوزن من خلال نظام غذائي صارم مع مراقبتك لمكونات طعامك إذا أمكن. يحدث هذا غالبًا في سن المراهقة والشباب الذين يُقدر أعمارهم تقريبًا بين 15 و24 عامًا، وقد تحدث في أعمار أخرى.
وعلى الرغم من إصابة الذكور بفقدان الشهية، فالهيمنة الساحقة للنساء لا يمكن إنكارها. كما ذكرت الجمعية الوطنية لاضطرابات الشهية (NEDA)، والتي تُقدِّر حدوث الوفاة لدى مصابي اضطرابات الأكل أكثر 10 مرات من نظرائهم في نفس العمر.
الشراهة في الطعام
هو اضطراب يجعل المريض لا يستطيع التوقف عن الأكل حتى يشعر بالامتلاء وصعوبة في التنفس من كثرة الأكل.
هكذا علّق «أحمد محمد» -اسم مستعار- على ما حدث له. فقد تعرّض لحادث أدى لخلع في كاحله الأيمن مما جعله يقضي وقته بالمنزل بين الاستراحة والطعام. خضع لعلاجه الطبيعي الذي اكتسب أثناءه الوزن، مع عدم استطاعته التحكم بشهيته. وعلّق: «عندما تتأثر نفسيتي أتناول الطعام بسبب وبدون سبب لأتحسن».
ترك أحمد العكاز بعد انتهائه من جلسات العلاج الطبيعي، وداوم عمله مجددًا مع القليل من الرياضة ليشعر بالرضا. خسر الكثير من الوزن، ولكن فرحته لم تكتمل. فقد حلّت جائحة كورونا على العالم، والتي أدت لإغلاق الصالات الرياضية وفرض الحظر. وشعر حينها بالضيق والتوتر الدائم مما جعله يتجه للأكل مرة أخرى.
واستكمل: «لا أفهم ماذا يحدث، والحل الوحيد في هذه الأوقات هو الأكل بشراهة»، وأكد على شعوره بالاكتئاب بعد كل مرة يأكل فيها. قرر زيارة أخصائية تغذية، ثم فَقَدَ الكثير للمرة الثانية، ولكنه كتم شعوره بالشره وبقي إحساسه دون علاج. وعندما تعرّض لصدمة شخصية بعد زيارته لها قرّر التوقف عن الذهاب تمامًا. أمًا الآن ينوي زيارة طبيب ليتمكن من علاجه والحفاظ على ما قد توصل إليه.
قدّرت الدراسات الاستقصائية المجتمعية أن مرض الشراهة ينتشر بين الجنسين بنسب متقاربة (65% إناث، 35% ذكور)، وذلك على عكس «الشره المرضي»، والذي لا تزيد نسبة الذكور المُصابين به عن 10% فقط.
الشره المرضي
تبدأ الحكاية معها منذ أن كانت طالبة في الثانوية العامة. وبعدما انتهت منها لاحظت فرق وزنها الزائد الذي دفعها إلى اتباع نظام غذائي. قطعت «م ع» كل شيء يمكن أن يؤثر على وزنها بما في ذلك السكريات، والتي كانت تعشقها. ثم باشرت الجامعة، ولكنها تعرّضت لصدمة شخصية أدت لفقدان سيطرتها على الطعام.
ظهرت الأعراض بوضوح في تلك الفترة، عندما بدأت في اللجوء للطعام بكميات ضخمة كبديل عاطفي، خصوصًا عند شعورها بالحزن. وعلّقت: «الموضوع بدأ يأثّر على صحتي»، حيث يمكن أن تتعدى الوجبة الواحدة 2000 سعر حراري. وأرادت التخلص من تلك الكميات بعد كل وجبة، عن طريق أخذ ملينات، لتقليل إحساسها بالذنب.
وبعد عام ونصف من المعاناة قامت بزيارة الطبيب، والذي أكّد على إصابتها بالشره العصبي أو بما يسمى «بوليميا». ثم بدأت رحلة العلاج، والذي ركّز على التصالح مع الذات، الأمر الذي بيده علاج الضعف النفسي المُستهدف والذي سيساعدها على التحكم في نمط أكلها. وبعد ٦ أشهر تخلّصت منه تمامًا، ووثقت في أهمية دور الطب النفسي.
وقد أظهرت نتائج الدراسات أن الشره المرضي من الاضطرابات التي تبدو ظاهريًا أنها مشكلات مرتبطة بمدى الإفراط في الطعام. ولكن الأمر ليس كما يبدو عليه، بل هذه الاضطرابات لها أبعاد نفسية وبدنية عميقة تتجاوز تلك المظاهر. وافترضت الدراسة أن منْ يعانون من مشكلة البدانة يقف الكثيرون منهم على أعتاب اضطرابات الأكل، ولكن لا يعرفون أنهم مرضى.
كورونا تؤثر
ظهرت في الآونة الأخيرة نكات تم تداولها بين الناس عن زيادة أوزانهم نتيجة الحجر المنزلي الذي فرضه كوفيد-19، الأمر الذي دفع للتحقق. وقد ذكرت «كورتني وارين»، أخصائية نفسية بولاية لاس فيغاس الأمريكية، أن هناك الكثير من الأبحاث التي أثبتت أن التعرض للضغوط النفسية أوقات الأزمات يُسبِّب تغيرًا في أنماط تناول الطعام، ولذلك يجد الكثير من الناس حينها صعوبة في مقاومته، كما أن هناك دوافع نفسية أخرى تؤدي بنا للبحث عن الطعام عند انقلاب العالم رأسًا على عقب.
وأشار سويلم أنه خلال أوقات الأزمات يحاول الإنسان تغطية شعوره بالقلق والخوف والإحباط، عن طريق وسائل الدعم، التي قد تشمل ممارسة الرياضة وألعاب الفيديو والاتصال بالأقارب والأصدقاء… إلى آخره. وعلّق أن من أسهل الطرق للتغلب على المشاعر السلبية وقت الأزمات هو الأكل، لذا يجب التعامل معه بحذر. كما أن زيادة الوزن في تلك الحالة هي نتيجة التعامل مع المشاعر وليست عرضًا. كما من المحتمل أن يأكل الشخص نفس كمية الطعام التي كان يأكلها، ولكنه لا يتحرك بما يكفي أثناء الحظر لحرقه فيزداد وزنًا عمّا قبل.
نظرة مجتمع
قامت دراسة بفحص التصورات المجتمعية حول الفرد المُصاب بفقدان الشهية العصابي، أي تصورات الأشخاص المحيطين بالمريض، وقد كانت تقييمات المشاركين سلبية حول الذين يعانون من فقدان الشهية. حيث اعتقد المشاركون بأنه إذا أراد (المريض) أن يتحكم بطعامه سيفعل ذلك لكنه يريد لفت الانتباه.
علّق سويلم بأن الأغلبية ما زالوا يُوصِمون المريض النفسي، وما زال المجتمع يرى أن المريض يمكن التحكم في نفسه. فعندما تقول للمريض «لماذا لا تُرِفه عن نفسك؟ أو لماذا لا تتحكم بشهيتك؟»، يتحول السؤال إلى لوم. حيث كلمة «لماذا» تعطي إيحاء بأن لديه القدرة ولكنه في الحقيقة لا يملك فعل شيء ويحتاج إلى المساعدة والعلاج، كما أن هذا الأسلوب في المعاملة من شأنه تضخيم المشكلة وليس علاجها. وأضاف سويلم أن أحد طرق دعم المريض هي تحويل السؤال من «لماذا» إلى «كيف» -كيف أستطيع مساعدتك؟- وتشجيع المريض دائمًا ومساعدته على تقبّل نفسه.
وأشار «عندما يكون السبب ظاهرًا، يسهل معرفة العلاج». ولكن مشكلة الاضطرابات النفسية -وبالأخص الأكل- تكون غير ظاهرة بنسبة كبيرة. لذلك يجب أن تمتد جهود الدعم إلى محاولة فهم السلوكيات المضطربة للمريض، وتفهّم معاناته، وهو ما قد يكون المصدر الوحيد والبسيط لاحتوائهم.