لماذا تنزع النخبة الثقافية للاستعلاء على المجتمع؟
سلطوية النخبة الفكرية على الجمهور العام هي من أسوأ السلطويات التي ترعرعت في ظل المجتمع الذي يوصف بأنه حديث أو عصري في أغلب بلاد أمتنا الإسلامية. فهذه النخبة بكل أقسامها، وبخاصة في قسمها ذي المرجعية العلمانية، يتسم سلوك أغلبية أعضائها بازدراء الجمهور العام والانفصال عنه. وجاءت وقائع المرحلة الانتقالية بعد موجة الربيع العربي في سنة 2011م، لتزيد هذه السلطوية وضوحًا وافتضاحًا؛ إلى درجة أن الجمهور العام كان يقابل بعض الشخصيات النخبوية بإلقاء الأحذية على مواكبهم بدلًا من إلقاء السلام أثناء جولاتهم الانتخابية، أو لقاءاتهم الشعبية.
لقد كشفت وقائع هذه المرحلة عن رسوخ النزعة الاستعلائية والوصائية التي تشعر بها النخبة الفكرية في قسمها ذي المرجعية العلمانية والميول التغريبية. فالنخبويون علمانيو التوجه يعتقدون أن مفهوم النخبة يستغرقهم وحدهم، ويضيقُ عن سواهم من العلماء أصحاب الآراء والاجتهادات الاجتماعية والسياسية والثقافية المستندة إلى أصول المرجعية الإسلامية. ويعتقدون كذلك أن منطق الحداثة لا بد وأن يفضي إلى إزاحة العالم التقليدي من طريق المثقف الحداثي في نهاية المطاف. أما النخبة العلمائية الإسلامية فقد حكم الشك نظرتها تجاه النخبة العلمانية منذ بدايات تكونها في سياق بناء المجتمع الحديث إلى اليوم. وعليه فقد ساد بين الفريقين شعور عميق بالإنكار المتبادل.
في السياق الانتقالي الذي أحدثته موجة الربيع العربي، وجدت قوى الإصلاح أنها باتت بين نقيضين: أولهما هو النخبة العلمائية، سواء كانت تنتمي إلى قوى الإصلاح ذاتها، أو إلى المؤسسات الرسمية القائمة على الشأن الديني بحسب مفاهميم السلطة، أو إلى تكوينات علمائية أهلية مختلفة. وثانيهما هو النخبة الفكرية ذات المرجعية العلمانية. ووجدت قوى الإصلاح أنها أيضًا قد باتت بين خيارين؛ أحدهما هو وجوب الإنصات والحوار مع الفريق الأول وما يقوله بشأن القضايا المثارة، والثاني هو ضرورة الإنصات والحوار كذلك مع الفريق الثاني وما يطرحه بشأن القضايا ذاتها.
جملة الحوارات التي جرت، وما أقلها حتى الآن، ظهرت فيها النخبة العلمانية متوترةً أغلب الوقت، وخائفة على مصير ما تصفه بأنه: الدولة المدنية الحديثة، لأن هذه الدولة في ظنهم باتت مهددة بـدولة دينية يقودها الإسلاميون. وهذا ما يفسر انحياز النخبة العلمانية لجهة قوة السلطة القديمة، أو العميقة، ومؤسساتها، ولو كانت هذه السلطة بيد العسكر، ولو كان بقاؤها غير مضمون إلا بالخصم من قوة المجتمع ومؤسساته.
أما النخبة العلمائية/ الإسلامية فقد ظهرت أكثر اطمئنانًا، وإن كانت أكثر انقسامًا أيضًا؛ وذلك لكون كل قسم منها مستقرًا في وعائه الاجتماعي الواسع؛ وهذا ما يفسر انحياز هذه النخبة العلمائية في أغلبها لجهة قوة المجتمع واختياراته، ولو بالمغامرة بمواجهة السلطة القائمة في هذا البلد أو ذاك أحيانًا. كما أن هذه النخبة العلمائية لم تفقد الثقة في الجمهور العام بخلاف النخبة العلمانية التي لم تمنحه ثقتها يومًا، ولم تطمئن إلى حسن اختياراته في ظل الدولة الحديثة على طول الخط منذ بدايات تكوينها قبل نحو قرنين من الزمان.
في إطار هذه الجدلية وجد الجمهور العام نفسه ضحية سلطوية الحوارات النخبوية التي انخرط فيها الفريقان النخبويان. ولكن الذي يلفت الانتباه بشدة هو أن النخبة العلمانية، وليست العلمائية، هي التي أخذت مواقف مضادة لمنطق الحداثة في كثير من المعارك الفكرية التي أثيرت ولا تزال مثارة خلال هذه المرحلة. ولنضرب أمثلة على ذلك بعدد من أهم تلك القضايا:ـ
أ. معركة المبادئ فوق الدستورية: الذين عاصروا تداعيات ثورة يناير 2011م يتذكرون كيف طفت هذه المعركة على سطح الأحداث، وشغلت جماعات النخبة وأقسامها المختلفة. وقد بادرت النخبة العلمانية الليبرالية بإشعال فتيل هذه المعركة. وكانت الفكرة الأساسية لديهم هي: ضرورة منع ظهور أية مؤسسات تمثيلية أو نيابية تعبر عن الإرادة العامة بأي شكل من الأشكال. ولهذا وجدناهم يرفضون إجراء الانتخابات البرلمانية قبل تشكيل لجنة خاصة لوضع دستور جديد للبلاد. وتمسكوا بوجوب تشكيل هذه اللجنة (المفرطة في نخبويتها بحكم التعريف) أولًا وإلا فلا.
وكان هذا الموقف أوضح تعبير عن انعدام ثقة النخبة العلمانية الليبرالية في الإرادة الشعبية العامة. وبالفعل لم تسلم بأي نتيجة من نتائج الاختيار الشعبي، وشككت في سلامة وعي عموم المواطنين في كل مرة ذهبوا فيها إلى صناديق الاقتراع. وبادرت تلك النخبة العلمانية إلى طرح فكرة وضع مبادئ فوق دستورية يخضع لها الدستور ذاته، ولا تصوغها الإرادة العامة للمجتمع. وهي فكرة غير حداثية بالمرة، بل وتسير في الاتجاه المعاكس لمنطق الحداثة السياسية الذي يعلي من شأن الإرادة الشعبية لا النخبوية منذ عصر التنوير الأوروبي.
لم ينتبه العلمانيون إلى تناقض فكرة المبادئ فوق الدستورية لمرجعيتهم العلمانية/ الحداثية ذاتها، وكل الذي سيطر عليهم هو الخشية من أن يسيطر الإسلاميون عامة على المؤسسات النيابية الجديدة. ولما حققت القوى الإصلاحية والإسلامية نتائج إيجابية في الانتخابات في تونس وفي مصر؛ احتدم الجدل حول تلك المبادئ، وهل تكون فوق الدستور؟ أم حاكمة له؟ أم تكون متضمنةً فيه ولكن لا يسهل تعديلها بالمعنى الذي يشير إليه التعبير بالإنجليزية Entrenched Clause؟
وتبنت أغلبية النخبة العلمانية: الليبرالية، واليسارية، والقومية، فكرة المبادئ فوق الدستورية. وحرض بعضُهم قوى السلطة الفعلية القديمة على إصدارها في إعلان دستوري ملزم للدستور قبل وضعه! ولكن نخبة قوى الإصلاح والتيارات ذات المرجعية الإسلامية رفضت تلك الفكرة، واعتبرتها محاولة للقفز على الإرادة الشعبية ومصادرة مبكرة لها. وصممت هذه القوى ونخبتها العلمائية على إسقاط فكرة المبادئ فوق الدستورية.
كانت خلاصة الجدل النخبوي حول مسألة المبادئ فوق الدستورية هي: أن قوى الإصلاح والنخبة ذات المرجعية الإسلامية قبلت الاحتكام للشارع واحترام الإرادة العامة، بينما ارتضت النخبة العلمانية بأغلبية فصائلها أن تحتكم إلى منطق الوصاية، والاستعلاء على الإرادة الشعبية.
ورغم سقوط فكرة المبادئ فوق الدستورية؛ إلا أن النخبة العلمانية عادت مرة أخرى لتحرض في أغلب البلدان العربية على تقويض فكرة الشرعية النيابية. وما إن خفتت الأصوات في معركة المبادئ فوق الدستورية؛ حتى تعالت مجددًا في معركة نخبوية أخرى هي معركة الدولة المدنية والدولة الدينية. وهي أيضًا من المعارك الوهمية التي فجرتها النخبة العلمانية، وشغلت بها الرأي العام، وزادت المرحلة الانتقالية ارتباكًا، دون طائل.
أكثر المعارك دلالة على سيطرة النزعة السلطوية النخبوية تجاه الجمهور العام في المجتمع العربي الحديث، هما معركة المبادئ فوق الدستورية التي لم تعمر طويلًا كما رأينا، ومعركة الدولة الدينية والدولة المدنية؛ التي فجرتها النخبة العلمانية وأثارت الجدل حولها بضراوة ولا تزال تثيره في سياق المرحلة التي تلت موجة الربيع العربي.
ما يؤكد افتعال هاتين المعركتين هو انتفاء الأسس والشروط الموضوعية التي يمكن أن تبرر الجدل حولهما على المستويين النظري والعملي. وأيضًا انعدام أي دليل على أن هناك بالفعل خطرًا اسمه الدولة الثيوقراطية أو الدينية يهدد المجتمع الحديث في عالمنا العربي.
وبالنسبة لقوى الإصلاح والاستقلال الوطني، نجد أن النخب التي تقود هذه القوى لا تفتأ تكرر القول بأنها ترفض الدولة الدينية، وتعتبرها مضادة لروح الإسلام، ومناقضة لمبادئ الشورى ومسئولية الحاكم، وتؤكد بإصرار على أن الأمة مصدر جميع السلطات، وغير ذلك من المبادئ الأساسية التي تنفي من حيث المبدأ أن تكون الدولة ثيوقراطية، مع بيان أن رجال الدين هم غير الدين نفسه، وأن نظام الحكم النيابي الدستوري أقرب نظم الحكم القائمة في العالم إلى الإسلام، وأن مبادئه متفقة بل مستمدة من الإسلام. ورفضت أغلب النخب في هذه القوى الإصلاحية الوطنية اعتبار رئيس الدولة ذاته مصونة لا تمس.
معركة الدولة الدينية والدولة المدنية التي تصر عليها النخبة العلمانية باستمرار لم تأت بجديد حتى الآن. ولا يمكن فهم دوافع إثارة هذه المعركة الوهمية، إلا باعتبارها أحد تجليات النزعة السلطوية الاستعلائية المسيطرة على النخبة العلمانية في نظرتها لعموم المجتمع العربي، وللنخب الأخرى ذات المرجعية الإسلامية، بما فيها النخبة الفكرية لقوى الإصلاح والقوى الوطنية الأصيلة.
لقد صورت النخبة العلمانية صعود قوى الإصلاح ذات المرجعية الإسلامية على أنه رد فعل هروبي، يهدد مشروع التحديث. واعتقدَت أن مشروع التحديث سيتجاوز هذا الموقف الهروبي ويتفوق عليه. وهو ما لم يحدث لأسباب كثيرة ومن أهمها أن مجمل الثقافة السياسية المستمدة من المرجعية الإسلامية تجعل خيار الدولة الدينية منعدمًا، مثلما تجعل خيار الدولة العلمانية مستحيلًا في المجتمع العربي بالضرورة.
أعتقد أن النخبة العلمائية الأصيلة تدرك أن اللحظة التي تنحاز فيها لخيار دولة دينية، هي نفسها اللحظة التي ستفقد فيها مشروعيتها الإسلامية، ومن باب أولى هي تدرك أيضًا أن خيار الدولة العلمانية سيظل عاجزًا عن التحقق في بيئة الثقافة السياسية الإسلامية السائدة وذلك لسبب رئيسي هو: أن مشروع دولة الحداثة السياسية التي يتطلع إليها العلمانيون هو عبارة عن تصور حلولي شامل يؤسس دولة استحواذية تستوعب المجتمع بكليته داخلها، ولا تسمح له بأن يعقلَ ذاته أو يفهمها إلا بإذن سيادتها العليا عليه. وهذا التصور لن يمر بيسر من هذه النخبة مهما ارتفع صوتها إلى وعي السواد الأعظم من المواطنين.
ذلك لأن هذا التصور يتناقض مع التصور الإسلامي للدولة في علاقتها الأصولية بالمجتمع؛ إذ تقوم هذه العلاقة على أساس وجود مجال عام مشترك يحقق التوازن بينهما. والذي حدث خلال المرحلة السابقة على موجة الربيع العربي هو أن الاستبداد السياسي حاول تقليص المجال المشترك واختراق المجتمع والاستحواذ عليه؛ وكان رد فعل المجتمع هو أن هرع إلى التمسك بتعاليم الإسلام وقيمه ورموزه أملًا في الهروب من السلطويات الخانقة التي عششت في ظل الدولة الحديثة. وكلما زادت النزعة الاستحواذية لسلطويات دولة الحداثة؛ زادت النزعة الاجتماعية نحو التمسك بالإسلام لما يوفره من مساحات رحبة لحرية الحركة والمحافظة على قدر من الاستقلالية الاجتماعية عن سطوة السلطات الاستبدادية.
حب الحصيد هنا هو أن أهم عبرة يتعين الاعتبار بها من المعركتين الوهميتين السابق شرحهما وما في حكمهما من المعارك الوهمية التي دأبت النخبة العلمائية على إثارتها تتمثل في: أن الوقت أثمن من إضاعته في مثل هذه المعارك، وأن الذي يهم المجتمع في عمومه هو أن تكون له الولاية على نفسه، وأن لا يدعي أي فريق نخبوي أن له وصاية فكرية أو سياسية عليه.