ألّا يصدق أصدقاؤك أنك تتألم هو أمر سيئ، ولكن حينما لا يصدق طبيبك أنك تتألم هو أمر آخر تمامًا، أشد سوءًا وخطورة.

لو أنك طبيب وخلال ساعات عملك، جاءك رجل وامرأة في الوقت نفسه، يتألمان، منْ ستعالج أولًا؟ ومنْ سينتظر؟

في العادة، يجب تقييم المرضى وعلاج الحالة الأكثر إلحاحًا من بينهم، ولكن ما يحدث وفقًا لدراسة أجراها المعهد الوطني للصحة أن النساء يتعين عليهن الانتظار لوقت أطول من الرجال، وهو الأمر نفسه فيما يتعلق بتلقي أدوية تخفف الألم بمجرد الوصول للمستشفى، ويتراوح فرق الانتظار بين النساء والرجال من 13% إلى 25%. ووفقًا لما نُشر على موقع صحيفة «The Independent» ينتظر الرجال عادةً 49 دقيقة قبل أن يتم علاجهم من آلام البطن، بينما تنتظر النساء 65 دقيقة لنفسِ الأعراض.


صدمة أن تكون غير مرئيّ

المثال الأول

يحكي الكاتب جو فاسلر في مقال على موقع The Atlantic عن التجربة التي خاضها مع زوجته رايتشل والتي كانت تحتاج تدخلًا جراحيًا طارئًا -استئصالًا للرحم – ولكن فريق الطوارئ بالمستشفى لم يعتقد على الإطلاق أنها حالة طارئة.

بعد أن رأى زوجته تعاني ألمًا شديدًا في صباح أحد الأيام، اتصل جو بالإسعاف لنقلها إلى المستشفى معتقدًا أنها ستحصل على علاجٍ فوري لألمها، نظرًا لوصفها مقدار الألم الذي تشعر به أنه 11 على مقياس من 1 إلى 10. إلا أنهما بمجرد وصولهما إلى المستشفى، أخبرت إحدى الممرضات رايتشل بأن عليها الانتظار حتى يحين دورها، بينما أخبرتها أخرى أنها تشعر بتوعكٍ بسيط فقط ولا داعي للقلق.

بل شخّص فريق التمريض والطبيب المشرف آلام رايتشل – دون إجراء فحص جسدي وإنما عن طريق طرح أسئلة روتينية فقط- أنه حصوات، وأنها حالة غير طارئة، وسيظهر هذا جليًا في نتائج الأشعة المقطعية.

وبعد ساعات وساعات من الانتظار للحصول على نتائج الأشعة المقطعية، اكتشف الزوجان أن الطبيب الذي كان يُشرف على حالة رايتشل قد غادر المستشفى لبقية اليوم، وبحضور طبيب آخر، طلب منه جو أن يحلل نتائج الأشعة المقطعية فورًا، ليكتشف الطبيب أن رايتشل لا تعاني من حصوات، وإنما كانت تعاني من التواء بالمبيض Ovarian Torsion، وتستدعي تدخلًا جراحيًا سريعًا لمنع حدوث الغرغرينة وتضرر الجسد بالكامل. وهو أمر شديد الألم. وأخيرًا، نُقلت رايتشل إلى الجراحة، بعد مرور أكثر من 14 ساعة على بداية شعورها بالألم.

المثال الثاني

تحكي كارولين رايلي قصتها في مقال كتبته لموقع بيتش-ميديا، حيث كانت تعاني 7 سنين من ألم في الرحم، ولم يستطع أحد تشخيصها أو معرفة ما بها. عاشت سبع سنين مع ألمٍ لا يُحتمل دون أن تستطيع أن تثبت لأحد أنه ألم حقيقيّ وأنها ليست ضعيفة ولا شكّاءة بكاءة، كأن تيقنها وحدها بأن بها علة ما ليست كافية.

وأخيرًا عندما شُخصت بأنها تعاني من الانتباذ البطاني الرحمي Endometriosis -وهو اضطراب شديد الألم يحدث نتيجة نمو بطانة الرحم خارج الرحم- لم تفرح بأنها ألمها سيخِف وربما ينتهي مثلما فرحت بأنها أخيرًا تعرف أن ألمها كان صادقًا وحقيقيًا فعلًا، وأن معاناتها خلال 7 سنين مضت لم يكن أمرًا نفسيًا ولا مبالغة منها في وصف ما تشعر بها مثلما أخبرها الجميع.

المثال الثالث

مرت الكاتبة آبي نورمان بوضعٍ مشابه وتحكي عنه في كتابها «Ask Me About My Uterus»، حيث عانت هي الأخرى من الانتباذ البطاني الرحمي، واضطرت إلى الذهاب إلى سلسلة من الأطباء لمعرفة سبب ألمها، ونظرًا لأن أعراض هذا الاضطراب تكون أحيانًا غير ظاهرة كما أن المرض ليس معروفًا بشكل كبير، أخبرها أحد الأطباء أن ما تشعر به هو ألم سايكوسماتي – وهو ألم جسدي ينتج عن اضطرابات عقلية أو عاطفية- نتيجة اعتداءات جنسية حدثت لها في الطفولة، وعلى الرغم من أن هذا لم يحدث لنورمان ولكنه مع ذلك أصرّ على تشخيصه، وتغاضى عن احتمالية كونه خاطئًا وأنها قد تكون تشعر بالألم والإرهاق والغثيان بسبب مشكلة ما حقيقية بجسمها.

هذه الأمثلة تصف بعض ما تمر به النساء حين يتألمن، فلا يكفي كونهن في ألمٍ شديد وإنما عليهن خوض معارك أخرى مع المؤسسات الطبية لتصديقهن وبالتالي تلقّي العلاج المطلوب، حيث لا يأخذ الأطباء عادةً آلام النساء الجسدية بجدية مقارنة بالرجال. تتعرض جميع النساء لتلك التحيزات في دوائرهم الاجتماعية، يُنظر دائمًا لشكوى الرجال من آلامهم بمراعاةٍ أكبر، بينما يتوجب على النساء أن يُثبتن أن آلامهن ليست مبالغة في الوصف ولا عاطفية مفرطة منهن ليحصلن على رعاية طبية لائقة.


من أين جاء التحيز؟

حتى عام 1970، لم يكن هناك مشاركة نسائية في الأبحاث الطبية والتجارب السريرية، من هنا نبعت المشكلة، وكبرت الفجوة بين الطب والنساء، لأننا لا نملك ما يكفي من المعلومات الطبية حول النساء وأجسادهن وظروفهن وتعاملهن مع الأدوية، والتي قد تؤثر عليهن بشكل مختلف عن الرجال.

بالإضافة إلى ميل الجميع إلى عدم تصديق شكوى النساء من ألمهم، لأنه -يبدو أن النساء كثيرات الشكوى- وبالتالي عندما يصفن ألمهن بأنه شديد جدًا، فهو بالنسبة للرجل مثل شكّة دبوس. ففي كثير من الأحيان، يتأخر تشخيص النساء بسبب أن أعراضهن لا تتوافق مع الأعراض النموذجية، لأن الأبحاث كلها جريت على رجال.

في عام 2001، أجرت دايان هوفمان وآنيتا تارزيان، أساتذة من جامعة ميريلاند، دراسة حول النساء والرجال والألم بعنوان «الفتاة التي بكت ألمًا: تحيز ضد النساء في علاج الألم»، لمعرفة ما إذا كان الألم يختلف بين الرجال والنساء، وما تفسير تباين العلاج المُتلقّى. كما أشارت الدراسة إلى ما يدعى بـ «متلازمة ينتل»، والتي تعني أن النساء يتم التعامل معهن بجدية أقل ما لم يُثبتن أن الألم اللاتي يشعرن به هو حقيقي مثل ألمٍ المرضى الذكور. إضافةً إلى أن الرجال أكثر عرضة لتلقي أدوية للألم، بينما تكون النساء أكثر عرضة لتلقي المهدئات عند الإبلاغ عن الأعراض نفسها. توضح الدراسة كذلك غرابة التحيز في افتراض أن المرأة تتألم بسبب كل شيء وأنها في الوقت نفسه تختلق الأمر.

استطاعت الدراسة استنتاج أغلب الصور النمطية الخاطئة حول المرأة، والتي قد يتعامل على أساسها الأطباء، مما يدفعهم إلى التحيز ضد النساء عند التعامل مع الألم:

1. لا يشتكي الرجال كثيرًا، ولذا عندما يشتكون من ألمٍ ما، لابد أن يكونوا صادقين.

2. النساء قادرات على تحمل الألم بشكل أفضل، فهن يتحملن الولادة وما يصاحبها من آلام.

3. النساء غير دقيقات في وصفهن للألم، ومَيلهن إلى كثرة الشكوى والمبالغة.

سبب آخر يمكن أن يكون مساهمًا في هذا التحيز، هو أن أغلب النساء يصفن ألمهن بأنه سيعيقهن عن الاهتمام بأطفالهن، بينما يصف الرجال أن ألمهم سيجعلهم يتغيبون عن عملهم، وقد يبدو الأمر أكثر تهديدًا وخطورة لو لم يستطع الرجال أن يذهبوا إلى العمل لإعالة عائلاتهم. بينما على النساء امتصاص الألم واستكمال المهام المتوقعة.

تؤدي كل هذه القصص والأبحاث الأكاديمية إلى طريقٍ واحد مزعج: بالنسبة للطب، فهناك تاريخ طويل من رفضٍ ألم المرأة. والأسباب المتنوعة وراء ذلك سواء بسبب التحيز الجنسي، أو عدم وجود بحوث طبية كافية تتضمن النساء، أو الاختلافات الفعلية في تفسير الجنسين للألم.


يمكن للتحيز أن يقتل أحياناً

هناك مجموعة من الأبحاث تستكشف أن التحيز اللاواعي -وهو تحيز لا يرتبط بأحكام مسبقة ويحدث دون قصد غالبًا- يساهم بشكلٍ كبير في الاختلاف في تلقي الخدمات الطبية بين الجنسين. ليس على التحيز أن يكون مقصودًا من جهة الطبيب، ولكنه يحدث نتيجة أنه أصبح من الطبيعي أن يُعالج الرجل قبل المرأة، وهو أمر خاطئ من البداية، والطرف الوحيد الذي يتأثر في هذه الحالة هن المرضى النساء.

إن تأخر الاستجابة لآلام النساء، وعدم تصديق ما يصفنه يمكن أن يكون له عواقب مميتة.وفقًا لتقرير على موقع CNN، في مايو/آيار 2018 في فرنسا، اتصلت امرأة في أول العشرينيات بخدمة الطوارئ ووصفت ألم بطنها بأنه شديد لدرجة أنها تشعر أنها ستموت، وأجابها مستقبل المكالمة «أننا سنموت جميعًا يومًا ما». وعندما نقلت المرأة إلى المستشفى بعد خمس ساعات من اتصالها، أصيبت بجلطة دماغية وماتت بسبب فشل عضوي متعدد.

واحدة من أكثر التحيزات اللاواعية المنتشرة في النظام الطبي فيما يخص الجنس هي الأورام الدماغية. كشفت دراسة أجُريت عام 2015 تأخر تشخيص 6 أنواع من أصل 11 نوعًا من السرطان لدى الإناث، وأن الأمر لا يرجع إلى تأخر النساء في الذهاب للطبيب، ولكن التأخر المقصود هو الفترة بين زيارة الطبيب لأول مرة وحتى تشخيص المرض.

إن الميل إلى عزو شكوى النساء الجسدية إلى وجود مرض عقلي له جذوره في تاريخ «الهستيريا» -أو الاضطراب الأنثوي الأسطوري- والتي بعد عناءٍ طويل اعُتبرت أخيرًا مشكلة نفسية. بالفعل، لقد تغيرت المصطلحات خلال القرن الماضي، ولكن المفهوم الذي يفيد بأن اللاوعي يمكنه أن يُنتج أعراضًا جسدية، ما زال موجودًا ومنتشرًا في الطب. وهناك خطر كبير قد ينتج عن الخطأ في تشخيص الآلام الجسدية أو الأعراض غير المفهومة طبيًا بأنها نتيجة للإجهاد.

في عام 1965،حذّر إليوت سلاتر، طبيب نفسيّ بريطاني، من أن مصطلح «الهستيريا» جعلت الكثير من الأطباء يعتقدون أنهم قد حلّوا اللغز بهذا التشخيص بينما لم يكن هذا هو الحل أبدًا. وبعد متابعته لـ85 مريضًا تم تشخيص أعراضهم بـ«هستيريا» بالمستشفى الوطني في لندن خلال الخمسينيات، اكتشف بعد مرور 9 سنوات أن أكثر من 60% من المرضى كان لديهم أمراض عصبية عضوية بما في ذلك الأورام الدماغية والصرع، وأن اثني عشر شخصًا منهم قد ماتوا في تلك الفترة.

طالما ما قيل للنساء المتألمات أن شعورهن بالألم مزيف، وأنه يقبع في رأسهن فقط.

في دراسة أجُريت عام 1986، فحص الباحثون مجموعة من المرضى الذين يعانون من اضطرابات عصبية عضوية خطيرة، ولكن تم تشخيصها في البداية بأنها هستيريا. وحاولوا تحديد الأسباب التي قد تجعل المرضى عرضة لسوء التشخيص، السبب الأول، يرجع لكون المريض قد شُخص باضطراب نفسي سابق، والسبب الآخر، كان لأن المريض امرأة.

قد يُشبه الأمر تجربة المرضى المصابين بأمراض نادرة للغاية، حيث يتعين عليهم الذهاب لسنين طويلة لعدد كبير من الأطباء قبل أن يجدوا أخيرًا من يبحث أكثر ويعرف أكثر ويُشخِّصهم بشكل صحيح، يحدث هذا أيضًا مع النساء، ولكن ليس في الأمراض النادرة فقط، وإنما بشكلٍ مستمر في كل المرات اللاتي يعانين فيها من آلامٍ حادة.

إن عدم أخذ شكوى النساء بجدية كافية ليس أمرًا مُحبطًا وحسب، ولكن خطورته الحقيقة تكمن في أن استبعاد الأعراض الخاصة بالمريضة، بمجرد أن يستقر الأطباء على تشخيص نفسي خاطئ، وأن كل هذا في رأس المرأة فقط، مما يعني أن الأطباء سيتوقفون عن البحث عن تفسير آخر، مما يُعرِّض حياة المريضة للخطر وكثيراً للموت.