إسرائيل: لماذا تخسر الحرب مهما انتصرت في المعارك؟
في مقال نشر عام 1995 للفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو بعنوان الفاشية الدائمة طرح قراءة جديدة للنظم الشمولية في العالم الحديث، خص منها بالذكر الفاشية كنظام شمولي غير أيديولوجي لا يعرف سوى الفعل الإقصائي ذاته، المفارقة أن يكون إيكو من المناصرين للكيان الصهيوني في مواقف مختلفة، لكن ذلك لم يمنع أن تكون أفكاره نفسها في حالتها المجردة تحوي رؤية أعمق لآلية عمل الكيان الصهيوني ومبررات انهياره.
الشمولية المنتهية
لم يعرف الكيان الصهيوني آلية عمل محددة أو أي تأصيل نظري يجعله على مستوى السلطات ذات التفكير الشمولي بحسب ما يأمل، رغم أنه وليد لحظة تاريخية تعج بالفكر الأيدولوجي من كل جانب، بل إنه امتداد سلبي لأحد أهم الأنظمة الشمولية في القرن العشرين ونعني بذلك النازية، وذلك حسب المزاعم التاريخية المعترف بها في السردية «الرسمية» للتاريخ الحديث.
ذلك لم يجعله على مقربة من تحقيق التأصيل النظري المصاحب لأية دولة ذات اتجاه شمولي وهو ما جعله تطبيقًا لأطروحات أمبرتو إيكو حول الفاشية كنظام ديكتاتوري خالٍ من أي بُعد فلسفي، حيث يمثل الكيان الصهيوني مجموعة من الأفكار المتضاربة حول تأملاته سياسياً واجتماعياً.
لذا ليس من الغريب أن يعرف المجتمع العبري عدة انشقاقات مهمة في الداخل لم يستطع معالجتها لغياب الرؤية المنهجية نذكر منها العنصرية بين الصهيونيين الأوروبيين والعرب تحت المظلة نفسها، وبين دعاوى اليمين المتطرف في القيادة الإسرائيلية التي تمثل منحى مختلفاً عن أي يمين في أي دولة أخرى.
فبسبب أن اليمين بات يمثّل تفكير سلطة الاحتلال ذاتها أصبحت أقصى الأحزاب اليسارية يمينية محافظة هي الأخرى.. نذكر مثلاً موقف حزب ميرتس الإسرائيلي ذي التوجه اليساري المعلن، فإنه على الرغم من ارتكازه على مبادئ يسارية في معالجة القضايا العامة للمجتمع الإسرائيلي، فإنه يبقى على مسافة تعتبر محافظة على مبادئ الاحتلال بالنسبة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
أقصى ما قدّمه هذا الحزب اليساري هو العودة لحدود الخط الأخضر أي حدود الـ48 والتي شكلت نسبة 56% من الأرض لصالح الاحتلال مقابل 43% للفلسطينيين، مع إبقاء القدس منطقة دولية تحت الانتداب، مما يجعل اليسار ذاته ذا توجه محافظ وإن كان أكثر تمرداً من اليمين. تناقض هذا الموقف مع اليسار اليهودي العالمي الذي يساند القضية الفلسطينية كاملة، الذي يدين مباشرة المنظمات الاستيطانية الصهيونية.
غياب التنوع الحزبي في جوهره جعل من الكيان الصهيوني ذا أجندة محددة التطلعات الاستبدادية، ما أفقده القوة العاقلة للسياسة الداخلية لحل إشكالاته بعيداً عن التنافس في اتخاذ المواقف المتصاعدة واحداً تلو الآخر دون توقف.
على الجانب الآخر أصبحت ممارسات الاحتلال متناقضة مع محاولات سير العالم -نظرياً على الأقل- إلى الأمام بعدما أخذت مفاهيم كالاستعمار والاحتلال المسلح تفقد رونقها، الأمر الذي أوقع إسرائيل في أزمة تاريخية تجعله يبقى على أوضاعه الحالية دون متنفس عسكري سوى التدشين المسلح من جهة ومحاولات إقامة سياسات مع السلطات المجاورة التي تبدو متزعزعة بدورها؛ لما تشهده المنطقة من تغيرات دائمة، هذه الاتفاقات الفوقية السطحية لن تجلب السلام أبداً في ظِل الرفض الشعبي لها وفي ظِل افتقار إسرائيل لأي من الأصول الثقافية التي قد تجعلها دولة تقيم الاحتلال الثقافي الحديث مثلما تفعل الدول الكبرى.
بالرغم من ذلك فإن الكيان الصهيوني يتطرق للمفهوم الوحيد القادر على تطبيقه في ظل تلك المعطيات وهو الأجندة الاستبدادية. وبحسب ما ذكر ألبير كامو في تحليله السلطات الشمولية بأنها مغرمة بالفعل لمجرد الفعل، وهو ذات ما طرحه أيضاً أمبرتو إيكو في مقالته المذكورة سلفاً التي أكّد فيها أن الفعل الاستبدادي هو رد الفعل الوحيد عند كل السلطات متداعية الأركان.
سمات الأنظمة الاستبدادية
يذكر أمبرتو إيكو أن من صفات الاستبداد عبادة التقليد «على المرء فقط أن ينظر إلى منهج كل حركة فاشية للعثور على المفكرين التقليديين الرئيسيين. لقد تغذى الغنوص النازي على عناصر تقليدية وتوفيقية وغامضة».
بالرغم من وقوع الدول العربية في أنظمة أقرب للفاشية في ذلك الجانب فإن الفارق الجوهري يقع في كون الكيان الصهيوني يستند على رؤية استعمارية في المقام الأول حيث يشكل الاستبداد على شعب مستقل، أي مما يجعل الشكوى الإنسانية لأصحاب الأرض في حلقة مفرغة؛ حيث يبقى المجتمع الدولي والتضامن العالمي في جدلية عقيمة من ادعاءات الأحقية التاريخية من الجانب الصهيوني ومحاولات استبدادية عبر خطاب تاريخي ذات صوت واحد، ووضع الجانب الفلسطيني في صورة نمطية من قبل الغرب في قالب إسلامي أبعد ما يكون عن الأحقية الإنسانية والتاريخية في ظل الصراع، مما يجعل الصراع مستساغاً في صورته العالمية وقابلاً للتطبيق المنهجي بما فيه احتمال اللجوء إلى الإبادة الجماعية.
هنا يتجلّى دور العناصر التقليدية في الجانب الإسرائيلي للحفاظ على جوانب الصراع في تلك المفاهيم حتى تشرّع عملية الاستبداد، وهو ما يحيلنا إلى صفة أخرى للأنظمة الفاشية -بحسب إيكو- وهي رفض الحداثة فكرياً والحفاظ على جانبها المادي التطبيقي.
في كتابات عِدة للدكتور عبدالوهاب المسيري تطرّق إلى الجانب المادي عبر طرح ما سماه عملية «الترشيد المادية» والتي انتهجتها أغلب النظم الاستبدادية بما فيها إسرائيل التي استعارت هذا النهج من النظم الشمولية السابقة عليها، لكنها اختلفت عنها في أن نموذجها كان ذا أبعاد مادية أكثر من ذي قبل فلم يستند على أي نموذج معرفي سوى ادعاءات تاريخية ومصالح غير مترابطة!
إذن تبقى عملية الترشيد المادي و تدشين القوى العسكرية والتكنولوجيا في سبيل اللاعقلانية الصفة الأولى للكيان الصهيوني في حركة مستمرة من الفعل لمجرد الفعل في ذاته، دون اللجوء للاعتماد على العقل الذي يؤدي بالضرورة إلى التساؤل ومحاولة نقد الذات، وهو ما يجعل التيارات الأصولية داخل إسرائيل ترفض الاختلاط بغيرها خوفًا من الاختلاف العقلاني حتى من المنتمين لنفس المعسكر.. الوسيلة الإسرائيلية الوحيدة للتظاهر بعدم وجود هذه الخلافات الخارجية والداخلية هي تجييش «مجتمع» كامل بهدف الدفاع عن اللاعقلانية!
لذا نجد أن استقطاب شعب الكيان الصهيوني في سبيل قضية الأرض ما هو إلا فزاعة تعطي للكيان هيكلاً عظمياً للوقوف على قدميه، من دون هذه الدعوات لن يجد سوى ثقافات متضاربة ورؤية استبدادية هشة لن تبني مستقبلاً فعالاً بخاصة في حال اضمحلت المصالح الدولية في المنطقة!
في كتاباته ناقش إيكو قضية أخرى وهي حالة الثنائية المعيارية من جهة المستبد تجاه «العدو» كونه ضعيفاً وقوياً في نفس الوقت وذلك حسب مطاطية الخطاب الشعبوي ذاته ومدى تكيفه مع وجهة المصلحة، ويرجع ذلك حسب إيكو إلى أن الحكومات الفاشية محكوم عليها بخسارة الحروب؛ لأنها غير قادرة دستورياً على التقييم الموضوعي لقوة العدو، وهو تحديداً ما جرى مؤخراً حين خرج رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي في كلمته الأخيرة في أكتوبر الجاري قائلاً «أخطأت في التقدير عندما قلت إن حماس لن تجرؤ على التحرك ضدنا لسنوات».
عدمية الهزيمة (بروتوكول هانيبال)
يعني بروتوكول هانيبال استخدام الأسلحة الثقيلة في حال تم أسر أي فرد من الأفراد لدى القوى المعادية حتى لا يغادر الآسرون موقع الحدث، كتبت صياغته الأولى في 1985-1986 وتم العمل به أكثر من مرة على مدار العقد الماضي، ذلك نتيجة الاشتباكات العسكرية مع قوات المقاومة الفلسطينية في غزة منذ عام 2008، مما أدى إلى مقتل أفراد الجنود و الأسرى، ويذكر أنه يوجد نسختين من البروتوكول إحداهما شديدة السرية مخصصة للمستوى الأعلى من الجيش.
أصدر مجلس مدققي الحسابات الحكومية -وهي هيئة رقابة حكومية إسرائيلية- في مارس 2018 تقريراً ينتقد هذا البروتوكول حيث أنه لا يذكر بوضوح الحاجة إلى احترام مبدأين أساسين في القانون الدولي، وهما استخدام القوة المتكافئة ضد التهديدات، والتمييز بين الأهداف العسكرية و المدنية، وهو ما فضح أن إسرائيل لم تستطع في اللحظات الحرجة أن تلتف حول أي مبدأ إنساني أو عسكري واضح سوى ضربات عدمية للحفاظ على الحالة الاستبدادية للكيان ذاته.
فالثقافة الأوروبية غطاء سطحي على تجييش الكيان لمجتمع يهودي أوروبي في وجه أصحاب الأرض، إلا أن سلطة الكيان نفسها غير معترفة بالقيم الأوروبية للإنسانية حتى في شكلها النظري، وذلك ما تطرقنا له سابقاً في معاداة الحداثة اتجاه اللاعقلانية المميزة للسلطات الديكتاتورية الفاشية!
وللمفارقة -وعكس الشعوب ذات الإرث الضخم من التضحيات- فإن المظاهرات ملأت الشوارع الإسرائيلية تنديداً بقرارات رئيس الوزراء نتنياهو تجاه الأسرى حتى وإن لم يعلن بروتوكول هانيبال رسمياً إلا أن المجتمع ذاته غير مستعد للتضحية الحقيقية للحفاظ على الأرض المحتلة.
التشاؤم الليبرالي وعقم الانتصار (يعقوب تالمون)
في كتابه أصول الديمقراطية الشمولية، تعرّض يعقوب تالمون أستاذ التاريخ الحديث في الجامعة العبرية في القدس لهذا المصطلح الذي صكّه لأول مرة عام 1955 تشخيصاً لما تعانيه السلطات الشمولية الاستبدادية من حتمية الهزيمة.
اعتبر تالمون أن هناك نوعين من النظم الشمولية؛ يسارية ويمينية. الشمولية اليسارية لا تزال تاريخياً نقطة بدايتها القضايا الإنسانية في رؤيتها المنهجية والمعلنة لذا من البديهي أن نجد أن اليسار أقرب إلى قضايا الأقليات في العالم، أما نظيرتها اليمينية فإن أساسها ينطلق من مصالح الكيان الجماعي أو الدولة أو العرق، أي إنها تستند على مصالح عرقية أو جماعية محافظة في حدود الدولة كما في الكيان الصهيوني أو خارجها كما في تطلعات الحزب النازي في القرن الماضي.. «ولهذا السبب تميل الأيديولوجيات الشمولية لليسار دائماً إلى اتخاذ طابع العقيدة العالمية وهو الطابع الذي تفتقد إليه شمولية اليمين تماماً».
أيضاً تالمون فرّق في طرحة للديمقراطية بين شكلها الليبرالي والآخر الشمولي، فحين يستند الطرح الأول على الحرية كقيمة نهائية يسعى إليها، فإن الديمقراطية الشمولية تسعى إلى السياسة نفسها حيث تفترض مخططاً دائماً للأشياء، أي إنها تعترف بمستوى واحد في الوجود وهو المستوى السياسي «فهو يوسع نطاق السياسة ليشمل الوجود الإنساني برمته»، هنا هي لا تعترف بالقيمة الإنسانية في حالتها المجردة بل في نطاق مفهومها ومصالحها السياسية.
لذا يمكن أن تمارس الديمقراطية الشمولية تجاوزات في حق أبنائها أنفسهم حيث يمكن ترهيبهم وإكراههم للامتثال للمثل الأعلى المطلق «وفي الظروف المناسبة، يختفي الصراع بين العفوية و الواجب، وتختفي معه الحاجة إلى الإكراه، والسؤال العملي بطبيعة الحال هو ما إذا كان القيد سوف يختفي لأن الجميع تعلموا التصرف بانسجام، أو لأنه تم القضاء على جميع المعارضين».
في هذه الحالة لا يكون أمام إسرائيل إلا العيش في التشاؤم الداخلي جراء سياسة مهترئة داخلياً وانسجام يكاد ينعدم خارجياً وإن ظل المجتمع الدولي صامتاً فإن الكيان نفسه غير قادر على الوقوف كأمة!
محاولة تقنين الاحتلال فكرياً
لا ينفك الإعلام الغربي عن تأكيد ثنائية الصراع بين كيان الاحتلال وجميع أشكال المقاومة لكن جانب نتنياهو من الصفقة هو أن يتعين عليه إعادة ربط نفسه بإسرائيل الديمقراطية الليبرالية، وبالتالي فإن العالم والمنطقة لا ينظرون إلى هذه الحرب على أنها حرب دينية بل حرب بين خط المواجهة للديمقراطية والثيوقراطية -و تعني الحكومة الدينية المتمثلة في حماس عالمياً، واليهود المناهضين للاستيطان داخلياً- ذلك ما عبّر عنه توماس فريدمان مراسل «نيويورك تايمز» حين كتب في مقالةٍ له أنه «على نتنياهو تغيير حكومته وطرد المتعصبين الدينيين وتشكيل حكومة وحدة وطنية!» خلال تعليقه على أحداث غزة.
فريدمان مناصر للجانب الصهيوني كونه بوقاً الليبرالية الجديدة في الشرق الأوسط ضد صراعهم مع الحكومات الدينية المتمثلة في حزب الله اللبناني وحماس والإخوان المسلمين. المثير للدهشة -وللضحك ربما- أن فريدمان استشهد بما فعله حافظ الأسد الرئيس السوري الراحل حين اتّخذ إجراءات قاسية بحق مدينة حماة وشنَّ عملية عسكرية ضدها نتج عنها مقتل الآلاف.
أوضح فريدمان في مقاله أن إسرائيل بحاجة إلى الاستعانة بـ«قواعد حماة» في مواجهة «التطرف الإرهابي» المتوطن في غزة.
كأنما يحتاج العالم الغربي إلى راية أيديولوجية مضادة للنزوح العربي لتبرير العمل الصهيوني لتستطيع معه الدفاع والتمويل الظاهر، وذلك ما جرى تحقيقه في اختزال القضايا الإنسانية في الوطن العربي كونها حرباً ضد الإرهاب، ولكن إذا تخلت إسرائيل عن المزاعم التاريخية التي تستند إليها، لصالح مزاعم العالم الغربي الحديثة نسبياً بالحرب ضد الإرهاب، فإنها تفقد إحدى ركائزها الأساسية التي تستند إليها في استيطانها في الأراضي الفلسطينية مما يجعل الكيان الصهيوني في منزلة المرتزقة الأمريكية الموظفة مؤقتاً، وقد تُفتح تساؤلات عالمية إسرائيل غير مستعدة لها.
لذا فإن إسرائيل تعيش حالياً بين وهم الشمولية البائد من زمن قريب، والتشتت المنهجي الداخلي وعدم قدرتها على حمل الراية الجديدة للعالم الغربي لتشريع تجاوزاته في دول العالم -أي الحرب على الإرهاب-، فبينما نجد أن شعوب العالم باتت أكثر حركة مما قبل في إطار حربها الحداثية على «الإرهاب»، تحتاج إسرائيل إلى أصول غير متوفرة لديها للمشاركة في هذه الحرب، فكيف لكيان يستند على أصول دينية متطرفة في نشأته أن يزعم بأنه يخوض حرباً ضد متدينين متطرفين؟!