لماذا نحب مشاهدة القتلة المتسلسلين؟
في سبتمبر الماضي، عرضت منصة نتفليكس مسلسل Monster: The Jeffrey Dahmer Story، الذي يتناول قصة القاتل المُتسلسل الأمريكي «جيفري دامر»، الذي قتل 17 شخصاً بين عام 1978 و1991، وخلال مسيرته الإجرامية مارس على ضحاياه طقوس مُروعة مثل الكانيباليزم «أكل لحوم البشر» و النيكروفيليا «مُضاجعة الموتى»، والتحنيط.
بقدر الترويع الذي تحمله قصة «جيفري دامر» إلا أنه بمجرد عرض المسلسل حقق نجاحًا باهرًا، جعله يتصدر القوائم باعتباره ثاني أكثر المُسلسلات مُشاهدة بمُعدل 701.4 مليون ساعة بث خلال شهر واحد!
لا تُمثل حالة مسلسل دامر استثناء إنما امتداد لولع حقيقي لشريحة كبرى من المُتلقين بتلك النوعية من العروض، تُشير الإحصائيات لشهر أكتوبر 2022 أن واحد من كل أربعة أفراد في الولايات المُتحدة يُعرف نفسه أنه مُتابع مُخلص لإنتاجات السينما والتلفزيون عن القتلة المتسلسلين.
يُحاول هذا المقال تحليل أسباب ولع المشاهدين بعروض تحوي جرعة مضاعفة من الرعب بسبب واقعيتها، أبطالها ليسوا مصاصي دماء أو وحوشًا تنتمي لعوالم متخيلة ندرك بالمنطق قدر استحالة قدومهم لواقعنا، بل سفاحين وُجدوا بالفعل في هذا العالم ولا تزال عائلات شتى تعاني أثر ما فعلوه.
النهاية السعيدة
في عام 1995، قدم «ديفيد فينشر» تحفة se7en، الذي يتناول قصة قاتل متسلسل يقتل ضحاياه تبعًا لارتكابهم إحدى الخطايا السبع المميتة في المسيحية.
في كواليس هذا العمل دارت معركة إبداعية بين الأستوديو والكتاب والمخرج حول النهاية المثلى للفيلم، كتبت نهايات شتى، نهايات سعيدة فيها ينتصر المحققون على المجرم المريض بسجنه، وإنقاذ ضحيته الأخيرة، لكن النهاية التي وجدت طريقها للخلود السينمائي كانت نهاية سوداوية، فيها انتصر مخطط المجرم السيكوباتي رغم موته في النهاية، يقول ديفيد فينشر:
في كتابه why we love serial killers، يقول بروفيسور الإجرام «سكوت بون» أننا لا نقاوم مشاهدة تلك الحكايات لأن الرعب والترويع فيها يحرر هرمونات مسكرة مثل الأدرينالين والأندروفين، نتطهر بمعايشة مأساة لم تحدث لنا، بالتماهي مع الخطر والشر لكن من مسافة آمنة، وعندما يصل تعقيد الحبكة لذروتها نتحرر أخيرًا عندما تحدث النهاية السعيدة، ويتم الإمساك بالقاتل، تلك هي الضمانة الوحيدة أن لعنة وشرور ما شاهدناه لن تتبعنا للمنزل.
تخبرنا تلك الحكايات عن شرور حقيقية مروعة يرتكبها أناس يبدون لطفاء، قد يكونون جيراننا أو شخصًا يعبر الطريق بجوارنا، لكنها تُعيدنا بعد حافة الهاوية لحدود آمنة فيها دومًا القاتل مهزوم.
يقول «جون دوغلاس» مُبتكر مُسلسل mindhunter، الذي يتناول رحلة الإف بي آي في توثيق اعترافات القتلة المتسلسلين لتكوين منهجية علمية للقبض على أشباههم مُستقبلًا، أن تلك الأعمال تُقدم إطارًا آمنًا، يُمكننا أن نستمتع بمُشاهدة الرعب كما لا نقاوم إشاحة النظر عن حادث سير وجثث مضرجة بالدماء على قارعة الطريق، يمكنك مغادرة الحادث بخوف أنك قد تتعرض لحادث يومًا، أما المسلسل سوف تغادره بطمأنينة أن القتلة يتحدثون من خلف الأسوار.
لهذا يظل فيلم «se7en» فريدًا من نوعه وسط أفلام الجونرة لأنه يصطحب المُتلقين الذين يشاهدونه منذ صدوره وحتى اليوم نحو الحافة، ثم يُحطم بقسوة شبكة الأمان التي نتوقعها، ويتركنا في العراء مع أبطال مهزومين وقاتل منتصر رغم موته، ورُعب من شر أفلت من عقاله، لم تنتصر عليه السينما ولم تمنحنا طمأنينة أننا لن نكون ضحايا له يومًا.
التفسير
في فيلم «dark knight»، يُقدم «كريستوفر نولان» شخصية «الجوكر» باعتباره قاتلًا متسلسلًا وجماعيًا في الآن نفسه، الثقل المرعب لتلك الشخصية أننا لا نعلم أبدًا دوافعها، يقوم الجوكر بمهارة بتشتيت المُتلقين في قصص مُتخيلة عن أصل ندوبه ودوافعه، لكن حتى نهاية الفيلم لا نعلم أبدًا منشأ مأساته، لا يتبقى لنا سوى قول الخادم «ألفريد» المُشفق، أن بعض الرجال يودون أن يروا العالم يحترق وحسب.
يقول الباحث «ديفيد شميت»، إن الوثائقيات التي تتناول القتلة المتسلسلين، تستعير أدوات السينما في السرد والحبكة لتجعل القصة الحقيقية أكثر تقبلًا للجمهور، يستعير رواة الواقع السينما لمُحاولة خلق معنى للمأساة المروية.
يُتابع الجمهور بشغف كل حكايات القتلة المتسلسلين السينمائية أضعاف ما يُتابع الوثائقيات، أملًا أن تُطبق السينما قاعدتها وهي أن الخيال لا بد أن يكون منطقيًا، ربما تُسلط تلك الحكايات الضوء عن سبب وجود هؤلاء القتلة، وعندما يصير الأمر منطقيًا يمكن إيجاد وصفة للنجاة منه.
في القصة الحقيقية للسفاح «جيفري دامر»، نجده يُطبق بنفسه تلك القاعدة، قتل دامر أول ضحية له عام 1978، ثم حاول مرارًا اللجوء للكنيسة والكُتب للتخلص من ميوله الإجرامية لكنه بعد 9 سنوات قتل ثاني ضحية له ومن وقتها تتابع عدد الضحايا بلا توقف، لجأ دامر في ذروة فورته الإجرامية لأفلام مثل exorcist 3، الذي يُقدم تيمة القوى الشيطانية التي تستحوذ على أبرياء فتسكنهم الشياطين، وأفلام مثل star wars، حيث افتتن بشخصية الإمبراطور «بالباتين» الذي رآه ينتمي للظلام ويُجيد السيطرة على العقول.
إقتبس «دامر» من تلك الشخوص العدسات الصفراء التي ميزت مظهره، حاول «دامر» اللجوء للسينما ليفسر دافعه القهري للقتل، باعتباره مطرودًا من الكنيسة والرحمة وضحية قوى شيطانية مثل شخوص تلك الأفلام. وبحث في الشخوص نفسها عن إلهام ليسيطر على تلك القوى الشيطانية بداخله ويتسيدها ولو جعله ذلك ينتمي لعوالم الظلام
وصفة نجاة
تقول إريكا ميسنر المنتجة التنفيذية لمسلسل criminal minds الشهير بعلماء التحليل السلوكي الذين يحاولون تحليل أساليب القتلة وفهمهم من أجل القبض عليهم، أنها على مدار سنوات المسلسل تلقت رسائل لا تحصى من المشاهدين المُمتنين لذلك العمل لأنه علمهم كيف يُمكنهم أن يتصرفوا لو كانوا يومًا ضحايا في شباك قاتل مٌتسلسل.
يقول الباحث Coltan Scrivner إن غرام المشاهدين بأفلام القتلة المتسلسلين يجد جذوره في علم نفس التطور، في الغابة كل الفرائس تمتلك المهارات اللازمة للفرار من المفترسين، لكن على مدار آلاف السنين كونت حيوانات مثل الحمير والبقر الوحشي معرفة غرائزية بعادات وأنماط الأسود والنمور، تلك المعرفة تكونت عبر المُخاطرة بالاقتراب والمراقبة لتلك الحيوانات الصيادة، لكنها في النهاية جعلت تلك الفرائس أكثر ذكاء في الهروب المُسبق من تلك الحيوانات.
يقول «كولتان» إن البشر يلجأون لتلك الأفلام بالفضول المرضي نفسه، الرغبة في الاقتراب من أعمال تُحلل بالتفصيل هؤلاء القتلة، ثم تمنحنا معرفة ذكية يُمكن أن تكفل لنا النجاة يوم صادفنا أحد هؤلاء السفاحين، يُسمي «كولتان» ذلك morbid curiosity أو الفضول المرضي. ورغم مرضيته وأثره على الجهاز العصبي فإنه يمنح المشاهدين إحساسًا بالطمأنينة أنهم يمتلكون أدوات ولو معرفية لمجابهة الخطر في المستقبل
مُتعة اللغز
عندما قبضت السلطات على «جيفري دامر»، قدم اعترافاته كاملة دون مراوغة، عندها سأله محاميه:
يقول الأطباء النفسيون الذين فحصوا دامر إنه رجل قام بصنع عالم خيالي مُحكم ومُعقد ثم أخذ على عاتقه نقله كاملًا للواقع، تلك هي السمة المتعلقة بكل القتلة المتسلسلين.
أغلب جرائم القتل شخصية ومدفوعة بدوافع يمكن فهمها مثل الطمع أو الانتقام أو الشهوة، أما القتلة المتسلسلون فيقتلون أشخاصًا لا يعرفونهم، ما يجعلهم ضحايا هو اتساقهم مع نمط بعينه لا يوجد إلا داخل رأس القاتل، قتل «جيفري دامر» ضحايا آسيويين وسود البشرة وبيض ولاتينيين، ما جمعهم لم يكن العرق بقدر ما هو نمط خفي يمثل نداهة جهنمية للوحش بداخله ليقتل.
ما يفتن المشاهدين دومًا في دراما القتلة أنهم لن يشاهدوا قصة معادة من قصص الجرائم، يحلها المُحقق مثل شيرلوك هولمز بتتبع دليل تركه القاتل أو بصمة، إنما لا بد أن يتسم المحقق بالقدرة على التقمص، على تعريفنا بالمتاهة داخل عقل القاتل وولوجها، لذا يتسم المحقق في تلك الأعمال بتعقيد بديع، بدءًا من شخصية «سومرست» في فيلم «se7en» الذي دفع ثمن براعته في القبض على السفاحين بالزهد في حب العالم أو الزواج أو إنجاب طفل لعالم يحوي وحوشًا كهؤلاء.
بينما «ويل جراهام» و«كلاريس» في قصص «هانيبال» يُمثلون معضلة الفيلسوف «نيتشة»، أنك لو اقتربت من حافة الهاوية وحدقت، ستبادلك الهاوية التحديق، كلاهما عانى كثيرًا من خطر الاقتراب و تقمص نفسية هانيبال لدرجة جعلتهم في لحظة ما أقرب للقاتل منهم للمحقق، تلك المتاهة النفسية والمرور عبر جحيم التقمص وصولًا لفهم القاتل هو ما يجعل تلك القصص ملاحم نفسية أكثر تعقيدًا بكثير من الألغاز البوليسية وأكثر متعة للمشاهدة
وحوش وآلهة لا تشبهنا
خلال إعداد كتابه، قام البروفيسور «سكوت بون»، بتحليل مقالات «نيويورك تايمز» عن القتلة المتسلسلين منذ الخمسينيات وحتى عام 2013، وجدت النتائج أن كلمات مثل «وحش» و«شيطان» احتلت أكثر من 35% من مضمون المقالات. فسر البروفيسور ذلك برغبة لا واعية بداخلنا عند مقاربة وتحليل أفعال القتلة المتسلسلين لطردهم من صحبتنا البشرية، هم وحوش، شياطين، قادمين من خارجنا، لا يُشبهوننا، يُطمئننا ذلك أننا كبشر لا نمتلك جانبًا مظلمًا، أننا يُمكن النظر لأصدقائنا وأحبائنا ونحن مطمئنون أنهم لن يتحولوا دون منطق أو إنذار لقتلة. فالقتلة وحوش قادمين من الخارج لترويع حكاياتنا، هذا الشر لا يحتاج لفهمه أو الاقتراب منه، لا يحتاج الوحوش إلا قتلهم كما نقتل دبًا قادمًا من الغابات لقرية آمنة. (لهذا نجد تسمية مسلسل دامر مسبوقة بكلمة monster وحش)
تعمل تلك الآلية اللاواعية في الاتجاه الآخر، تخلع الأعمال الدرامية على القتلة المتسلسلين قُدرات خارقة ترفعهم من مصاف الوحوش البدائية للآلهة المتحكمة، مثل «هانيبال ليكتر» الذي يتمتع بقدرة نفسية خارقة على سبر أغوار من حوله والتلاعب العقلي والنفسي بهم. والقاتل «زودياك» الذي يُرسل ألغازًا أعقد من قدرة الشرطة على حلها مُخلدًا حضوره باعتباره القاتل المٌتسلسل الوحيد الذي لم تُمسك به الشرطة حتى اليوم. الذي خلد حضوره في أفلام مثل زودياك وشخصية «ريدلر» المقتبسة بالكامل من زودياك في نسخة «مات ريفز» من باتمان
تعمل الدراما في الاتجاهين، تحويل القتلة لوحوش أو آلهة وفي كلتا الحالتين، هم لا يشبهوننا، ولا نحتاج لتحليلهم إنما للانتصار عليهم، بينما في الحقيقة تبعًا لجامعة رادفورد، لا يجاوز معدل ذكاء القتلة المتسلسلين 89 وهو أقل من المتوسط، لذا هم ليسوا آلهة خارقة، وبالنسبة للوحشية، كان «جيفري دامر» في رواية جاره، شاب لطيف أعاره يومًا 60 دولارًا ليشتري هدية زفاف أخته، وكان «تيد باندي» خلف هالته كسفاح قتل أكثر من عشرين امرأة، عضو ورع في كنيسة المورمون وتظاهرت كنيسته يوم التحقيق معه دفاعًا عنه
نُسخة متوحشة من البطل الخارق
يقول الباحث «ديفيد شميت» إن القتلة المتسلسلين في طيف منهم يمثلون مقلوب البطل الخارق، يشتركون مع الأبطال الخارقين في مداعبة غرائز المشاهدين السرية في الحياة خارج القيود الأخلاقية والقانون، يحققون عدالتهم ومُتعتهم بأنفسهم.
كثيرًا ما يضطر الأبطال الخارقون للقتل وللوحشية وللحياة وفق كود يخصهم وحدهم، تتشابه تلك السمات بقلق مع القتلة ، ويمكن أن نجد أعمالًا تلفزيونية تناولت بخفة ذلك الخيط الرابط بين القاتل المتسلسل والبطل الخارق مثل «ديكستر».
تمثل أفلام القتلة في ذلك السياق، مساحة آمنة لمشاهدة نسخة سوداوية من الأفلام الخارقة، نتتبع فيها ما يُمكن أن يفعله الإنسان في أقصى نسخه وحشية و إخلاصًا لغرائزه.
يقول القاتل الشهير «تيد باندي» أنه لم يمتلك يومًا ميكانيزم الشعور بالذنب، لم يشعر يومًا بالندم أو الشفقة تجاه ضحاياه، بينما يقول «جيفري دامر» إنه لم يفهم يومًا ما يعنيه الحب وكيف يُمكن أن تُحب إنسانًا كفاية ليختار هو أن يبقى جوارك، لم يجد دامر إبقاء البشر حوله إلا بتخديرهم وقتلهم والاحتفاظ بجماجم عشاقه، ثم مُحاولة ثقب جماجم ضحاياه بمثقاب كهربي لتحويلهم لزومبي فاقد الإرادة يبقى معه دون مُغادرة، يعتقد كثيرون أن المشاعر البشرية مثل الندم والذنب والحُب تشوش اختياراتنا وتجعلنا أضعف من مواجهة العالم بينما يُقدم القتلة المتسلسلون نسخة واقعية مما يُمكن أن يكون عليه الإنسان من دون تلك الكوابح الشعورية والهشاشات النفسية، فالقاتل في صورة منه هو الإنسان خلوًا من مشاعره.
تبعًا لمكتب التحقيقات الفيدرالي، ففرص موتك على يد أحد أفراد أسرتك هي 12% بينما فرص موتك على يد قاتل متسلسل لا تجاوز 1%، ومع ذلك يفتننا القتلة بالخارج ويخيفوننا أضعاف ما يفعل الأشخاص الذين نعرفهم، لأن في انعكاسهم نخلق وصالًا مع الجانب المُظلم في بشريتنا الذي نخشى حتى الاعتراف بوجوده، نحاول ترويضه بمشاهدة أفلام تمنحنا نهاية سعيدة أو تفسيرًا أو وصفة نجاة أو وحشًا دمويًا يسخر سيكوباتيته لصالح الخير، يحاول البشر عبر الفن وصال الشر في مساحة آمنة وجعله يعمل لصالحنا بدلًا من أن نكون ضحاياه في الواقع.