لماذا تسخر السينما من أصحاب الثروة؟
بعد العودة من حفل فاخر في الأوبرا يدعو زوج من الأصدقاء بقية أصدقائهم إلى حفل عشاء في منزلهما، يوجه السيد الضيوف إلى السلم المتوجه إلى غرفة الطعام، يصعد الضيوف متمهلين بملابس المترفين، وبعد لحظات يصعد الضيوف مرة أخرى، يقدم السيد نخبًا ثم يقدمه مرة أخرى، يختفي الخدم الواحد بعد آخر دون إبداء أسباب محددة، يظل في القصر الفسيح خادم واحد يقوم بكل شيء، وبعد انتهاء الحفل يقترح البعض البقاء لليلة، فيتبع الآخرون المقترح، لكن في الصباح التالي عندما يحاولون إخلاء الغرفة يعجزون عن ذلك لسبب غير معلوم، لا توجد حواجز أو موانع تقف بين الضيوف وبين تحريك أقدامهم خارج عتبة الغرفة إلى الجانب الآخر ثم إلى بوابة الخروج، لكن الضيوف محتجزون الآن معًا، في مكان ضيق دون خدم يحضرون الماء والطعام، ومع الوقت تفسد ملابسهم الغالية وتنهار تسريحات شعرهم الدقيقة.
تلك هي الحبكة الرئيسية لفيلم «الملاك المدمر – The exterminating angel» للويس بونويل الصادر عام 1962، يعتبر بونويل أشهر من تناول الطبقات العليا بسخرية في أفلامه، في وضع أشبه بالانتقام، يقلب عليهم مساعيهم، بجعل الآخرين فرجة لهم يجعلهم فرجة سينمائية للجميع، يحتجزهم ويكسر حيلهم الدفاعية، يحكم عليهم بقسوة ويستخدمهم كوحدة متكاملة لانتقاد الأنظمة السياسية الفاشية والمتكسبين من ورائها، ولمناقشة العدالة الاجتماعية وتأثير السلطة والمال على الحياة اليومية، بالنسبة لبونويل فإن ادعاءات البرجوازيين مضحكة يسهل اجترار الكوميديا السريالية منها، كما أن طباعهم آسرة على الرغم من عدم احترامه لقيمهم الأساسية، يملك الأثرياء سحرًا لا يمكن إنكاره، يتمثل في تأثير الراحة المادية على طباعهم وهيئتهم، ملابسهم المنضبطة والحريصة وتحياتهم المعروفة لبعضهم وكون كل تصرفاتهم هي واجهة لأسرار منحدرة.
كان بونويل مخرجًا مطاردًا نفي من بلده اسبانيا وصنع أفلامًا في المكسيك، وفي أواخر حياته كما في بداياته صنع أفلامًا في فرنسا، امتدت انتقادات بونويل للطبقة العليا من الخمسينيات وحتى نهاية السبعينيات، لكن بعد عقود يبدو أن السينما لم تكتفِ من السخرية البونويلية، فمع نهاية 2022 وبداية 2023 سيطرت ثيمة الفرجة على الأثرياء على عدة أفلام، منها Glass Onion وTriangle Of Sadness وThe Menu، تكررت بها بعض الثيمات المرتبطة ببونويل، مثل حفلات العشاء الفاخرة والألعاب الخطرة التي يستخدمها البرجوازيون لإثراء حياتهم الآمنة، كما استخدمت تلك الأفلام أداة الاحتجاز في أماكن مغلقة أو التيه على جزيرة مهجورة، وهي ثيمات شهرها بونويل وأصبحت جزءًا من أسلوبه، فما سبب الاهتمام المعاصر بثيمة الانتقام من الأثرياء؟ وكيف تناولتها الأفلام المعاصرة في مقابل الأفلام الرائدة؟
الانعزال على جزيرة
في فيلمه الحائز على السعفة الذهبية «مثلث الحزن – Triangle Of Sadness» يقسم روبين أوستلند نقده الطبقي إلى ثلاثة أقسام: نقد لثقافة الإنترنت ونفاقها وما يصاحبها من ضغوط جندرية تتعلق بالمساواة والهمينة، نقد لشكليات الطبقات العليا وثنائية السيد والخادم التي لا تزال حاضرة حتى بعد تطور العالم وانعدام فكرة الاستعباد بشكلها التقليدي، وأخيرًا هشاشة الأدوار الطبقية والجندرية وكيف يتحول السيد إلى خادم والعكس، وما يتطلبه الأمر ليتولى المرء مسئولية نفسه وينجو في الظروف القاسية، لكي ينفذ أوستلند رؤيته استعان بأداتين بونويلتين رئيسيتين، هما: حفلات العشاء، والاحتجاز في مكان يصعب الهروب منه.
صمم بونويل احتجازًا ميتافيزيقيًّا متسعًا للتأويلات في فيلمه الملاك المدمر، يمكن رؤية انعدام القدرة على مغادرة غرفة كمقابل لانعدام قدرة تلك الجماعة من الناس على تقرير مصائرهم أو على اضطراب النظم الشكلية التي اعتادوها بمجرد اتخاذهم لقرار خارج النسق العام للأتيكيت وللحياة الرسمية، يعطف أوستلند على ذلك التصور في مثلث الحزن، فيصبح الاحتجاز الجماعي وعاءً أكثر مباشرة ووضوحًا، يعيد تنظيم ديناميات القوة وطبيعة السلطة، يأتي ذلك الفصل في نهاية الفيلم بعدما مر على عدة أجهزة لتناول السخرية من الطبقات العليا، فيصبح تجربة تكرارية مرهقة في خلخلة الوضع القائم وهدم الواجهات الاجتماعية المنمقة أو الكشف عن كل الوجوه في صيغة تساوي الجميع، حيث لا يوجد ما يستحق التمثيل أو الادعاء من أجله حينما تصبح حياة الفرد في خطر.
بعد غرق باخرة فاخرة في مثلث الحزن ينجو عدة أفراد من الطبقة العليا وأفراد من العاملين على الباخرة في جزيرة معزولة، يعيد ذلك الانعزال القاتل ترتيب كل شيء، تتولى امرأة عاملة في نظافة الحمامات أمر إبقاء الأثرياء المدللين على قيد الحياة، فهي الوحيدة القادرة على الاهتمام بالأمور دون خدم يتولون كل شيء، وهو ما يمثل استعادة أخرى للملاك المدمر حيث اضطرب كل شيء بعد مغادرة الخدم، تصبح الجزيرة رمزًا لبداية الحياة، خلق التراتبيات على أرض جديدة في سردية ربما تعيد للأذهان الفيلم المصري (البداية) لصلاح أبو سيف ولينين الرملي.
في فيلم القائمة The Menu لمارك مايلود يتم الاحتجاز بنية مبيتة على باخرة قرب جزيرة يحدها البحر كذلك، لكنه ليس نتيجة لانهيار سفينة أو لأسباب ميتافيزيقية غامضة، بل هي عملية دقيقة للانتقام وكشف الحقائق قادها الطاهي الرئيسي لمطعم فاخر، يدمج القائمة بين أداتين لبونويل وهما الاحتجاز والعشاء في هذه الحالة هو احتجاز لتناول العشاء عنوة، وأثناء ذلك يتعرض الأثرياء لشتى أنواع الفضح والترهيب النفسي والجسدي، فيلم القائمة فيلم ساخر بشكل مباشر لا يدع أي مجالات لإضفاء التأويلات الشخصية، كل ما يحدث داخل ذلك المطعم المغلق على الجزيرة النائية يتم التلفظ به على ألسنة الشخصيات.
يعمل الاحتجاز كأداة لوضع المتوهمين الظانين أن ألاعيبهم وامتيازاتهم الطبقية لن تفضح أبدًا أمام أنفسهم وبعضهم أمام بعض، كل ضيوف العشاء هم من رواد الأعمال والأثرياء الجدد وغيرهم ممن يستطيعون دفع ثمن وجبة نادرة وحصرية إلى أبعد حد، لكن الثيمة الرئيسية للقائمة هي العلاقات بين الخادمين والمخدومين باستخدام طهي الطعام كأحد أقدم طرق تقديم الخدمة، وربط ذلك بـمقدمي الخدمة الآخرين مثل مقدمي الخدمات الجنسية، يستخدم الفيلم أداة عكس الأدوار بين المخدومين والخادمين لتقسيم البشر لنوعين، من يأخذ ومن يعطي، ومثل معظم أفلام السخرية من أصحاب الثروات فإنه يصنع من الأثرياء فرجة، ويحيك عملية انتقامية مفصلة ضدهم، تتسم بالتطهير والتشفي في الطبقات المنفصلة عما حولها.
تمتد ثيمة الانعزال على الجزر لفيلم البصلة الزجاجية Glass Onion لريان جونسون، ومثل القائمة يتسبب في العزلة لعبة محكمة بدقة يقودها أحد الأثرياء كذلك، يدعو رائد الأعمال مايلز برون أصدقاءه بشكل حصري لجزيرة منعزلة على باخرة متطورة تكنولوجيا بشكل خيالي، كي يشتركوا في لعبة مفصلة تتطلب منهم إيجاد قاتله، الفيلم ليس مصنفًا سخرية مثل سابقيه، بل فيلم إثارة حل اللغز، وهو جزء ثانٍ لفيلم knives out، لكنه يسخر بوضوح من طبقة وجدت حديثًا من الأثرياء ورواد الأعمال، خاصة الذين أوجدهم الإنترنت والتطور الرقمي، مثل المسئولين عن مواقع رقمية شهيرة أو المؤثرين على الإنترنت، يأخذ اللغز معظم أحداث الفيلم لكن تلعب الجزيرة التي يحتلها لفترة بعض ذوي الامتيازات المعزولين نفس دور الفيلمين الآخرين، في كشف الجميع بعضهم أمام بعض وإسقاط الواجهات.
في إطار حبكة انتقامية ينقلب اللغز إلى حقيقة، ويتدخل بعض الغرباء للانتقام من أصحاب السلطة الذين أخطئوا في حقوق الآخرين، لكن البصلة الزجاجية فيلم أكثر دبلوماسية من سابقيه، فهو فيلم جماهيري من إنتاج نتفلكس، وهو جزء ثانٍ في سلسلة شهيرة، لذلك يرأف الفيلم بحال بعض أصحاب الثروات المستغلين، يجعلهم فرجة لفترة من الفيلم، ثم يسامح بعضهم ويصنع لهم منحنيات شخصية أكثر لطفًا، بالنسبة للفيلم لا يستحق كل أصحاب الثروة الموت والعقاب، فبعضهم يملك قلوبًا طيبة، حتى إن كان ذلك البعض عارضة أزياء عنصرية أو مؤثرًا رقميًّا كارهًا للنساء.
حفلات العشاء الانتقامية
في الفيلم الشهير لبونويل السحر الخفي للبرجوازيين The discreet Charm Of The Bourgeoisie تسعى جماعة من الأصدقاء الأثرياء لتناول العشاء معًا، يحاولون مرارًا، لكن كل مرة يقع حدث ما يمنعهم من تناول الطعام، يحلمون بولائم لا نهائية، يتصورون أسوأ مخاوفهم، وتتداخل خيالاتهم مع واقع بسيط وهو عدم القدرة على الجلوس على طاولة والحصول على طعام يقدم عليها دون مجهود بينما يثرثرون برسمية ويجامل بعضهم قدرات البعض على صنع الطعام، في الثلاثة الأفلام الجديدة تقع أحداث محورية على طاولة العشاء، وهي وحدة ذات معانٍ أبدية لا فكاك منها من العشاء الأخير نفسه حتى التعبير المجرد عن ضخامة الثروة، على طاولات العشاء تقع الخيانات وتحدث الاحتفالات، تنتقل النميمة من مقعد لآخر ويسهل رؤية ديناميكية الخادم والسيد بسهولة بالغة، الأصدقاء البرجوازيون يجلسون على الطاولات بدون الإتيان بأي فعل، لا يفعلون سوى الانتظار، انتظار الخدمة.
تظهر تلك الثيمة بشكل مسيطر على فيلم القائمة، فهو فيلم عن الطعام وما يصاحبه من تقديم الخدمات، يقع الفيلم كله في حفلة طعام متواصلة، تقدم وجبة بعد أخرى، كل وجبة تحمل قيمة مفاهيمية، وتعبر عن خطيئة ما ارتكبها المدعوون الأثرياء الذين يستطيعون تحمل تكاليف أغلى طاهٍ في العالم، يصبح العشاء في القائمة عقابًا، عقابًا على الأخطاء السابقة واللاحقة، وينزع عنه عدم الاكتراث الذي عادة ما يصاحبه، الأثرياء يتناولون الطعام عادة دون حمل هم التنظيف بعده أو تحضيره، أثناء تناول العشاء تتلاشى المسئوليات، فيعيدها إليهم الطاهي الثري الذي بدأ من الصفر، يضع كل نفاقهم تحت عدسة مكبرة.
في الفصل الثاني من فيلم مثلث الحزن يتناول أوستلند حفلة العشاء من منطلق كوميديا فارس ساخرة، يقدم العاملون في الباخرة الخدمة باستمرار ولا يسمح لهم بقول كلمة لا، تقدم الوجبات المعقدة واحدة بعد أخرى، تضطرب السفينة فيبدأ الأفراد المتماسكون في الانهيار، تصبح حفلة الطعام وتذوقه حفلة معاكسة، فهي حفلة للتخلص من بقايا هذا الطعام، تصبح سخرية الفيلم الرئيسية وانتقامه من أصحاب الثروات هي رؤيتهم في أكثر أحوالهم آدمية، ويستخدم كوميديا إفرازات الأجساد ليجعل الأثرياء مادة للفرجة والشفقة والتشفي، يظهر كل عوارهم وكونهم مثل أي شخص آخر تضطرب معدته فيملأ الغرفة بقيئه أو بفضلاته.
في كل من القائمة ومثلث الحزن يوجد تمثيل لشخصية ذات ميول اشتراكية رافضة لنفاق أصحاب الثروة، لكنها متورطة في عوالمهم، وفي كلا الفيلمين يتم التعبير عن تلك الشخصية بأداة سهلة، وهي عدم الاهتمام بالطعام الفاخر وتفضيل الطعام السريع الأمريكي، الطعام الذي لا يتطلب تفكيرًا بل يستدعي راحة نوستالجية سريعة، وفي كليهما ينجو هؤلاء من حفلات القيء الجماعي أو من القتل الوحشي، يمثل ذلك سخرية تكاد تكون طفولية وواضحة من آدمية الأثرياء وتشفيًا سهلًا في حفلات عشائهم الفاخرة، تصنع تلك الأفلام مفارقة واضحة بين ما تمثله والقائمين عليها، أوستلند مثلًا مخرج حائز على سعفة كان الذهبية مرتين فهو بالطبع أحد أفراد حفلات العشاء الفاخرة باستمرار، ومن يشاهد فيلمه في عرضه الأول في المهرجان هم القادرون على قضاء إجازة في مدينة كان الساحلية الساحرة.
يستخدم فيلم البصلة الزجاجية حفلة العشاء بشكل كلاسيكي، أثرياء ذلك الفيلم أقرب لتصور الفرد المعاصر عن الأثرياء الآخرين، فمعظمهم من المشاهير المتورطين في حيوات أجيال أصغر غير معزولين أو منفردين، بل يشاركون معظم خطوات حياتهم على الإنترنت، يمثل العشاء في الفيلم لحظات للكشف والخيانة، على العشاء تفضح النوايا وتقع محاولات القتل، الطعام وسيط سهل لزرع السموم والتملص من الجرائم، لا يركز البصلة الزجاجية على طبيعة الطعام نفسه ومدى تعقيده لأن أثرياءه ليسوا ذوي أذواق رفيعة بالضرورة، فهم أثرياء جدد صنعتهم الشهرة السريعة والمتابعون، كما أنه لا يركز على تقديم الخدمة، الخدمة في ذلك العالم المعاصر معتمدة بشكل رئيسي على التكنولوجيا وعلى الحصرية المفرطة لتلك الجزيرة، فلا يوجد مجال للغرباء، وكل ما يُقدم لهؤلاء من خدمة تقوم به الأجهزة المتطورة، فطبيعة حفلة للعشاء ليست رسمية بل أشبه بالحفلات البوهيمية، الجميع يرقص ويتحرك بحرية.
على عكس أفلام بونويل وأفلام الحركات الحداثية والثورية فإن الأفلام الحديثة الساخرة تقع في المتن في مقدمة الإنتاجات الكبرى، وليس على الهامش الأكثر استقلالية، يمثل النقد الاجتماعي صيغة سينمائية تصحو وتخفت كل فترة، تجعل تلك الأفلام من أصحاب الثروة أوعية فارغة للفرجة دون محاولة لدمج تلك النزعة الانتقامية بأي عمق سردي أو تطور واضح في تلك الشخصيات، وكلها تعمل على تغذية رغبة حقيقية لدى المشاهد العادي غير المنتمي لتلك الطبقات بشعور من الانتصار المؤقت، لكنها على أي حال رحلات أدرينالينية ممتعة ونجاحها يعمل كمؤشر على المزاج السينمائي العام وسأم الأغلبية من أصحاب الامتيازات.