لماذا لا يخاف أبطال محمد خان الحياة؟
دائمًا أبطال محمد خان متغطرسون، متكبرون، متهورون ومندفعون، يتحجر الدمع في عيونهم ويحملون سيف من ورق في معاركهم ويتعجبون لماذا لا تسيل دماء خصومهم على رمالهم التي من حرير!
يقول فيليب لاكان «كوني أعيش فهذا سبب كاف لأكون سعيدًا»، ربما استشفت منه حنا آرنت ذلك الانطباع فتقول هي الأخرى «أن الغاية من الحياة هي تلك المتعة التي يشعر بها الإنسان كونه يعيش وعليه أن يشقى في سبيل ذلك» فربما أكثر ما يؤلم الإنسان هو أن يشعر أن واقعه المعاش مفروض عليه بالحتمية لا يتفق مع رغباته ولا يستجيب لنزواته ولا يرضخ لتطلعاته وهذا سبب كاف لتعاسته، حينها عليه أن يتمرد على واقعه هذا ويكسر الجمود من حوله تارة بالرحيل والفرار من ملتمسات واقعه وصنع واقع يناسبه وتارة بالتمرد عليه، ثمة سينما استعرضت ذلك الجانب بعمق تخطت حدود ما هو فني وخرجت إلى ما وراء الفلسفة والمنطق إنها كاميرا محمد خان التي أغارت على كهوف الرجاء فأحالته واقعًا شبه مستذاب.
ينتمي محمد خان وجميعًا يعرف ذلك إلى جيل «الثمانينيات» تلك الحقبة الكئيبة الخالية من المعاني الجادة بل ومن الفن أيضًا، أتى خان وجيله فوجدوا سينما ناسبت فقط جيل ما بعد الانفتاح حيث أفول طبقات قديمة كانت تمثل حجر زاوية في تاريخنا المشرف وصعود طبقات أخرى محدثة ثراء وذوق وفن وربما فكرا أيضًا؛ فوجدنا أفلام المقاولات والفيديو والتي حققت طفرة إنتاجية ولكن بأفلام خالية من المضمون والشكل، قبل أن ينسل كل من عاطف الطيب ومحمد خان من هذا الجمع الكئيب ويؤسسا ما سيعرف لاحقًا بسينما الواقعية المصرية الجديدة أو كما أحب يوسف شاهين وصفها ذات مرة بسينما «شارع ما بعد الناصرية» تلك السينما التى جمعت ما بين الإنسان والمدينة معًا فكل أفلام الطيب وخان هي صراع ما بين البطل الرئيسي ومحيطه الجغرافي ذلك الشارع وتلك المدينة وهذا البطل وهذه الحياة، ولعل محمد خان هو الرجل الذي امتلك من الجرأة ما يكفي بعد نجيب محفوظ لجعل أبطاله أربابًا لمشيئتهم وآلهة لأقدارهم وأسيادًا لمحيطهم فما هابوا ربًا غير أقدامهم التي توجههم ولا قانونًا غير سجيتهم التي ترشدهم فدائمًا هم باحثون عن معنى لحياتهم وهدفًا لمستجداتهم ناقمين على القدر كونه حتميًا والمصير كونه قدريًا، يا له من عالم أبطال خارقين قبل عالم مارفل حديث النشوء.
الحريف: ذلك الفاشل الذي أحبه
في «الحريف» لن يعطي محمد خان الفرصة للجمهور لاستيعاب ما هم على وشك مشاهدته بضربة منجل واحدة مزق خيوط عنكبوت الواقع، شاب ثلاثيني يجري فى الشارع وعلى وقع أنفاسه المتقطعة، التي تحولت إلى لهاث كئيب يهيئ محمد خان الشارع لاستقبال بطله، نحن فى مدينة قاسية صامتة كئيبة قذرة لن تعيش فيها آمنًا ما دمت لا تمتلك قوت يومك في يدك ومطواة تحت حزام بنطالك لا تؤمن بالحب إطلاقًا ولن تؤمن به أبدًا لن ترى مشاهد حب فيها ولن يكون العشاق أحد ساكنيها، ووسط كل ذلك كان على «فارس» أن يعيش واقعه بل ويصبح جزءًا من تلك المدينة، يعتنق أفكارها ويؤمن بموروثها بل ويسهر على حراسة حدودها خوفًا من هجوم عاطفة محتملة ولكنه كبطل «رواية 1984» وينستون سميث يبجل الأخ الكبير أمام شاشات الرصد في الصباح ويمقته في مذكراته بالليل.
هو عامل مهمش لا يمتلك إلا بلوفر شتويًا وقميصًا صيفيًا يعيش كأفعى في غرفة قذرة على سطح بناية أنيقة، يذهب إلى عمله منتظرًا توبيخ مديره شبه اليومي، الذي تحول لديه من شدة تكراره إلى طقس جنائزي عليه حضوره، تنهال عليه طليقته بالسباب واللعان يوميًا، يبصق أرضًا ثم يرحل فهو لا يعر اهتمامًا لمجانين تلك المدينة وفي المساء حيث تموت الديدان في أرغفة الخبز الليلية من شدة العفن وتداس آخر زهرة ألقيت في الشارع بأقدام آخر الوافدين يحول فارس الحريف صمت المدينة إلى مهرجان رقص وصراخ على وقع أقدامه يرقص ويراوغ ويسجل في منتصف المرمى ثم يلهث ويلتقط أنفاسه منتظرًا صافرة تعلن فوز فريقه ليذهب إلى الإسكندراني الأعرج ويتقاضى ثمن موهبته كمهرج كبير، فأنت أمام براجماتي حقير يقتات من موهبته بدلًا من أن يعيش لها يتكسب منها بدلاً من تطويرها ولكنه امتلك من الجرأة ما عجز عنه أعتى الفاشلين من منا يمكنه أن يضحي باستقراره الأسري لكي يطارد حلمه كلاعب كرة شراب منساقًا وراء غريزته على أن يكون قدوة لابنه ويثبت لزوجته أنه يتمرد على رتابة المفروض بشيء من الجرأة نفتقدها نحن، رافضًا أن يعيش حياة الناس العاديين هؤلاء الذين تضجر بهم المدينة فيتحولون إلى نسخ تشبه بعضها بعضًا يستيقظون في الصباح قبل أن تفتح الشمس جناحيها للحاق بأول باص يقلهم إلى عملهم ويعودون بعد الظهر محملين بالسباب واللعان لكل من في البيت، مفضلًا فشلًا لذيذًا على استقرار كئيب أنا فاشل وأعرف ذلك يقول ذلك لابنه لزوجته لمديره في المصنع للفتاة التي طلبت منه قضاء ليلة معه من دون أجر، للوافد الجديد من قريته لصديقه الذي عمل بإحدى شركات الاستيراد وأصبح يمتلك تمساحة «سيارة» أنه يخالف قانون المدينة ويتمرد عليه ويخالف العرف العام وما يستحق أتباعه حتى في آخر جملة في الفيلم يخالف وجهة النظر السائدة ويفضل اللعب مع الخسران.
شمس دون كيخوت خان
ما بين عامي 1605 و1615، يبدأ «ميغيل دي ثيربانتس» بإظهار أشهر أعماله إثارة على الإطلاق دون كيشوتي أو كما يحب البعض تسميتها دون كيخوته ممسكاً بمسمار عجلة الانطلاق فيما سيعرف لاحقًا بـ«Paper hero» أو أبطال القش تحكي الرواية عن ألونسو كيخانو، واحد من النبلاء ناهز الخمسين من عمره يعيش في إقليم لامانتشا في القرن السادس عشر لم يتزوج فقد عقله جراء قراءته لكتب الفروسية وقلة النوم والطعام، يقرر أن يترك منزله وحياته ويشد الرحال كفارس شهم من العصور الوسطى يبحث عن مغامرة تنتظره. وقرر أن يتسلح بدرع قديمة مرتديًا خوذة بالية مع حصانه الضعيف روسينانتي وخيلت له النزل المتواضعة كأنها قلاع وقصور شاهقة الارتفاع لمنازلتها، وقد وُصف بـ فارس الظل الحزين. صادفه كثير من الحظ في مغامراته الفكاهية حيث كان الشخصية الرئيسية التي يحركها الخير والمثالية، وتبحث عن تقويم الأخطاء التي ارتكبها الآخرون ومساعدة الفئات المحرومة وتعساء الزمن الأرامل واليتامى والمساكين، معيدًا بذلك دور الفرسان في الأزمنة الغابرة.
في ضربة شمس نجد «شمش» مصورًا صحفيًا يسير على خطى الدون كيخوته، ولكن بشيء أكثر حداثة فالشاب الثلاثيني، الذي يعمل مصورًا صحفيًا ويعيش في ظل منظومة بيروقراطية تحكم واقعه شبه اليومي يدرك تمامًا حتمية ما هو قادم إليه، ففي الصباح يحمل حقيبته ويستقل دراجته البخارية متوجهًا نحو المكان الذي أخبره عنه رئيس قسمه في الجريدة وبالليل يعود لغرفته منهكًا يلقي حقيبته يتناول طعامه ثم يتوجه نحو مختبره ليفرغ صوره الملتقطة وهكذا الأيام عند شمس متشابهة صامتة متناسخة لا تتشابه مع روح بطلها حيث يرى نفسه مغامرًا؛ حتى يهيئ له القدر حظه يدعي لتصوير حفل زفاف لشخصية كبيرة ولأن الكاميرا لا تعرف الحب يلتقط صورة لقصاصة ورق محترقة عليها بضع كلمات غامضة فيضع روحه رهن اكتشاف ذلك اللغز مفضلًا جنون المغامرة على أن يعيش حياة الناس العاديين أو أن يموت مثلهم يقرر أن يكسر قشرة ملله السميكة بأظافره الخالية من الخواتم حتى ولو أسال ذلك منه الدم والدموع ينصحه صديق ضابطًا بالابتعاد عن القضية تترجاه حبيبته سلوى خوفًا على حياته ولكن آذان المتهورين لا تُطرق ولو أقنع ميغيل دي ثيربانتس بطله بذلك لأقنع محمد خان هو الآخر بطله بذلك.
خرج ولم يعد: التضحية أفضل حل للنجاة
إن لذة المغامرة تكمن في قرار قد تظنه خطأً تندم عليه ثم تعود لتصفق لنفسك على اقتحام جبهة الصواب.
يدور «خرج ولم يعد» الذي أُنتج سنة 1984 عن «عطية عبدالخالق (يحيى الفخراني)» يعيش في منزل آيلًا للسقوط بحي قديم وسط صخب المدينة وزحفها نحوه بعماراتها الشاهقة، وقد فشل عطية فى دخول الجامعة، فتوظف بالثانوية في أرشيف مصلحة حكومية، يحلم بشغل كرسي المدير العام ولو بعد 20 عامًا ليحقق حلم أبيه الذي فشل في الوصول لهذا الكرسي قبل مماته، لا يؤرق عطية الانتظار فقد اعتاد عليه فهو خاطب لزينات منذ 7 سنوات، ولا يجد شقة للزواج بسبب الخلو، وأم زينات رفضت إقامة ابنتها في منزله الآيل للسقوط، كل تلك الأسباب لا تجعل عطية يبلور محنته في مشاكل مادية وإنما هي أزمة أخلاقية تجاه محيطه وواقعه، فتلك المدينة التي أشعرته بالعجز وخنقته وأتلفته وكادت تلف حبالها حول عنقه لولا أنه نجا بقرار جريء؛ فقد ضحى بميزات المدينة ودرجته الحكومية كموظف على وشك الترقي وخطيبته مقابل سلامه النفسي ففضل الريف رغم انعدام فرصه وخفوته على صخب المدينة وتمركزها، لقد فضل صوت كروان يغرد صباحًا من إحدى الأشجار على صوت أحمد عدوية يالها من جرأة نحن نفتقدها ولكن هكذا دائمًا هم أبطال محمد خان متهورين ومتعجرفين ناقمين وساخطين ودائمًا قادرين على تبديل واقعهم واقتطاف أزهارهم من الغابات الأكثر وحلًا وافتراسًا.