لماذا يحتاج لاعب الشطرنج إلى ممارسة التمارين البدنية؟
في صباح أحد الأيام العاصفة في شهر مارس/آذار الماضي، قرر الأمريكي فابيانو كاروانا، ترك منزله في مدينة «سانت لويس»، والذهاب بعيدًا نحو الغرب؛ حيث اضطر إلى قيادة سيارته أكثر من ثلاث ساعات، من أجل الوصول إلى مجمع يملكه أحد أصدقائه، مساحته ألف فدان في ريف مدينة «ميزوري».
وفي تمام السابعة والنصف صباحًا من اليوم التالي، بدأ كاروانا، وصديقه كريستيان شيريلا، ممارسة الجري لمدة ساعة تقريبًا، وبدا وكأنهما لاعبا كرة قدم، أو إحدى ألعاب رياضة العدو، إلى جانب جدولهما اليومي الذي كان مشغولًا ما بين الركض لمسافة 5 أميال، وممارسة التنس لمدة ساعة، وكرة السلة لمدة نصف ساعة، والسباحة لمدة ساعة أخرى.
قد يبدو الأمر منطقيًا لو أن الصديقين يلعبان كرة القدم، أو أي رياضة تحتاج هذا المجهود البدني بالفعل، ولكن المفاجأة أن فابيو كاروانا هو المصنف الثاني عالميًا في لعبة الشطرنج، وصديقه الروماني كريستيان شيريلا، هو أحد الأساتذة الدوليين في اللعبة أيضًا، فلماذا يضطر هؤلاء لممارسة هذا النوع من التمارين البدنية؟
خسارة الوزن
في أكتوبر/تشرين الأول 2018، قامت شركة «بولار» الأمريكية بمتابعة ورصد ضربات قلب لاعبي الشطرنج خلال إحدى المسابقات الدولية، ولُوحظ أن اللاعب الروسي، ميخائيل أنتيبوف، صاحب الـ 21 عامًا، في واحدة من مبارياته، حرق 560 سعرًا حراريًّا في ساعتين فقط، وهي نفس كمية السعرات التي يحرقها الإنسان الطبيعي في ساعة من المشي بسرعة 3.5 ميل/ساعة، وهي نفس الكمية التي يحرقها لاعب مثل روجر فيدرر بعد ساعة من ممارسة التنس.
في المقابل، قفز معدل ضربات قلب خصمه في هذه المباراة الأمريكي، هيكارو ناكامورا، إلى 130 نبضة في الدقيقة الواحدة، وانتهت المباراة بينهما بالتعادل. قد يبدو الأمر عجيبًا، لا سيما وأننا نتحدث عن لاعبين يمارسون اللعبة وهم جالسون لا يحتاج كل منهما سوى تحريك قطع الشطرنج التي أمامه، وباستخدام الأصابع فقط.
في بطولة كأس العالم عام 1984، اضطر رئيس الاتحاد الدولي للعبة وقتها، إلى إلغاء البطولة بعدما استمرت 5 أشهر كاملة، ولُعب خلالها 48 مباراة؛ وذلك بعدما خسر البطل الروسي أناتولي كاربوف 22 رطلًا تقريبًا من وزنه، حتى وصفه المعلق وقتها بأنه بدا وكأنه يحتضر، في سابقة حدثت لأول مرة في تاريخ لعبة الشطرنج.
الأمر ذاته تكرر في نسخة عام 2004، حيث خسر الأوزبكي رستم كاسيمجانوف، والفائز بلقب هذه النسخة، ما يقرب من 17 رطلًا من وزنه، وذلك خلال ست مباريات فقط؛ ليبقى السؤال الذي يطرح نفسه الآن، لماذا يحدث ذلك؟ وأين تذهب هذه الطاقة الهائلة التي يستهلكها اللاعبون وهم جالسون؟
السر في التوتر
وفقًا لـ «روبرت سابولسكي» ، أستاذ علم الأعصاب في جامعة ستانفورد، فإن اللاعبين الكبار، يحرقون ما بين 6-7 آلاف سعر حراري في اليوم الواحد أثناء البطولات الدولية الكبرى، حيث يتعرضون لكمية هائلة من التوتر والضغوطات التي تؤدي إلى ارتفاع معدلات ضغط الدم والتنفس، وبالتالي تجبر أجسامهم على إنتاج مزيد من الطاقة.
الأمر سيكون أسوأ، لو تناول هؤلاء اللاعبون الطعام بكميات أقل في تلك الفترة، وهذا وارد جدًا، لأنهم ببساطة لا يملكون الوقت ولا الشهية لذلك.
من جانب آخر فإن هذا الكم الهائل من التوتر يمكن أن يقود اللاعب إلى عدم الانتظام في ساعات النوم المعتادة له قبل بداية المباريات في اليوم التالي، حيث إن تقليل عدد ساعات النوم ولو لساعة واحدة سيحتاج مزيدًا من الطاقة كي يبقى مستيقظًا طوال ساعات المباريات الطويلة.
يفقد اللاعبون الوزن خلال البطولات، الأمر أشبه بمواجهة اختباراتك النهائية لمدة تسعة أيام متواصلة، حيث تستمر الاختبارات خمس ساعات في كل مرة وتتغير الأسئلة باستمرار
مراسل لعبة الشطرنج في جريدة تليجراف.
من جانب آخر، أكد باسم أمين، المصنف الأول أفريقيًا في الشطرنج، في حوار خاص لـ «إضاءات»، أنه يعاني من نقصان الوزن دائمًا في البطولات الكبرى، رغم أنه في الوقت نفسه، يحاول الحفاظ على نظامه الغذائي خصوصًا في أوقات البطولات المختلفة التي يشارك فيها، موضحًا أن ممارسة التمارين البدنية تعد عاملًا مؤثرًا في الحفاظ على تركيز اللاعبين أثناء المباريات، وهذا ما يفسر تفوق أول 10 أو 20 لاعبًا في التصنيف الدولي عن غيرهم.
الحل على طريقة «كارلسن»
في عام 2017، أدرك اللاعب النرويجي، ماجنوس كارلسن، المصنف الأول عالميًا، أنه مهدد بفقدان الصدارة في المستقبل القريب، صحيح أنه كان ما زال يستطيع الفوز بمعظم البطولات التي يشارك بها في هذا الوقت، ولكنه لاحظ أن الفوز بالمباريات يستغرق منه وقتًا أطول.
لذا ذهب «كارلسن»، رفقة أبيه إلى المركز الأولمبي في العاصمة النرويجية «أوسلو»، لأخذ المشورة حيال هذا الأمر، وكانت نصيحة المتخصصين هناك له في البداية، أن يتوقف عن شرب عصير البرتقال الذي يتناوله أثناء المباريات، إذ كان يعتمد على مزيجٍ متساوٍ من عصير البرتقال والماء لزيادة الطاقة منذ أن كان طفلًا، لأن الجسد لم يُعد يحرق السكر بنفس المعدل، وبالتالي يمكن أن تؤدي إلى تعرضه إلى غيبوبة سكر.
في الوقت نفسه، بدأ «كارلسن» في إخضاع جسده لمزيد من الجهد البدني، حيث إنه يمارس رياضات أخرى مثل: كرة الطائرة وكرة السلة والسباحة بالإضافة إلى العدو والتزلج الذي يمارسه قبيل البطولات الكبرى مثل: بطولات العالم، بل إنه اصطحب طباخًا خاصًا له أثناء سفرياته المختلفة من أجل الحفاظ على نظام التغذية الخاص به.
هذا التغيير الذي قام به اللاعب النرويجي، امتد ليشتمل على تحسين هيئة جلوسه في المباريات بحيث يتأكد من وصول أعلى نسبة من الأكسجين إلى الدماغ، وبشكل لا يتطلب حرق مزيد من الطاقة، كما يحاول الحفاظ على الاسترخاء، من خلال مضغ العلكة مثلًا التي تزيد من وظائف المخ دون فقد الطاقة، كما خفض جدول بطولاته إلى 6-8 بطولات بعدما كان يشارك في 12- 14 بطولة سنويًا، من أجل الحصول على إجازة يستعيد فيها لياقته بعد كل بطولة.
العقل أم الجسد؟
الآن يتبقى لنا سؤال أخير: هل الشطرنج رياضة عقلية أم بدنية؟ وبصيغة أخرى: أيهما أكثر تأثيرًا على لاعب الشطرنج، العقل أم الجسد؟ أجاب باسم أمين عن هذا السؤال قائلًا: «رياضة الشطرنج هي لعبة عقلية بالأساس، والمجهود الذهني بها هو رقم واحد، ولكن كما يقال دائمًا العقل السليم في الجسم السليم، لذا لو لم يكن جسدك على المستوى المطلوب فإن ذلك سيؤثر عليك حتمًا».
وأكمل: «عادة أبدأ المباريات بشكل رائع للغاية، وأكون قريبًا في أحيان كثيرة من الفوز، ولكن مع مرور الوقت، خاصة في المباريات التي تصل مدتها إلى 8 أو 9 ساعات، يقل المستوى تدريجيًا، بسبب التعب والإرهاق البدني الشديد في هذه الظروف، وهو ما يتسبب في خسارتي في أحيان كثيرة، وهذا هو الفارق بيننا وبين لاعبي الصف الأول في العالم».
خلاصة القول: إن رياضة الشطرنج مثل باقي الرياضات الأخرى تعتمد على الجانب الذهني والبدني معًا، ولكن الاختلاف في نسبة هذا الاعتماد، فإذا كنت لاعب كرة قدم مثلًا، فإنك ستحتاج للجانب البدني بشكل أكبر حتى تستطيع لعب 90 دقيقة في المباراة، وبشكل أقل ستحتاج الجانب الذهني؛ حتى تتمكن من إنهاء الفرص التي تتاح لك بشكل صحيح، وبالتالي تسجيل الأهداف التي تقود فريقك إلى الفوز، والعكس تمامًا يحدث في الشطرنج.