لماذا نحتاج مزيدًا من الفلسفة؟
بمجرد ما أن تُذكر كلمة «فلسفة»، تتبادر إلى الذهن تصورات شديدة التجريد لأفكار معقدة، وربما لكثير من التنظير الفارغ المنفصل عن حقيقة الحياة اليومية التي يعيشها الإنسان. ولكن بنظرة فاحصة، نتوصل إلى أن تلك المعتقدات ليست إلا صنيعة وتيرة الحياة السريعة التي لم تعد تسمح للإنسان بفسحة للتفكير والتأمل.
لم يكن دور الفلسفة يقتصر على محاولات تفسير الوجود وحل مشكلاته الميتافيزيقية، وتلبية احتياجات الإنسان النفسية، وسد الفجوات التي كانت تصنعها حالة الشعور بالاغتراب والقلق الوجودي الذي يرافق الإنسان في حياته فحسب، بل كان للفلسفة دور محوري في المجالات العملية على أصعدة مختلفة التي أسهمت في تطور المجتمعات والمضي بها قدمًا.
الأخلاق والقانون
لطالما انشغلت الفلسفة بالأخلاق كأحد أهم المباحث التي أرهقت الفلاسفة على مدار قرون، وكانت من أكثر الموضوعات التي شهدت اختلافات كبيرة بين المفكرين والفلاسفة، فلم يكُن يجرؤ على الخوض فيها إلا قليلون، لما تمثله الأخلاق من أهمية قصوى لبنية المجتمعات.
ومن جانب آخر، فإن الأخلاق كانت دائمًا من أكثر المباحث حساسية، وذلك بسبب موضع الأخلاق التأسيسي في بنية المجتمع. فمن المستحيل أن يجتمع مجموعة من البشر في مكانٍ واحد بهدف الإقامة وممارسة الأعمال الحياتية دون أن يحددوا ويتفقوا على مفاهيم الخير والشر التي من خلالها يتم ترسيم الحدود الفاصلة للحقوق والواجبات داخل كل مجتمع بالطريقة المُثلى للفرد والجماعة.
وقد اختلف الفلاسفة كثيرًا على أصل الأخلاق، فردّها بعض الفلاسفة إلى العقل، أي أنها مرتبطة بقوانين العقل الخاصة بالبداهة، وذلك ما جعلها مثالية ومفارقة، وقام آخرون باستنباطها من العلاقات الجدلية بين مكونات المجتمع في إطار براجماتي نفعي وهذا ما جعل الأخلاق مادية ومحايثة، وتلقّى آخرون الأخلاق من مصادرها الدينية بوصفها مُستلَمة مباشرة من الإله ذاته.
وعلى مدار التاريخ، يمكننا أن نراقب بشكل واضح حركة تطور الأخلاق التي كانت مرتبطة بالحالة السياسية والاقتصادية للمجتمعات. فعلى نهج الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الذي قام بتقسيم الأخلاق إلى أخلاقٍ للسادة وأخرى للعبيد، وقام بتفسير منشأ كل حزمة من الأخلاق على أساس طبقي واجتماعي، فكل طبقة من المجتمع اختارت لنفسها المنظومة الأخلاقية التي تخدم مصالحها، يمكننا أن نرى من خلال تلك المنهجية في التفسير قدرة الأخلاق على التغيُّر والتشكُّل باستمرار على حسب البيئة السياسية والاجتماعية والظرف التاريخي المقترن بكل حالة على حدة. وهذا ما كان يشغل الفلاسفة دومًا في كل الحقب التاريخية، إما بالتفسيرِ والشرح أو بالعملِ أو الطرح.
ومع تطور المجتمعات ووصولها إلى نظم الدول الحديثة القائمة على الدساتير، ظلت فلسفة الأخلاق محتفظة بمكانتها ذاتها في الأهمية والحساسية. فبدون التأسيس الفلسفي الأخلاقي لمفاهيم الخير والشر الذي يحيلنا إلى مفاهيم العدل والظلم، لا يمكننا أن نحدد المنظومات القانونية بشكل مقبول. فالدساتير الحديثة هي مؤسسة أصلًا على المبادئ العالمية لحقوق الإنسان التي كانت منتجًا من منتجات مبحث الأخلاق في الفلسفة الحديثة. وعلى ضوء ما ذكرناه سابقًا عن التفسير النيتشوي لأصول الأخلاق، يمكننا أن نستنتج الحركة الدائمة والمتغيرة لمفاهيم الأخلاق، وما يمكن أن تؤثر عليه تلك التغيرات في النطاق العملي المُتمثّل في الدساتير والقوانين.
وفي ظل تلك الحالة التي تعيشها المجتمعات بشكلٍ عام على مستوى العالم، والتغيُّرات السياسية والاجتماعية التي تسيطر على المشهد الراهن العالمي من احتجاجات في العديد من الدول الأوروبية اعتراضًا على النظم الاقتصادية التي ترفع من شأن العمل وحركة الإنتاج في مقابل الإنسان وقيمة الإنسانية، وذلك تزامنًا مع صعود تيارات اليمين في أوروبا وأمريكا بشكل لم يشهده العالم منذ عقود عديدة، تجد بنية المجتمع الغربي نفسها في أزمة أخلاقية جديدة – باعتبار الأخلاق أساس أي تغيُّر على المستوى السياسي والاقتصادي – لا مناص من البحث عن حلٍ لها يعيد الاستقرار إلى الحياة على كافة الأصعدة. يتمثل ذلك الحل في مراعاة المدخلات الجديدة التي طرأت على المشهد العالمي ومحاولة دمجها في نظامٍ يسع الجميع بشكلٍ عادل، هو ما كان وما زال من المباحث التي تختص بها الفلسفة.
فلسفة العلم
مع تطور العلم بداية من منتصف القرن التاسع عشر تطورًا كبيرًا أخذت الفلسفة تنفصل تدريجيًا عن العلم، وبدأ العلم يأخذ مساراته واتجاهاته بمعزل عن الفلسفات النظرية القديمة. ولكن ما لبث وأن اقتحمت الفلسفة ذلك المضمار أيضًا ببراعة كبيرة، وحتى وإن بدا للبعض أن ذلك يعتبر وجودًا غير مرحب به، ولكن ذلك الاعتقاد ما هو إلا نتيجة لقلة المعرفة بأهمية الفلسفة وعلاقتها بطبيعة العلم.
ظهرت إرهاصات فلسفة العلم مع الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون الذي أراد أن يحدد طبيعة المعرفة العلمية. يرى بيكون أنه عندما يبدأ عالم في دراسة ظاهرة ما فإنه يقوم بجمع الأمثلة أو الشواهد التي ترتبط بتلك الظاهرة ويقوم بجمعها معًا ودراسة العلاقة التي تجمع تلك الشواهد بعضها ببعض، وعندما تتراكم الأمثلة والشواهد على ظاهرة ما تقوم بتكوين نسق علمي.
وقد اتفق عديد من التجريبيين الإنجليز على تلك المنهجية، إلى أن جاء ديفيد هيوم الذي قام بنقد الآليات القديمة لنظرية المعرفة. فقد تحسس هيوم مشكلة الاستقراء وأخرجها إلى النور، ومفادها أن عدد المشاهدات والملاحظات لظاهرة ما حدثت في الماضي لا يقتضي بالضرورة حدوثها في المستقبل مهما زاد عدد مرات تكرارها. فنحن يمكننا فقط أن نتوقع إمكانية حدوثها في المستقبل، ولكن ليس من الضروري حدوثها، وأن ذلك التوقع ينتمي إلى علم النفس وليس إلى المنطق، إذ إنه لا توجد حجة برهانية تثبت أن الحالات التي اختبرناها تشبه بالضرورة تلك التي لم نختبرها بعد.
تلك الصفعة القوية التي وجّهها هيوم لنظرية المعرفة لم تؤثر على فلسفة العلم فحسب بل على الفلسفة برمتها، فلن نبالغ إذا قلنا إن المدرسة المثالية الألمانية وعلى رأسها إيمانويل كانط جاءت نتيجة للنفق المظلم الذي أدخل فيه هيوم الفلسفة. ولكن، ما أهمية ذلك للعلم نفسه؟
العلم بطبيعة الحال يهدف لتفسير العالم المحيط بنا وحل ألغازه ومشكلاته المادية، ولكن يتعيّن في البداية على العلم أن يعرف ما هو علمي وما هو غير علمي لكي يتوصّل إلى المضمار الذي ينبغي عليه أن يسلكه، فللعلم منهجيته التي لا يحيد عنها والتي تقوده إلى الطريقة المُثلى للبحث والتقصي والتي تنتهي في النهاية إلى إجابات وحلول، وقد ساهمت الفلسفة من خلال تاريخها الطويل المرتبط بمبحث الإبستمولوجيا أو نظرية المعرفة في تطوير مفهوم العلمي وتحديد مساراته.
فقد ارتأى تلاميذ وأتباع فرويد أن نظريته في التحليل النفسي ترتفع إلى منزلة المنهج العلمي، ولم تقتصر محاولة توسيع رقعة العلمي على ذلك، بل إن فريدريك إنجلز قال بأنه إذا كان داروين اكتشف نظرية تطور الكائنات، فإن ماركس قام باكتشاف نظرية تطور المجتمعات، في محاولة لوضع النظرية الماركسية في مصاف النظريات العلمية. غير أن ذلك لا يعد أكثر من تفكير رغبيًا يحاول الزج بما هو غير علمي داخل الإطار العلمي زجًا.
وبالطبع لو أن تم القبول بتلك النظريات بكونها تنتمي للمنهج العلمي كان ذلك سيعطل مسيرة التقدم العلمي بشكل لا ريب فيه، فما الذي قد يمنع الأساطير والخرافات في المستقبل من أن تنضم إلى واجهة العلمي لو لم يتم تحديد ما هو علمي بشكل دقيق؟ وأننا سوف نجد هنا أن من قام بالتصدي لتلك المحاولات كان الفلاسفة وليس العلماء أمثال كارل بوبر ولودفيج فيتجنشتاين وغيرهم من خلال وضع شروط ومقولات دقيقة يتعيّن على القضية التي بصدد الحكم أن تتفق معهم حتى يمكننا أن نطلق على تلك القضية صفة العلمي.
ولم تنتهِ مسيرة فلسفة العلم إلى ذلك فحسب، فمع تربع تقنيات الذكاء الاصطناعي على عرش الساحة العلمية في شتى مجالاتها، تجد الفلسفة نفسها أمام تحديات كبيرة تصنعها محاولة الإنسان لخلق ذكاء أشبه بذكاء البشر، ونتيجة للنجاح الملحوظ التي شهدته تقنيات الذكاء الاصطناعي مؤخرًا والذي بات يهدف لمزيد من التقدم في طريق تحقيق ذكاء مطابق للبشري تُعاد طرح الأسئلة الفلسفية القديمة بشكلٍ جديدٍ تمامًا.
فعلى سبيل المثال، هل يجب أن نضع في الإنسان الآلي أنماطًا وتعريفات مسمطة للخير والشر يتوجّب عليه التصرف إيذاءها بشكلٍ صارم، أم من الأفضل وضع آلية للتعلم فقط كمحاكاة لحرية الإرادة وأن نتركه يتعرّف ويحدد الخير والشر بمفرده؟ وكيف يمكن أن نحدد تلك الآلية بشكلٍ دقيق؟ وماذا لو أن وقع الاختيار على الشر وأصبح الذكاء الاصطناعي شريرًا؟ وهل إذا قمنا ببرمجة الذكاء الاصطناعي على الخير جبرًا فكيف لنا أن نطلق عليه ذكاءً وهو لا يملك حق التفكير والاختيار؟ وكيف لنا أن نجعله يفكر ويختار دون أن يعي وجوده في الأساس؟ وما هو الوعي؟ كل تلك الأسئلة الكلاسيكية أُعيد طرحها من جديد ولكن من منظور آخر، فبعد أن كان الإنسان يطرحها عن ذاته بصفته موجود، أصبح الإنسان يطرحها في محاولة لأن يصبح هو الواجد.
في النهاية، يمكننا أن نرى الآن الصورة بعدما أضحت أكثر وضوحًا. إن كل ذلك الزخم الذي نعيشه في شتى مجالات الحياة لا يجد مناصًا من الاستعانة بالفلسفة وبدورها وإرثها وماضيها وحاضرها من أجل محاولة لن تكون الأخيرة لفهم ذواتنا ولفهم ذلك الكون العظيم الذي نعيش فيه.