يقول «جوستاين غاردر» في روايته «عالم صوفي»:

لقد فهمت كل شيء، ولكن عندما يعي الإنسان وجوده، والموت الذي ينتظره يومًا ما، وعندما لا يجد تفسيرًا يتعلق به، يتملكه القلق على حد قول سارتر. ربما ما زلت تذكرين أن «كيركيغارد» أيضًا كان يصف القلق كخاصية مميزة للوضع الوجودي الإنساني.

حين يصيبنا القلق جراء أسئلة من نوع: من أنا؟ وماذا أفعل في هذا العالم؟ فإذ بنا نتخبط في الحياة، باحثين عن معنًى لوجودنا، مُصابين بالقلق نرى انعدام الجدوى من وجودنا، في حياة لا نُشكل فيها شيئًا يُذكر.

ولكي نحاول بعد عناء وقلق فهم طبيعة العالم الذي نوجد فيه، والإجابة عن أسئلة مثل تلك التي تشغل بالنا، وتؤرِّق علينا وجودنا المحسوس بالنسبة إلينا، نتفلسف.

فما هي الفلسفة، وما هو القلق؟ وهل يواجه التفلسف القلق حقًّا أم يدعمه؟

ما هي الفلسفة؟

في اليونانية «φιλοσοφία‏» وفي الإنجليزية «Philosophy» والاثنان بمعنى «حُب الحكمة».

من منا لا يحب الحكمة لقدرتها على وضع صاحبها في مكانة عالية وسط العامة، أو على الأقل لا يحاول الظهور بهيئة الحكيم أو الأخ الأكبر معظم الوقت؟ ولكن الفلسفة ليست فقاعة ممتلئة بتلك الترهات، كما أطلق عليها بعض ممن لم يفهموها، وإنما هي علم كبير لا يمكن حصره في تعريف أدق من «علم السؤال». أن نسأل عن كون الشيء محاولين البحث عن إجابة، عن هوية، عن معنًى وجداني لذلك الشيء، فذلك ما يُدعى فلسفة.

الفلسفة هي رغبة غير منتهية للوصول إلى الحكمة. وذلك ما ذكره «جان فرانسوا ليوتار» في كتابه الذي يحمل عنوان «لماذا نتفلسف؟».

ترتبط الفلسفة ارتباطًا وثيقًا بكلٍّ من: الدين، السياسة، العلوم الطبيعية والعلمية والتعليم، وذلك لأنها تقوم على محاولة جريئة لمعرفة جوهر الشيء؛ ولذلك يُذكر فيها مصطلح «الجوهر» بشكل متكرر.

في الفلسفة الطبيعية اليونانية مثلًا، أي ما قبل سقراط، يُمثل «الأصل» أو «المبدأ» جوهر الوجود لكل الموجودات. أما عند الفيلسوف اليوناني «ديموقريطوس» الذي شارك بتأسيس المذهب الذري، فهو يرى الذرة بوصفها جوهر الوجود، والبنية الأساسية لكل موجودات العالم.

على عكس أفلاطون الذي يرى الجوهر هو المثال وهو الشرط الضروري لوجود الصفات، فالجوهر الأفلاطوني هو ما يوجد واقعيًّا والكلي الثابت، الذي يجمع بين الأشياء المختلفة، وهو موضوع التأمل العقلي، أزلي ولا متناهٍ، وذو طبيعة روحانية. يعرِّفه أرسطو في كتابه «المقولات»، بأن الجوهر هو «ما لا يُسنَد إلى موضوع ولا يوجد في موضوع».

ما هو القلق؟ وكيف ينشأ؟

إن الوجود ليعلن صراحةً أن الإنسان يحيا في قلق ويكابد القلق، وهو يعني بذلك أن الإنسان عندما يلزم نفسه تجاه شيء ما، ويدرك في الوقت نفسه أن اختياره سيكون اختيارًا يُحدد له ماذا سيكون، وأنه لا يختار لنفسه وحدها بل يختار للإنسانية كلها في الوقت نفسه؛ ففي لحظة كهذه لا يمكن للإنسان أن يهرب من الإحساس بالمسئولية الكاملة العميقة.
«جان بول سارتر» في كتابه «الوجودية مذهب إنساني».

القلق في الفلسفة الوجودية: هو عدم الارتياح تجاه الاختيار، والحرية في الحياة. وينشأ القلق عند تفكير الإنسان في جوهر شيء ما من الأشياء الموجودة في حياته؛ فتنهال عليه عذابات مثل: العدم واللامعنى، فقدان الشغف تجاه الحياة وانعدام جدوى السعي، لأنه في النهاية بلا نتيجة.

في نهاية الأمر لا بد لنا بأن نعترف أننا رهينة لسهام الموت، الذي انطلق منذ لحظة والدتنا، ليصيبنا في نهاية رحلتنا على تلك الأرض، بطريقة درامية وسط حلقة من الأحباء المنهالين على جسدنا خائر القوى بالدعاء. وأننا في هذه الرحلة التي نقضيها في الحياة نحاول كسب ما أُتيح لنا فهمه من أنفسنا بأقل الخسائر الممكنة.

حين نُفكر في تلك النهاية المأساوية، التي هي نهاية حقيقية ستحدث لكل فرد منا، ونحاول البحث عن دعامة ما لنتعلق بها في الحياة، قشة صغيرة تُنجينا من الغرق في الهاوية، فلا نجد؛ يصيبنا ذلك بالقلق.

ما هي العبثية؟ وهل تصلح في مواجهة القلق؟

تعني الفلسفة العبثية أن كل مجهودات الإنسان ومحاولاته لإدراك معنى الكون دائمًا ما تنتهي بالفشل الحتمي، ذلك لأن هذا المعنى المنشود غير موجود أساسًا، على الأقل فيما يتعلق بحياة الفرد. وهي الصيغة الأكثر شمولًا لـ «اللاأدرية» في مبدئها، وهي أن الإنسان لن يتمكن أبدًا من أن يعرف.

يصل الإنسان إلى كل تلك المعاني، بالفلسفة، بالتفكير في الحياة ومحاولة إيجاد معنًى لها. في محاولة الإجابة عن الأسئلة التي تشغل جميع البشرية منذ أول يوم لهم على الأرض. أي إن الفلسفة هي من أكثر الوسائل الفعالة في تنشيط القلق لدى الإنسان، فكيف تُعالج الفلسفة ذلك؟

نستطيع باستخدام الفلسفة معرفة حجمنا الحقيقي في سياق هذه الحياة، دون مواربة أو مغالاة في حق أنفسنا. وهو ما يجعل منا إما أن نكون في حالات دائمة من القلق والاكتئاب، وإما تقبُّل العالم بلا جدواه المعهود كما هو، دون أن نجعل من أنفسنا محورًا رئيسيًّا في حياة ستنتهي في أي وقت؛ ولذلك لا يرفض أنصار الفلسفة العبثية السعادة، بل السعادة والتسخيف من أمور الحياة من أهم أسلحتهم في مواجهة فراغها من المعنى، وتكرار أيامها.

وفجأة، رأيت زوربا ينهض. خلع ثيابه، ورمى بها على الحصى، وألقى بنفسه في الماء. وكنت أرى بين الفينة والفنية، على ضوء القمر الوليد الشاحب، رأسه الضخم يظهر ثم يختفي. ومن حين إلى حين، يُطلِق صرخة، وينبح ويصهل، ويقلد صياح الديك: إن روحه في هذه الليلة المقفرة ترتد إلى الحيوانات.
من رواية «زوربا» لـ «نيكوس كازانتزاكيس»

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.