لماذا لا نتوقف عن مشاهدة جعفر العمدة؟
في عام 2021 عُرض مسلسل نسل الأغراب للمخرج محمد سامي، وهو المخرج ذو الاسم الخلافي، الأرقام الضخمة والانتقادات الحادة، لاقى المسلسل سخرية واسعة، أصبح أحد المتع الممنوعة بالنسبة للمشاهدين فهو على رداءته الشديدة به عنصر جاذب، غرابة غير مسبوقة، وجدية مقصودة غير واعية لإمكانيات اجترار السخرية منها، وقع ذلك العمل تحت تصنيف ما أطلقت عليه الناقدة والكاتبة الشهيرة سوزان سونتاج «الكامب»، وهو وضع حكائي وبصري يتسم بالضخامة الشديدة، المغالاة في كل شيء من الأزياء إلى التمثيل إلى التحولات الدرامية، هو وضع مضخم من الميلودراما، لكنه يتخطاها بخطوة، وفوق كل شيء هو يتسم بالبراءة في الجدية الشديدة، فصانع هذا النوع من الأعمال ليس لديه فكرة أن عمله تخطى الجدية ليصبح مثيرًا للسخرية المحببة، فهي ليست سخرية ذات نوايا سيئة، بل حالة حقيقية من الاستمتاع بما تحول من الجد إلى الهزل.
هذا العام يعود محمد سامي بنجاح أضخم وأكثر شمولًا للطبقات المختلفة، مسلسله جعفر العمدة يشاهد ويناقش في البيوت وعلى المقاهي وعلى منصات التواصل الاجتماعي، لكن ما جعله في وضع مختلف عن نسل الأغراب هو عودته مرة أخرى للنجم الكاريزماتي محمد رمضان، الذي يحاول هو الآخر استرجاع شعبيته، بالإضافة لتقليم روح الكامب وتهذيبها، لا يخرج جعفر العمدة عن الجدية المفرطة التي تتحول إلى هزل، لكنه أكثر قربًا للأرض من نسل الأغراب، لا تزال الأحداث ضخمة والتمثيل ميلودراميًّا، لكن هنالك مساحة للاهتمام سواء الجدي أو الهازل.
اخترق محمد رمضان هذا العام مساحات جديدة في منازل أفراد الطبقة المتوسطة والعليا، بجعفر العمدة تحققت حالة نادرة من اتفاق شعبي عابر للطبقات يعتمد على نظرة إكزوتيكية من الطبقة الأعلى وتوحد شعبي مع الطبقات الشعبية، يعمل جعفر العمدة كمباراة يجلس المشاهدون أمامها مشجعين، متطلعين للمزيد حتى مع معرفتهم التامة بالأحداث المتوقعة، يفعل جعفر العمدة وضع المشاهدة الساخرة التي تتراوح بين الاهتمام الفعلي والفضول الفوقي، لكن المثير للاهتمام أنه مهما تعرض لانتقادات من متابعيه أو المتجاهلين له، مهما علق المشاهدون على ركاكة القصة أو المبالغة في التمثيل أو الموسيقى الملحمية التي تشتعل مع أقل مشهد درامي، فإنه لا أحد ممن بدأ المشاهدة يستطيع التوقف.
بين الجدية والهزل
صنع جعفر العمدة حالة من الاهتمام الجمعي، الجميع يناقش الأحداث نفسها وينتظر النتائج التي يتوقعها سلفًا، لا ينبع ذلك الاهتمام من إحكام مثير للإعجاب للحبكة والقصص المروية في العمل، لكن للفجوة الواقعة بين الجدية التي أرادها محمد سامي ورد الفعل الهزلي الناتج عنها، يتبع العمل جعفر (محمد رمضان) العمدة لمنطقة شعبية مصرية شهيرة، وهي السيدة زينب، يتوسطها كإله آمر وناهٍ مرتديًا عباءته وشواربه وشعره الصناعيين، متزوجًا من أربع نساء جميلات، له أم سمتها المبدئية هي الإفراط، يتخلل ذلك كله مواقف كوميدية، ربما تأخذ حلقات كاملة، من الأخذ والرد بين الزوجات والأم، لكن عندما يتغير الوضع إلى الجدية ينفر العمل كله لكي يتحول إلى ملحمة، تغشى موسيقى خالد حماد الضخمة كل شيء، وتنتقل الكاميرا من وجه إلى وجه لتعرض الدهشة والمفاجأة، ففي كل حلقة مفاجأة بشكل ما، لكن ليس منها ما يفاجئ بشكل حقيقي.
هناك وضعان لمشاهدة جعفر العمدة: الأول هو وضع بريء جدي مثل الذي أراده محمد سامي، يمكن إيجاده في فئات أوسع من المشاهدين، الذين يتوقون للتشجيع والتماهي بشكل كامل مع شخصيات تمثل رغباتهم الشخصية من القوة والسطوة، وربما الذكورية والافتراء كذلك، الوضع الآخر هو وضع مترفع يشاهد من مسافة، يشجع الشخصيات ويضحك عليها، في تمثل لطبيعة الكامب التي تجعل الجد هزل، معظم المشاهدين الجدد غير المعتادين على مشاهدة أعمال رمضان وسامي يستغربون من القوة الخفية التي تدفعهم لمتابعة جعفر العمدة يومًا بعد يوم حتى مع اختلافه مع مبادئهم الرئيسية، فشخصية جعفر نفسها شخصية متسلطة ومتحكمة، محبوب ومهاب لقوته، لا يقدم الرفق إلا عندما يقع في الحب، وحتى عندما يفعل يمكنه أن يمارس أشد أنواع القسوة مع محبوبته إذا عصت أوامره، يستطيع في ضربة واحدة إنهاء عدة رجال، كما أن سطوته خارجة عن القوانين والأمن النظامي.
عالم بدون أمن نظامي
جعفر العمدة ليس بطلًا شعبيًّا أو شابًّا فتوة، بل يتبع مجموعة من القيم الذاتية تمامًا التي تعزز قوته ويفرضها على الجميع، تعيش شخصيات جعفر العمدة في عالم وهمي يصعب تصور أنه في نفس البلد الذي نعيش فيه حتى مع تشابه أسماء المناطق والتفاصيل العامة، عالم يتجاهل طبيعة الزمان والمكان، هذا عالم يقع بالكامل في خيال شاب كأنه يستكشف الذكورة والقوة لأول مرة، بدون قواعد ولا سلطة نظامية، يستطيع جعفر العمدة بسهولة أن ينهال بالضرب القاتل على أفراد في الشوارع أو في الشركات متعددة الجنسيات دون أن تظهر الشرطة من كل جانب للقبض عليه، في جعفر العمدة النظام المفروض هو نظام العمدة والسيدة زينب، وذلك يسري على كل شخص وكل منطقة.
لا يوجد أثر للأمن النظامي أو المؤسسات إلا عندما تحتاجها الحبكة، أو من خلال البروباجندا العابرة، مثل تصوير مركز الإصلاح والتأهيل الذي يسجن فيه شوقي فتح الله (منذر رياحنة) المنتظر خروجه لصنع معركة قاتلة بينه وبين بطل العمل، وحتى مع ظهور المركز الذي يمثل سجنًا آدميًّا وتقدميًّا فإن ديناميكية التعامل داخله في شكل عصابات منظمة وخروج رواده في وضع أسوأ مما دخلوه هو عكس ما يسوقه السجن عن نفسه، يخرج سليل عائلة فتح الله كشرير متعطش للدماء ساخر من الجميع، ومن أي سلطة سواء نظامية أو شعبية، يمثل ذلك جزءًا آخر من ذلك الخيال المتحلل من المؤسسية حتى دون قصدية لفعل ذلك.
ينجح جعفر العمدة دون العامل السري الذي جعل محمد رمضان بطلًا طيلة السنين الماضية، فلقد تخطى مرحلة أن يكون بطلًا مظلومًا يعود لينتقم، وأصبح هو الظالم، يتجاوز مع زوجاته المستضعفات، يضرب رجلًا في مكتبه أمام زملائه فقط لأنه لا يعجبه، تلك الممارسة الاستحقاقية غير المفلترة وغير المبررة تتواصل مع جانب غير مروض من العقول، عقول المشاهدين، خاصة بعض الرجال الذين يرون العالم ملكهم، رجال ونساء دون شرطة ودون قضاء ودون عواقب، عالم لا تنضب به الأموال ولا تقول النساء لا.
قصص تصنع في غرفة المعيشة
يصنع سامي حكايات تشبه تلك التي يمثلها الأطفال أصحاب الخيال الخصب في غرف معيشتهم، لا يهم كثيرًا المنطق أو حتى الجودة، ولكن دفعة الإثارة والعشوائية الشديدة كأن تنفجر الموسيقى الملحمية بالآلات النحاسية بعد سب إحدى الزوجات لضرتها، كل حدث صغير هو ملحمة في ذاتها، جعفر العمدة هو عكس الدقة subtlety لا يمتلك نصًّا تحتيًّا subtext فهو نص يقرأ مثلما كتب، تتواصل الشخصيات عن طريق الكشف الحواري exposition الذي يأخذ أبعادًا يستحيل تصور أن المقصود منها هو الجدية، يصعب حتى مقارنته بالأساطير والدرامات البالغة في القدم لأنه لا يتعامل مع تيمات إنسانية أو مجتمعية، بل يتعامل مع المشهدية فقط، فهو استعراض، وليس استعراضًا خرافيًّا يجعل من مشاهدته عملية غرائبية مثل نسل الأغراب الذي اتسم بإفراط وضخامة جعلا الاستمتاع به عملية من المراقبة والدهشة، بل استعراض طفولي، لغرائز رئيسية مثل فرض السيطرة والتحلل من القواعد الحاكمة للكون.
لا تأتي النتيجة الأخيرة لجعفر العمدة كتفكيك للميلودراما أو للملاحم الشعبية بشكل واعٍ، ولا يحاول محمد سامي صنع محاكاة ساخرة، لكنه مفرط الجدية فيما يقدمه، جدية تتحول إلى مصدر للضحك دون قصد، ومصدر للمتعة الخيالية، فتلك الجدية من الصعب أن تبكي مشاهدًا معتادًا على مشاهدة أنواع عدة من التلفزيون، لكنها بالطبع ستدهشه، دهشة طفولية من حقيقة أن ذلك العمل ظهر بذلك الشكل، من الجرأة وعدم الخجل من الابتذال، من السهولة الشديدة التي تسير بها الأحداث مهما تعقدت، من السهولة الحكائية التي تبدو وكأنها لم تمر بكل التطور القصصي والدرامي الذي حدث منذ تاريخ القص نفسه.
تجاهل جعفر العمدة لعناصر الدراما الحديثة مثل التمهل والدقة والغموض جعله عرضة لمشاهدات أكبر، فمعظم من يشاهدون الأعمال الرمضانية يتورطون في متابعة أعمال جدية تتناول قضايا مجتمعية بشكل ثقيل ووعظي، أو أعمال يمكن وصفها بالتلفزيون الراقي prestige tv تتسم بالجودة والعمق، لكنها غالبًا ما تكون مبتورة ليست فائقة الجودة لكي تنافس الأعمال العالمية الواصلة إلى الكثير من بيوت الطبقات المتوسطة والعليا ولا رديئة كفاية لاستخدامها كوسيلة تسلية سهلة وقت الإفطار، فأصبحت البدائية الطفولية التي يمثلها جعفر العمدة بديلًا خفيفًا، فهو عمل يصعب نقده أو تفعيل العقل في تحليله، فهو أشبه بحكاية شعبية دون أبطال، لا تشجع فيها الولد الشهم الذي ينتصر على الأعداء، بل يتم تشجيع فعل العنف نفسه، العنف الذي يمر دون عواقب.
صنع محمد سامي دون قصد وربما ببراءة مراهقة عملًا يضع العنف والحركة في المقدمة دون حتى عناء صناعة مشاهد حركة متقنة أو مبهرة، لكنه يموضع الأحداث دون معانٍ كبرى، ليس هنالك وفاء أو شجاعة، يوجد فقط أفعال انتقامية هوجاء لا يقف في وجهها أحد، يمثل ذلك تجربة يمكن الاستمتاع بها دون التورط فيها من قبل المشاهدين الذين اختبروا أنواعًا شتى من الدراما التليفزيونية، لكنه في الوقت نفسه يمثل مؤشرًا مقلقًا فيما يخص الانتشار الشعبي بشكل أعم، فهنالك ملايين تشجع شخصية لا تمتلك أي كود أخلاقي تقليدي تتماهى معها بشكل كامل دون مسافة فاصلة، بل تشجع القوي على المستضعفين، وهو ما يتنافى مع طبيعة البطولة الشعبية في شكلها الأكثر كلاسيكية.