لماذا لا تجد السعادة طريقها إليك؟
بحلول عصر الذكاء الاصطناعي باتت الحياة في متناول أيدينا بشكل لم نكن نتخيله. أصبح بمقدورنا التسوق رقميًا دون الحاجة إلى مغادرة المنزل. إجراء معاملاتنا البنكية إلكترونيًا أو تحويل حساباتنا المالية بالعملات الورقية إلى بتكوين رقمية أكثر أمانًا. السينما باتت موضة قديمة بعد أن ظهرت نتفليكس. الوظائف التقليدية من المكتب لم تعد تستهوينا، فصار العمل الحر عن بعد مستقبلاً مضمونًا. حساباً مليئًا بالآلاف على يوتيوب كفيلاً أن يجعلك ثريًا في يوم وليلة. الشهادة الجامعية لم تعد مطلبًا أساسيًا للحصول على وظيفة في جوجل وغيرها، لكن كل تلك الرفاهية لم تجلب لنا السعادة. بتنا نشعر بأن كل ما كنا نلهث وراءه لم يرشدنا أبدًا إليها، بل خلق بيننا وبينها آلاف الأميال، في عصر أضحى فيه الوصول إلى القمر أسهل من الوصول للسعادة.
عجلة الحياة المتسارعة لم تدع لنا فرصة لالتقاط الأنفاس، الركض في جميع الاتجاهات خلف المادة، أفقدنا الشعور باللحظات التي لا ننتبه لها إلا حينما نكبر عامًا آخر، البسمة لم تعد تُزيّن الوجوه
سوى لالتقاط السيلفي الرائع وحصد عشرات الإعجابات التي تلهينا ولو قليلاً عن غياب السعادة الحقيقية، إلى أن تمكنت منصات التواصل من سرقة أرواحنا رويدًا رويدًا دون أن ننتبه أننا ندور في حلقة مفرغة تنتهي للا شيء. فبات التساؤل المسيطر هو لما لسنا سعداء كغيرنا؟ هل لأننا لم نتمكن من تحقيق تلك الأحلام الوردية التي تعاهدنا مع الرفاق على بلوغها؟ أم لأننا بحثنا في طريق آخر؟ ولكن مهلاً…
ما الذي ينبغي أن أصل اليه كي أشعر بالسعادة؟
ما هي السعادة؟
في مملكة صغيرة بالجنوب الآسيوي، لفت انتباه الباحثين مملكة صغيرة تدعى «بوتان»، تقع بين دولتي الصين والهند، يتميز شعبها بكونه ثامن أسعد الشعوب بالعالم، وهو ما دفع الباحثين لمعرفة الأسباب الفعلية التي جعلت من هؤلاء الناس سعداء، رغم كونهم أكثر عزلة مقارنة بالشعوب الأخرى، فشبكات الإنترنت والهاتف لم تصل إليهم إلا مؤخرًا، ما السر إذن؟
ولكي يقربنا الباحثون للوصول إلى معادلة تختصر على الإنسان الطريق إلى السعادة، أُجريت أبحاث على عدد من الشعوب مختلفة الثقافات، وتم التوصل إلى أن السعادة بإطارها العام تتمثل في هذه الوصفة السحرية:
ولكن هناك شيء قد يكسر تلك المعادلة، إنه الملل الذي يتسلل إلى حياتنا فجأة كقطعة من حرير تلتف حول أعناقنا لتوقف الأنفاس شيئًا فشيئًا. وهنا يثار تساؤل آخر.
لماذا قد نشعر بالملل طوال الوقت؟
الشيء الذي تلهث للحصول عليه اليوم، باقتناصه يصبح شيئًا عاديًا ويفقد بريقه تمامًا، ثم تعاود الكرّة من جديد وتركض للحصول على شيء آخر، تظن أنه يحقق لك السعادة ثم تكتشف أنها مجرد سعادة لحظية وذلك لأنك كنت تركض طوال الوقت خلف المادة، والمادة لا تحقق سعادة الروح وإنما الجسد، فالروح هي منبع السعادة الدائمة، وبدون تحقيق متطلباتها تتضاءل السعادة، وهذا يجعلك دومًا حائرًا لعدم شعورك بالسعادة رغم توفر الظروف المُهيئة لها، وهو ما يفسر وجود نسبة ليست بالقليلة ممن يملكون حياة مرفهة ماديًا إلا أنهم ليسوا سعداء.
من بين الأسباب أيضًا والتي تحول بينك وبين السعادة، قد تكون تلك الطريقة التي تحيا بها، أو ربما عدم معرفتك لنفسك أو ذاك الشيء الذي بدونه تشعر أن هناك ما ينقصك، فتصير حياتك كمشروب قهوة غير مُحلى، لا يمكن تذوقه، ولكن كيف تتعرف على هذا الشيء الذي بإمكانه أن يضيف لحياتك نكهة خاصة؟ الإجابة لدى «إبراهام ماسلو».
السعادة وفقًا لـ هرم ماسلو
دعنا نتفق أن معيار السعادة يختلف من شخص لآخر، وفقًا لاحتياجات كل منّا، فما يثير السعادة بداخلك قد لا يكون كافيًا لإسعاد غيرك، وما يُسعِدك اليوم ربما يصبح أمرًا عاديًا غدًا، لذلك كلما تسعى في تلبية أحد احتياجاتك الواردة بهرم ماسلو كلما حصلت على جرعة أعلى من السعادة. ولكن ما هو هرم ماسلو ذلك؟
في العام 1943 توصل عالم النفس الأمريكي «إبراهام ماسلو» إلى تحديد أهم احتياجات الإنسان والتي يسعى طيلة حياته لتلبيتها، وقام بتقسيم تلك الحاجات في صورة هرم مكون من خمس درجات، ويعد هرم ماسلو منذ تلك الفترة أهم الثوابت في علم النفس، وأبسط وسيلة لتحليل احتياجات الإنسان.
فإذا كنت مُشتتًا لا تعرف ما هي وجهتك، وأي الطرق ينبغي أي تسلك، أو تجهل المعنى لحياتك، وتتساءل: لماذا لم تحقق ذاتك بعد؟ فإن هرم ماسلو يرشدك لذلك بطريقة أكثر بساطة دون الحاجة إلى تصفح العديد من المقالات المتخصصة أو التعمق في علم النفس.
في أحيان كثيرة يحدث أن يجمعك موقف بزميل لك أو قريب فتظلان تتحدثان لساعات، إلا أنك تصطدم بوجود هوة ثقافية بينكما رغم التقارب في المستوى التعليمي، فلا تستطيع تفهم طريقته في الحديث ومعاييره في الحياة خاصة عندما تتنافى مع معاييرك الشخصية، فتتساءل كيف يمكن له أن يفكر بتلك الطريقة؟
دعونا نضرب مثالاً على ذلك، هناك عدة نواقض في سلوكيات مجتمعنا، كأن تجد الكثيرين مهووسو=ين بالأغاني الشعبية أو ما يُطلق عليه «المهرجانات»، ليس هذا فحسب بل يصل الأمر في بعض الأحيان إلى وصولها قائمة التريند في مجتمع أخرج أيقونة الغناء العربي كـ أم كلثوم، بينما اليوم تصبح الأغاني الشعبية هي حديث جميع الأوساط، وهنا تتساءل: كيف لأغانٍ تنحدر بالذوق العام لأسفل أن تُحدِث كل تلك الضجة؟ وكيف لإعلامنا أن يروِّج لها؟
وهنا يأتي دور هرم ماسلو ليجيبك. قسّم ماسلو احتياجات الإنسان إلى 5 احتياجات أساسية، قد يؤدي الانخراط في تفاصيل الحياة اليومية إلى إهمالها، وهو ما يكون سببًا مباشرًا في الإحساس بالتوتر والقلق، وتنحصر تلك الاحتياجات في دائرة اهتماماتك وينشغل تفكيرك بها أغلب الوقت إلى أن يتم تلبيتها، ثم تأتي الخطوة التالية والانتقال إلى الاحتياجات الأعلى في الهرم، إلى أن يتم تلبية الاحتياجات الخمس كي لا تشعر بأن هناك ما ينقصك، وعند وصولك إلى تلك النقطة تصبح أكثر إدراكًا بذاتك وأكثر قدرة علي تحديد وجهتك وما يتسبب في إسعادك أو العكس.
درجات هرم ماسلو
1. الاحتياجات الفسيولوجية
وهي المرتبطة بتلبية احتياجات الجسد، وتتمثل في الطعام والسكن، ولعل أبرز مثال عليها السعي نحو الحصول على وظيفة وتوفير مسكن ملائم، وهو ما يُمثِّل قطاعًا عريضًا من المجتمع المصري والذي تنحسر اهتماماته ودائرة تفكيره في كيفية تلبية تلك الاحتياجات، بل ومن الممكن أن يقضي أغلب عمره لتحقيقها.
2. الحاجة إلى الأمان
وهي حاجة الإنسان للشعور بالأمان الأُسري، وأمن الممتلكات الشخصية، والأمان الوظيفي وعدم وجود ما يهدد عمله، كذلك الأمان المعنوي وعدم وجود ما ينتقص من كرامته كالسخرية والتنمر.
3. الحاجة إلى الانتماء الاجتماعي
وهنا يكون الفرد بأشد الحاجة إلى تحديد هويته والشعور بالانتماء لكيان ما، ويتمثل ذلك في:
- الانتماء للفرق الرياضية أو الانخراط في أنشطة مجتمعية كالتطوع.
- اكتساب صداقات عديدة.
- العلاقات الأسرية السليمة.
4. الحاجة إلى التقدير
فالإنسان يكون دومًا في أمس الحاجة إلى الشعور بالتقدير والاحترام سواء في بيئة العمل أو الدراسة أو في محيط الأسرة، فالموظف الذي لا يشعر بتقدير مرؤوسيه وزملائه لن يُجيد العمل، وكذلك الطفل الذي لا يلقى التقدير من معلمه أو زملاء الدراسة يؤثر ذلك على ثقته بنفسه وكذلك تحصيله الدراسي.
والأسوأ ألا يتلقى التقدير والاحترام داخل الأسرة، كوضعه دائمًا في مقارنة مع غيره، وهو ما يُشكِّل عبئًا أكبر، يمكن أن يؤدي به إلى سلوكيات مرفوضة، فقط لتلبية هذا الشعور. كذلك عدم تلبية هذا الشعور يؤدي بالفرد إلى عدم تقدير الآخر أو احترامه، فإن كان هناك أحد ما في محيطك لا يُقدِّر الآخرين، فاعلم أنه لم يلقَ التقدير الكافي ممن حوله.
5. الحاجة لتحقيق الذات/ الطموحات
وهي الحاجة التي يرى ماسلو أنه لا يمكن تلبيتها دون تلبية الاحتياجات الأساسية، كما أن الفئة التي تسعى لتحقيق ذاتها نادرة، وهي الفئة التي تسعى للاختلاف والتميز عمن حولها، ونلحظها في الأفراد الذين لديهم الرغبة في ترك بصمة أو الرغبة في الوصول إلى غاية محددة. ويرى ماسلو أن هؤلاء هم من يجدون معنى للحياة.
لم يكتفِ «إبراهام ماسلو» بالدرجات الخمس لهرم الاحتياجات الإنسانية، بل أضاف إليها احتياجات أخرى وبات هرمه الموسع يشمل أيضًا:
- الحاجة إلى المعرفة: وتظهر في الفضول والرغبة في التعلم واستكشاف كل ما هو جديد، كأن لا تكتفي بمجالك الدراسي وترغب في تعلم مجال آخر يستهويك كالبرمجة أو الكتابة أو تعلم لغات جديدة أو مهارة فنية.
- الحاجة للبحث عن الجمال: كالاستمتاع بمشاهدة المناظر الطبيعية، أو قراءة رواية، أو مشاهدة لوحة فنية أو الإنصات لمقطوعة موسيقية رائعة، وكذلك الاستمتاع بكافة أنواع الفنون.
هرم ماسلو رغم بساطته إلا أنه قُوبل بالنقد في مجال علم النفس، ومن بين تلك الانتقادات الواجب إيضاحها، هو أنه ليس بالضرورة تلبية الاحتياجات الوارد ذكرها بالهرم بنفس الترتيب، فكثير من الأشخاص يعملون على تلبية احتياجات الدرجة الأعلى أولاً كأن يسعى إلى تحقيق الذات والمكانة الاجتماعية المرموقة، ثم يتجه باهتمامه إلى تحقيق الحاجات الأخرى كإنشاء أسرة وبناء علاقات اجتماعية. أيضًا هناك بعض الأشخاص ممن يعملون على إشباع أكثر من احتياج في الوقت ذاته.
النقد الأكثر أهمية والذي وُجه لماسلو هو إهماله الجانب الروحي والديني كأحد الاحتياجات الأساسية، وهي حاجة الإنسان الأول للإيمان بمعتقدات راسخة تجعله صامدًا في ظل عالم لا شيء فيه ثابت، وكما يقول د. مصطفى محمود في كتابه «الأحلام»:
ورغم تباين وجهات النظر حول هرم ماسلو، إلا أنه يساعدك في التعرف على احتياجاتك بوضوح أكثر، ومن ناحية أخرى يساعد في تفسير سلوكيات الآخرين غير المفهومة، والتي تعود دوافعها إلى احتياجاتهم الشخصية، لهذا يعد هرم ماسلو مرجعًا جيدًا في مجال التسويق للتعرف على شريحة العملاء والوصول إليهم وفقًا لاحتياجاتهم.
فيسبوك وإنستجرام وتيك توك: مصدر تعاستك الأول
كلما تصفحت منصات التواصل الاجتماعي لعدد ساعات أكبر، كلما كنت أكثر تعاسة، هذا ما توصلت إليه دراسة حديثة حول السوشيال ميديا.
إن رؤيتك لمظاهر السعادة التي يتشاركها الجميع عبر مواقع التواصل يجعلك في وضع المقارنة أغلب الوقت، فتتناسى أن هؤلاء يواجهون ضغوطًا ومشاكل في الحياة مثلك، الذي تبهرك لقطة شاشته بجوار سيارته الرائعة، قد يكون مصابًا بمرض ما ولا يرغب في مشاركة ذلك مع الآخرين، ومن يلتقط صورة له بين أصدقائه في مطعم فاخر، ليس بالضرورة أن يكون في غاية السعادة، فلربما العكس هو الجزء الحقيقي للصورة، أن يكون غير سعيد لأسباب ما ويحاول الترفيه عن نفسه ولو قليلاً، وهناك من يتظاهر بالسعادة عبر حساباته الاجتماعية كي يحظى باهتمام لم ينله من المقربين.
أنت لا تعرف ما يمر به الآخرون، فما تود امتلاكه مثلهم قد يكون تعويضًا من الله عن شيء أخذه منهم ومنحك إياه، فكر قليلاً بالأمر وستجد أن الله وهبك العديد من الأشياء التي لا يتمتع بها غيرك والتي قد تكون كافية لإسعادهم، توقف عن مقارنة نفسك بشخص آخر، فلكل منا طريقته في التفكير وقيمه في هذه الحياة، والأهم اننا لنا أحلام أخرى نسعى لتحقيقها، فكيف تقارن ذاتك بآخر يختلف عنك تمامًا؟
احرص أن تحيا لحظاتك الخاصة وتستمتع بها دون التقاطها ومشاركتها عبر حساباتك الاجتماعية، فالسعادة الحقيقية لا تسجل وإنما تُعاش.
السعادة في التفاصيل الصغيرة
أثناء بحثي عن تعريف محدد للسعادة، جذبني أحد المقتطفات للكاتب «إبراهيم جابر» لا أزال أتذكرها إلى الآن، يكفي أن الاقتباس أراني الحياة بوجه آخر، علّمني أن السعادة ليست في النجاح الباهر وتحقيق الأمنيات فحسب، ففي الحياة تفاصيل أخرى رائعة الجمال، كفيلة أن تجعلنا سعداء أيًا كانت مصاعب الحياة أو الدروب التي نسلكها وحدنا، يقول الكاتب:
السعادة يمكن أن تجدها في تفاصيلك البسيطة… في تحضيرات العيد والتسوق لإحضار مستلزمات رمضان، يمكن أن تقتنصها في لمة العائلة وأصوات الضحكات في أجواء يخالطها الحنين وقت الإفطار والسحور.
يمكن أن تجدها في البهجة الغامرة التي تتسلل إليك حين تستمع إلي تتر كرتون بكار مصادفةً… في صلاة الفجر التي لطالما تمنيت المواظبة عليها… في قراءة آيات من القرآن والتوقف عند إحداها وكأن الله يخاطبك أنت، فتشعر بأن هناك من يهتم لأجلك دومًا وينجدك قبل أن يزداد الأمر سوءًا.
أو في رسالة تأتيك عبر واتساب أو فيسبوك في الوقت المناسب فتقفز من فرط السعادة… ابتسامة غريب في الطريق يشكرك لجميل صنعته… دعوة لوالديك من أحدهم لنبل أخلاقك… طفل تهديه قطعة من الحلوى فيتهلل وجهه فرحًا…. في تلك الروايات التي يساورك الفضول لتصفحها… لقاء بعد فراق طويل، أو فسحة من الوقت في مكان تحيطه الخضرة.
يمكن أن تجد السعادة في عناق والدتك، أو ابتسامة أبيك وسعادته بعد إنجازك لشيء ما، فتغمر الفرحة المنزل بأكمله، حينما يكون لديك ثقل في صدرك يجعل الحياة لا تحتمل، وتنصت إلى قوله تعالى «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون» فتتصدق بما تستطيع لتجد أطنانا من الكآبة قد أُزيحت عن صدرك، فيجبر الله ذلك الألم كأن لم يكن.
ختامًا، للسعادة معانٍ ومظاهر كثيرة قد لا نلتفت إليها جيدًا، ولكن يبقى سرها الأجمل كما قال أينشتاين «حياة هادئة ومتواضعة… خير من نجاح يصاحبه القلق». هذه هي المعادلة بكل بساطة إلا أنه لو أمكنني إضافة تعديل صغير لأضفت قائلة «حياة هادئة بالقرب من الله… خير من نجاح يتبعه القلق»، فبدون الإيمان لن نتمكن من تذوق طعم الحياة مهما تعددت محاولاتنا لبلوغ للسعادة، لذلك عزيزي القارئ كلما ازداد إيمانك وقربك من ربك، كلما كنت أكثر سعادة.