لماذا تفشل المعارضة التركية في هزيمة أردوغان؟
ثمة كلمات نمطية ومقولبة تستخدم في تركيا لتوصيف معارضتها، تحولت مع الوقت إلى نوع من «الكليشيهات» المكرورة، من أمثال «فشل المعارضة هو سبب نجاح أردوغان» و«أكبر مشاكل تركيا هي معارضتها».
اللافت أن هذه الأقوال النمطية المتكررة لا تخلو من وجاهة وصحة، فالعدالة والتنمية بقيادة أردوغان فاز بـ 13 منافسة انتخابية متتالية بين انتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية/بلدية واستفتاء شعبي منذ تأسيسه، ولم تستطع المعارضة التركية وخصوصًا حزب الشعب الجمهوري – أكبرها – أن يُنزل الحزب الحاكم عن عرشه.
وبالنظر إلى أسباب هذه الظاهرة، التي تعاكس بعض ظواهر السياسة والحكم، سنجد عدة عوامل، بعضها يعود لأردوغان وحزبه، وبعضها الآخر مرتبط بالمعارضة نفسها، وخصوصًا حزب الشعب الجمهوري.
العدالة والتنمية: مفاتيح الفوز
الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان»
من النادر أن يستمر حزب ما في الحكم فترة طويلة جدًا، إذ من عادة هذه الأحزاب في مختلف الدول أن تتعرض على المدى البعيد للتراخي والإهمال والترهل والفساد من جهة، وصعوبة إقناع الناخب ومقاومة الرغبة في التغيير والتجديد لديه من جهة أخرى. ويبدو ذلك مستهجنًا أكثر في تركيا، التي شهدت على مدى تاريخها اندثار أو انقراض عدد من الأحزاب الحاكمة وضعف الكثير منها وغيابها عن ساحة الفعل والتأثير والحكم.
ولعل أكبر هاجس يسكن مخيلة أردوغان والعدالة والتنمية هو هاجس هذه الأحزاب التي ضعفت وتراجعت بعدما حكمت فترة ليست بالهينة، وخصوصًا بعدما انتقل رئيسها من رئاسة الحزب والحكومة إلى رئاسة الجمهورية، مثل حزبي الوطن الأم بقيادة أوزال (ثم يلماظ)، والطريق القويم بقيادة دميريل (ثم تشيلر)، وكلاهما في عداد الأحزاب المجهرية اليوم.
ولئن كان العدالة والتنمية حالة فريدة في تاريخ الجمهورية التركية بالنظر لعدد السنين التي حكمها منفردًا وبشكل متواصل، فإنه استفاد من عوامل ذاتية مهمة في مقدمتها الآتي:-
أولًا: سجل الإنجازات الباهر، وخصوصًا في السنوات الأولى التي كانت فيها وتيرة الإنجاز مرتفعة بسبب الواقع السيئ الذي كانت تعانيه البلاد قبل تسلمه الحكم. ولعل المقارنات المباشرة بين فترة ما قبل العدالة والتنمية وما بعده من حيث المؤشرات الاقتصادية والبنية التحتية والقطاع الصحي وغيرها كفيلة بإثبات ذلك.
ثانيًا: كارثية البديل، المتمثل في حزب الشعب الجمهوري أو في الحكومات الائتلافية سيئة السمعة والتاريخ أو في الفراغ والضبابية، وهي أسباب أعادت الحزب للحكم منفردًا في انتخابات الإعادة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 بعدما تراجع في انتخابات حزيران/ يونيو مثلًا.
ثالثًا: حالة الاستقرار التي نعمت بها تركيا ونقلت الطبقة الوسطى وخصوصًا الأوساط المحافظة في الأناضول نقلة جبارة اجتماعيًا واقتصاديًا، وبالتالي عدم استعداد أولئك – وغيرهم – للمجازفة بالعودة عن هذه المكاسب أو التضحية بالاستقرار الذي كانت إحدى أهم ثمراته – إضافة للتنمية الاقتصادية والرفاهية – سد الذرائع أمام الانقلابات العسكرية والتدخلات المباشرة في السياسة والحكومات، وهو أمر لا يبدو أي طرف في تركيا مستعدٌ للتضحية به أو تعريضه للخطر.
رابعًا: كاريزما القائد التي يمتلكها أردوغان وميزاته الشخصية ومهاراته القيادية، من خطابة وكاريزما وسيرة ذاتية زاخرة ومهارات التواصل الجماهيري وغيرها، جعلته – مع العدد الكبير من المنافسات الانتخابية التي فاز بها – الشخصية السياسية الثانية في تاريخ الجمهورية بعد مؤسسها مصطفى كمال، مسجلًا اسمه كأول رئيس ينتخبه الشعب مباشرة (2014) والزعيم الذي استطاع تغيير النظام في البلاد إلى رئاسي، وأول رئيس وفق النظام الرئاسي 2018، جاعلًا عقد المقارنات بينه وبين أتاتورك أمرًا منطقيًا.
اقرأ أيضًا: قراءة في نتائج الانتخابات التركية
ولعل وجود أردوغان على رأس العدالة والتنمية قد ساعده على تخطي العديد من الأزمات، مثل الانقلاب الإلكتروني عام 2007 والانقلاب القضائي عام 2013 والانقلاب الفاشل في 2016 وغيرها. كما أظهرت عدة استطلاعات رأي أن نسبة كبيرة من مؤيدي الحزب وبرامجه ومشاريعه – وفي مقدمتها النظام الرئاسي – يفعلون ذلك من منطلق الثقة بأردوغان، في مقابل نسبة كبيرة أيضًا من المعارضين يفعلون ذلك رفضًا له.
خامسًا: الخريطة الاجتماعية (السوسيولوجية) والفكرية والأيديولويجة التركية، حيث تبلغ نسبة اليمين في أوساط الشعب حوالي 65% بين إسلاميين ومحافظين وقوميين، في مقابل نسبة 35% تقريبًا لليسار والعلمانيين والقوميين الأكراد. مع الإشارة إلى أن الغالبية العظمى من التيار الأول محسوبة على يمين الوسط أيديولوجيًا وعلى الحركات والأحزاب والشخصيات «الإصلاحية» تاريخيًا في مواجهة النخبة العلمانية المتشددة.
وهو ما منح العدالة والتنمية دائمًا وحتى الآن الصدارة باعتباره ممثلًا ليمين الوسط والتيار الإصلاحي الحالي، وهي – أي هذه الخريطة – أحد أهم مسوغات الاطمئنان للنظام الرئاسي باعتبار أن أي رئيس سينتخبه الشعب سيكون في الغالب من الفئة الأولى، وهو تفصيل خاضع للنقاش وغير مسلّم به على أي حال.
المعارضة: أخطاء مركبة
رغم كل ما سبق، ورغم حلوله أولًا في كل المحطات الانتخابية منذ 2002، فإن العدالة والتنمية لم يكن دائمًا قادرًا على إقناع الناخب التركي بمزيد من الثقة والتصويت له. حصل ذلك في انتخابات حزيران/ يونيو 2015 حين تراجع الحزب إلى نسبة 40% وفقد لأول مرة أغلبيته البرلمانية، ولم يستطع تشكيل الحكومة بمفرده، وتكرر أيضًا وإن بدرجة أقل في الانتخابات البرلمانية الأخيرة حين تراجع من نسبة 49.5% إلى 42.5%. ورغم ذلك لم تستطع المعارضة التركية وأكبر أحزابها، أي الشعب الجمهوري، استثمار تلك الفرص، لأسباب وأخطاء متعلقة بها في المقام الأول، أهمها:
أولًا: المعارضة غير البناءة وعدم طرح البديل للعدالة والتنمية من خلال رؤية وبرامج ومشاريع، والاكتفاء بالمناكفة ورفض كل ما يقوله ويفعله الحزب الحاكم. فلا تأييد له فيما يحسنه، ولا طرح لبديل لما يفشل فيه، ولا فكرة حكومة ظل أو مشاريع بديلة حتى في الملفات التي يعترف الحزب الحاكم بإخفاقه فيها (مثل التعليم). لدرجة أن أحد نواب الشعب الجمهوري قال مرة صراحة إنهم كحزب معارضة «مهمتهم رفض كل ما يقدمه الحزب الحاكم حتى ولو كان جيدًا». ولا شك أن هذا النهج لا يقنع الناخب التركي بأن هناك بديلًا منطقيًا وموثوقًا فيه للعدالة والتنمية.
اقرأ أيضًا: في ذكرى تأسيسه: 16 عامًا من تجربة العدالة والتنمية
ثانيًا: التشرذم وغياب التوافق بين أحزاب المعارضة المختلفة بحيث تشكل جبهة قوية أمام أردوغان والعدالة والتنمية، إما برامجيًا أو تصويتيًا أو كجبهة وطنية مشكلة من خلفيات سياسية متنوعة. فلا نجحت هذه المعارضة في تقديم مرشح توافقي قوي ومقنع للانتخابات الرئاسية في 2014 (لم يكن أكمل الدين إحسان أوغلو معروفًا لأغلبية الشعب التركي)، ولا في التوافق على تشكيل حكومة ائتلافية في حزيران/ يونيو 2015 حين خسر العدالة والتنمية أغلبيته البرلمانية، ولا في التوافق على مرشح موحد في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فيما أثبت تحالف «الأمة» أنه أضعف من أن يستمر متماسكًا بعد الانتخابات إذ أعلن كل من حزبي السعادة والجيد وفاته مع الاستحقاق الانتخابي.
ثالثًا: الخطاب النخبوي الاستعلائي على الشارع التركي عمومًا، وناخبي العدالة والتنمية من المحافظين على وجه الخصوص. وهو خطاب لطالما اعتبرهم من العوام «الجهلة» في مقابل المثقفين أو «الظلاميين» في مواجهة المتنورين أو البسطاء غير المدركين لمصلحة البلاد. ولعل حزب الشعب الجمهوري تحديدًا فشل على مدى عشرات السنين في تقديم خطاب قادر على احتواء اليمين المحافظ وإقناعه بالتصويت له، من خلال تاريخه المتماهي مع العلمانية المتشددة وخطابه المستفز لثقافة الشعب السائدة ومواقفه وسياساته المعاندة لمظاهر التدين.
ورغم أن الحزب بقيادة كمال كليتشدار أوغلو منذ 2010 حاول تقديم خطاب متوازن مختلف عن السابق، وأن مرشح الحزب للانتخابات الرئاسية محرم إينجة حاول تقديم شيء مشابه، إلا أن عدم ديمومة هذا الخطاب واقترانه معظم الوقت بالحملات الانتخابية يحرمه من إمكانية تحقيق اختراق كبير على مستوى ثقة المحافظين به، رغم أنه حقق بعض المكاسب في هذا المضمار مؤخرًا.
اقرأ أيضًا: كليجدار أوغلو: زعيم المعارضة الذي لا يؤتمن على 5 خراف
رابعًا: غياب القائد القادر على تنظيم صفوف المعارضة وقيادتها من جهة وإلهاب حماس الجماهير من جهة أخرى ومنافسة شخصية قيادية بارزة مثل أردوغان من جهة ثالثة. شخصية كليتشدار أوغلو تبدو مشكلة بحد ذاتها، إذ تغيب عنه الكاريزما والمهارات القيادية بشكل لافت.
في المقابل، فإن شخصًا مثل محرم إينجة أثبت أنه قادر على إحداث الفرق داخل أطر الحزب بما يمتلك من كاريزما ومهارات خطابية وذكاء في التواصل مع الإعلام، ولذلك فقد رأى فيه الكثيرون المخلص الذي يمكن أن ينقذ الحزب، وهو أمر مفتوح على عدة احتمالات حاليًا.
خامسًا: مناكفة أردوغان وبناء خطاب المعارضة في مجمله على فكرة إسقاطه واستبداله، وهو أمر غير مقنع للكثيرين بسبب غياب البرنامج أولًا ومقلق للكثيرين من جهة أخرى. فرغم أن حالة الاستقطاب السائدة مؤخرًا قد أقلقت العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية وأردوغان بدرجة أقل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إلا أن المعارضة فقدت هذه الفرصة وضيعتها بجعل شخص أردوغان محور الاستقطاب ومكمن الاستهداف، وهو أمر أضرها وأفاده.
آفاق المستقبل
رغم فشلها المتكرر منذ 2002، إلا أن ذلك لا يبدو قدرًا مقدورًا على المعارضة التركية في المستقبل، الذي قد يحمل لها أخبارًا سارة إن أجادت في التخطيط والعمل والاستثمار الجيد في الفرص المتاحة.
فـ 16 عامًا من الحكم المتواصل لأردوغان والعدالة والتنمية سيضاف لها 5 سنين إضافية حتى عام 2023، يُفترض أن تزيد من نسبة المتذمرين أو الراغبين في التغيير عنهم اليوم، وهي فرصة حقيقية للمعارضة، على الأقل نظريًا.
أكثر من ذلك، فالنظام الرئاسي الذي بدأ تطبيقه يحمل فائدة مزدوجة للمعارضة. فهو يقلل من أهمية الأحزاب وبالتالي يدفع ناخبي العدالة والتنمية إلى عدم التخندق حوله (كما حصل في الانتخابات الأخيرة) لتضاؤل هاجس الفراغ والفوضى والبدائل الكارثية. كما أنه يسهّل على المعارضة – نظريًا على الأقل – الوصول للحكم بالمقارنة مع النظام البرلماني السابق، من خلال تقديم شخصية مقبولة من الشعب، ولعل الرئيس السابق عبد الله غل مثال جيد على هذا المعنى.
من جهة أخرى، فحزب العدالة والتنمية مرشح لمواجهة بعض الحراك الداخلي في المستقبل. ذلك أن الشريحة المعترضة أو المتحفظة داخله تبدو في ازدياد لا تراجع، إلا إنْ استطاع أردوغان والحزب احتواءها وإقناعها في مؤتمر الحزب القادم آب/ أغسطس 2018، وسياسات الرئاسة والحكومة وهو أمر غير مجزوم به. كما أن طبيعة النظام الرئاسي قد تشجع على ظهور مبادرات إصلاحية من داخل الحزب أو من خارجه، باعتبار أن التخوف من البديل غير قائم حاليًا في ظل وجود رئيس قوي مثل أردوغان.
الشعب الجمهوري نفسه، والذي يواجه حركة معارضة غير مسبوقة لرئيسه كليتشدار أوغلو، قد يستطيع لملمة أوراقه وتقوية أوضاعه إذا ما حصل تغيير إيجابي في رئاسة الحزب، خصوصًا إن كان تغييرًا مدفوعًا بأسباب داخلية، وأتى بقيادي ذي شعبية.
وأخيرًا، فإن تجربة التحالف القصير بين بعض أحزاب المعارضة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة تعتبر سابقة يمكن البناء عليها، وقد ساهمت ضمن عوامل أخرى في تراجع نسبة التصويت للعدالة والتنمية فيها. وبالتالي فهي تجربة مفتوحة على التكرار والتطوير وتعظيم الاستفادة في المستقبل.
في الخلاصة، ما زال أردوغان والعدالة والتنمية مرشحين للاستمرار في حكم تركيا لأسباب كثيرة تتعلق بهما من جهة وبالمعارضة من جهة أخرى. لكن ذلك ليس قدرًا غير قابل للتغير والتبدل بطبيعة الحال، خصوصًا أن هناك من العوامل والسياقات ما يمكن أن يخدم المعارضة إذا ما أحسنت التعامل معها.
وفي كل الأحوال، فالنظام الرئاسي الذي بدأ سريانه مؤخرًا تجربة جديدة كليًا على مختلف الأطراف، ولذلك فمن الصعوبة بمكان الجزم بمآلات الأمور وتركيا ما زالت في الخطوات الأولى من هذا الطريق الطويل، وبالتالي فالمسار والنتائج والمآلات مرهونة بكيفية تعامل مختلف الأطراف – الحكم والمعارضة – مع النظام الجديد والشعب الناخب ومشكلات تركيا وتحدياتها المستقبلية.