رامز عقله طار: لماذا لا نملّ من النكتة المكررة؟
يستمتع الجميع بالمقالب/ النكت العملية، فهي نوع مهم من الكوميديا. كما يمكن القول إنها أول أنواع الكوميديا التي نتعرض لها في الحياة ونميزها. حيث يبدأ الأمر بطفلٍ رضيع لا يضحك إلا إذا ما صرخ أحدهم في وجهه «عوّوو». ولا يزال خلق الارتباك والخوف المخطط له مصدرًا نستمد منه المتعة والضحك.
إلا أن المقالب لم تعد أمرًا يحدث في نطاق عائلي صغير، فقد انتقلت منذ سنوات إلى الشارع، واتسع نطاق المقالب لتشمل المشاهير والفنانين الذين أصبحوا صيدًا دائمًا لبرامج تخصصت في هذه الفئة المجتمعية تحديدًا، حتى أتى «يوتيوب» وغيَّر معه خريطة المقالب وأسبابها، وفي جميع الأحوال بقيت «المقالب» سلعة رائجة دائمًا تحقق أعلى المشاهدات وتتسابق القنوات على عرْض برامجها، كما تنوعت طُرق عرضها على مواقع التواصل الاجتماعي.
وهو ما دفعنا إلى التساؤل: لمَ تستمر المقالب في الظهور في أشكالٍ جديدة؟ ولمَ لا يملُّ المشاهد منها؟ هذا هو ما سنحاول شرحه والإجابة عليه.
البحث عن الأسباب
قالت الدكتورة بسنت حنفي المحمدي، طبيبة الأمراض النفسية والعصبية لـ«إضاءات»، إن أسباب الشغف بمتابعة «المقالب» كثيرة، لكن التعميم لن يكون صحيحًا؛ لأن هناك فروقًا اجتماعية وتعليمية وحياتية بين المشاهدين. حيث لا يمكن وصف مجتمع كامل بعدة صفات جملةً لاجتماعهم على مشاهدة نفس النوع من البرامج.
ولهذا فهي ترى أن السبب وراء مشاهدة مثل هذه البرامج يمكن تفسيره وفقًا لبعض المشاعر والدوافع التي يمتلكها الإنسان. فالمشاعر بداخلنا ينتج عنها احتياجات غير ملباة وهي ما ينتج عنها الدوافع.
تعتقد بسنت أن «السادية» قد تكون دافعًا عند البعض، والسادية هي اللذة الناتجة عن إيقاع الألم بالآخرين، لفظًا أو فعلًا، ووفقًا لبسنت فالأشخاص الذين يُعانون من هذا المرض يستمتعون بمشاهدة العنف، وكلما اقتنعوا بأن هذه البرامج غير مفبركة ازدادت المتعة؛ لأنها تُشبع مشاعرهم السادية.
ترى بسنت أن أحد الدوافع للاستمتاع ببرامج المقالب قد يأتي في صورة آلية دفاع تعرف بالإزاحة. وهو تحويل مسار بعض المشاعر إلى مصدر آخر بديل والتنفيس عن هذه المشاعر من خلاله لعدم القدرة على مواجهة المصدر الرئيسي. مثل زوجٍ ينهره رئيسه في العمل، فيعود إلى زوجته وأطفاله لتفريغ غضبه فيهم من خلال افتعال المشاكل، حيث ترى أن الجمهور يجد في مثل هذه البرامج هروبًا من الواقع وتنفيسًا عن عبء الحياة.
هناك دافع آخر يُمكننا به تفسير اندفاع الكثيرين نحو مشاهدة هذه النوعية من البرامج، وهي تندرج تحت مفهوم علم نفس الحشود، ويعني أن عملية التفكير والسلوك الفردي قد تتغير وفقًا لنفسية الجماعة المحيطة به، فقد لا يتحمس الفرد لمشاهدة برنامج رامز جلال وحده، لكنه قد يستمتع بمشاهدة نفس البرنامج في وجود آخرين يتحمسون لمشاهدته.
المشاهير: الضحية المثالية
بدأت برامج المقالب المصرية من خلال برنامج «الكاميرا الخفية»، حيث قدمه النجم فؤاد المهندس عام 1983. وكان نجوم الحلقات وضحاياها مواطنين عاديين، يتعرضون لمواقف كوميدية مفاجئة. ليأتي بعده «زكية زكريا»، والذي يعد من أشهر برامج المقالب، حيث يتقمص الفنان إبراهيم نصر شخصية امرأة تدعى «زكية زكريا» وتستفز عددًا من المواطنين للحصول على ردود أفعال طبيعية ومضحكة منهم. استمرت برامج المقالب في جعل المواطن العادي هو نجم الحلقة.
حتى جاء حسين الإمام عام 2003 ببرنامجه «حسين على الهوا» لتصبح برامج المقالب حكرًا على النجوم والمشاهير فقط. ومن بعده أشرف عبد الباقي في «مقلب دوت كوم» ونشوى مصطفى في «نجومنا في اليابان».. لينتهي الأمر بمقالب «الهلع» مع رامز جلال في عام 2011 ليغير خريطة برامج المقالب من الإعجاب إلى الاستهجان، ومن الكوميديا الخفيفة إلى كوميديا الهلع.
جميع ضيوف رامز جلال من الفنانين والمشاهير فقط، حيث يتعمد إخافتهم ووضعهم في مواقف غير اعتيادية، وهو ما لاقى اعجابًا جماهيريًّا ضخمًا. استمر رامز عامًا تلو الآخر في الظهور ببرنامج جديد أكثر رعبًا من سابقه، حتى تحول الأمر في برنامجه الأخير إلى ما هو أقرب للسادية من المقلب، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل حول المدى الذي يُمكن أن يصله رامز بعد موسم أو اثنين بعدما استنفد أشهر وسائل التنكيل بالبشر كالحرق والغرق والإسقاط من طائرات.
ويبقى التساؤل الأبرز: لِمَ حظي برنامج رامز جلال بنجاح كبير فاق بكثير كل الأدوار الفنية التي قدَّمها خلال مسيرته؟
في عام 2018م أجرى عالم النفس ريتشارد إتش سميث دراسةً لاستكشاف شعور يدعى «Schadenfreude» أو «السعادة أمام مصائب الآخرين». وهو ما يُرادف مصطلح نعرفه في ثقافتنا العربية بِاسم «الشماتة». من خلال تجربة نفذها بعرض شخصين؛ أحدهما غني ووسيم ولديه حبيبة وسيارة، والآخر شاب متوسط الدخل لا يملك حبيبة ولا سيارة. ثم عرض سميث الشابين أمام نفس المأساة. ليجد أن المشاركين في التجربة ابتهجوا برؤية الشاب الأول يعاني.
في مقال كتبه في صحيفة الشرق الأوسط، أوضح الناقد طارق الشناوي أن جمهور برامج المقالب لا يعد سلبيًّا كمتلقٍّ، وإنما يلعب إيجابيًّا في كل الحلقات. لنتخيل مثلًا عاملًا تقسو عليه الحياة نهارًا فيسعد ليلًا برؤية بعضٍ ممن يراهم «النخبة المرفهة» عاجزين وجاهلين للموقف الذي يعيشونه ويخرجهم عن شعورهم. وفقًا للشناوي فإن المشاهد «يخدع نفسه بنفسه ولصالح نفسه حتى يكمل اللعبة للنهاية ويحقق متعته، ويتمكن من مشاهدة الفنانين في لحظة انفلات أعصاب بعيدًا عن الصورة النمطية التي يصدرونها لنا».
في رمضان تكثر الدراما
كان المخرج ألفريد هيتشكوك ينصح زملاءه بأن «يحرصوا دائمًا على جعل المُشاهد يعاني قدر المستطاع»، وهو ما تتبناه معظم الأعمال المشاركة في الماراثون الرمضاني، حيث تكثر الدراما والتراجيديا وتندر الكوميديا. وطبيعة شهر رمضان لا تحتمل هذا الكم المكثف من الدراما، لأن المشاهد يمر، بسبب الصيام والإفطار، بحالة من الخمول الجسدي والعقلي، فلا يكون ذهنه متيقظًا لمشاهدة أشياء تستدعي انتباهًا كبيرًا.
فلا يجد المشاهد ما يبحث عنه إلا في برامج المقالب، حيث لا تتطلب انتباهًا على الإطلاق، لأن الانتباه عدو هذه البرامج، وهو ما يفسد متعتها. حيث يستطيع المشاهد ببساطة أن يدرك أن ما يحدث هو تمثيل رديء وخوف مزيف. وهو ما يسميه الناقد طارق الشناوي «تواطؤ الجمهور مع الشاشة»، وأن التجربة قد أثبتت أن متعة الجمهور ليست في أن يخدعه رامز جلال، وإنما متعته الحقيقية في التواطؤ الذي يحدث بينهما.
بينما يرى الاستشاري النفسي الدكتور جمال فرويز، في حديثه لـ«إضاءات»، أن هذه البرامج ليست من طلبِ الجمهور، وإنما هي نوع فرض عليه، فلم يعد المُشاهد انتقائيًّا. وعادةً ما يلجأ إلى متابعة ما هو بسيط ومسلٍّ بعد عناء يوم طويل، حيث يشعر باستحقاقه للضحك والمتعة. كما يجد في هذه النوعية من البرامج هروبًا من واقعه الصعب، فلا يميل إلى إعادة خلق بؤس لا يخصه وسيؤثر عليه سلبًا من خلال الشاشة.
تختفي الأسباب وتبقى الأرباح
لم تعد برامج المقالب مجرد نوع للبرامج التلفزيونية الموسمية، حيث أصبح بإمكان كل من يملك هاتفًا ذكيًّا وقناة على يوتيوب أن يقدم برنامجه الخاص. بأقل الإمكانيات وأبسط الأفكار، تستطيع أن تتربَّح كذلك من تلك المنصة. مثل المقالب اليومية بين أفراد العائلة الواحدة، أو تخويف العامة في الشوارع للحصول على ردود أفعال تجلب مشاهدات أكثر.
«للجمهور ذنب في ذلك». يؤكد جيرمي فيليبس، عالم النفس الشرعي، أن ثقافة المقالب المتزايدة مدفوعة بالكامل بالرغبة في إثارة الإعجاب. وهو ما تفعله السوشيال ميديا، حيث يقترح فيليبس أنه عند عرض محتوى لا يحصد إعجابًا كافيًا فإن مقدمي المحتوى يلجأون إلى أفكار أكثر تطرفًا للحصول على ردود أفعال أكثر. وعندما يصبح فيديو لمقلب ما عنيف «تريند» فإن ذلك يجعل هذا النوع من الفيديوهات أكثر عرضة للتقليد لجمع مشاهدات وأرباح أكثر.
تعد قناة «عائلة أحمد حسن وزينب» أحد أشهر قنوات المقالب العربية، حيث يصل متوسط الربح للفيديو الواحد لها إلى 131,471.99 جنيه مصري، وفقًا لموقع «influencermarketinghub»، أحد أشهر المواقع المعنية بحساب المقابل الذي تدفعه منصات التواصل الاجتماعي لصنّاع المحتوى. وأما قناة «بتوع مقالب» فيصل متوسط الربح لكل فيديو 10.986 جنيه مصري. وتتراوح مدة الفيديو من 10 إلى 20 دقيقة. أمام هذه الأرباح، تتساقط باقي الأسباب. إن هؤلاء الأشخاص لا يصنعون فيديوهات المقالب لشيء إلا من أجل الربح، فلا يمكن الجزم أنهم يودون إثارة الإعجاب بخلق الصدمة، أو لأن لهم ميولًا سادية.
ولو لم تعد المقالب أمرًا يتابعه الناس، فسيحولون محتواهم فورًا إلى ما هو أكثر رواجًا ومتابعة. وتبدو المقالب أسهل ما قد يجلب أموالًا طائل بمحتوى ضعيف وتفكير بسيط. مثل رجل يرتدي ملابس مخيفة ويفزع العامة، أو سائق تاكسي مجنون يثير ريبة الركاب ويستفزهم.
وجه المقالب القبيح
في نهاية 2020، أمرت النيابة العامة المصرية بحبس اليوتيوبر أحمد حسن وزوجته زينب لاتهامهما بترهيب طفلتهما الصغيرة حيث غيرت الأم لون بشرتها وفاجأت الطفلة بهيئتها وهو ما جعلها تنفجر في البكاء. حيث تلقى «خط نجدة الطفل» بلاغًا يتهم الزوجين بتخويف الطفلة والسخرية من خوفها سعيًا إلى التربح من ذلك.
وفي عام 2013 قرر جوردن مورلان، ذو الستة عشر عامًا، أن ينفذ مقلبًا مخيفًا في أخته. حيث خطط أن يدعي أنه شنق نفسه ثم عاد مرة أخرى إلى الحياة ليرعبها. لكن مولان شنق نفسه فعلًا ومات في نفس اليوم.
ينظر المعظم إلى المقالب باعتبارها مجرد حدث مضحك، إلا أن هذا الحدث الواحد قد يتسبب في خلق حالة من القلق والرهاب (Phobia) للضحية، والتي قد تستمر طوال الحياة. كما أن تعرض من يعانون بالفعل من نوع من الرهاب للمقالب قد يزيد الأمر سوءًا. إن الرهاب شائع أكثر مما نتخيل. ففي الولايات المتحدة الأمريكية يعاني حوالي 19 مليون مواطن من نوع أو أكثر من الرهاب. أما في المملكة المتحدة فيقدر عدد من يعانون من الرهاب بـ10 ملايين مواطن.
عادة ما تتكون الرهابات في الصغر، ولا يلجأ من يعانون منها إلى طلب المساعدة ويعيشون بخوف مرضي من أشياء تبدو عادية. إلا أن المقالب العنيفة قد تتسبب في خلق أنوع مختلفة من الرهاب مثل فوبيا المهرج الشرير، فوبيا الدم، فوبيا العناكب، وفوبيا المرتفعات وغيرها. كما أن الأمر لا يقتصر على ضحايا المقلب فقط؛ لأنه وفقًا لدراسة حديثة فإن الرهاب يمكن أن يُورَّث، حيث ينتقل التأثير السلبي للمقالب آنذاك، من جيل إلى آخر فقط بسبب مزحة واحدة كانت على صاحبها أثقل مما ينبغي، فمنحته مرضًا لن يعيش به للأبد فقط، وإنما قد يُورِّثه لأحفاده أيضًا.