لماذا نصوم؟
تحدثنا في مقالنا السابق عن أهداف الأعمال ونواياها، وأن الأعمال دون أهداف ونوايا نوع من العبث ينبغي أن يتنزه العقلاء عنه، ولكن يطرأ لنا هنا سؤال مهم هو: ما الهدف من الصيام؟ ولماذا شرع الله، تعالى، هذه العبادة الجليلة؟
في هذه السلسلة من المقالات نحاول تأمل بعض الحكم والمقاصد من وراء عبادة الصيام، لكن لا أظن أحدًا يستطيع تقديم إجابة حاسمة قاطعة في إجابة سؤال لماذا شرع الله الصوم، ودعونا نحاول جهدنا في ذلك، والله المستعان على كل حال.
في البداية يجب أن ننتبه لارتباط هذا السؤال بسؤال أكبر هو: لماذا أمرنا الله بعبادته؟ أو لنرجع خطوة أخرى إلى الخلف متسائلين: لماذا خلقنا الله؟
وسؤال لماذا هنا كأنه يسأل عن أمرين في آن واحد، فالأمر الأول، متعلق بهدف ربنا من خلقنا، والثاني، متعلق بالمهمة المطلوبة منا والمهمة التي علينا القيام بها؟ وللتقريب نحاول تخيل الأمر بسؤال أحد الموظفين في شركة ما مديره قائلًا: لماذا نقلتموني إلى هذه الإدارة الجديدة؟ فهو هنا يسأل عن هدف المدراء أو أصحاب القرار في الشركة من نقله، كما يسأل عن المهمة التي يتوجب عليه القيام بها في هذه الإدارة الجديدة. فإذا قيل له مثلًا، إن الإدارة ارتأت تكليفك بهذا العمل الجديد لاهتمامها بتطوير هذا القسم أكثر من القسم الذي كنت فيه مسبقًا، فهذا جواب السؤال الأول، وهنا ينتقل العامل للسؤال الثاني وهو الدور المطلوب منه في هذا القسم الجديد.
ولله تعالى المثل الأعلى، لكن الأمر قريب من ذلك، فصاحب هذا السؤال يبحث عن هدف لله تعالى، أو يبحث عن هدف نفسه، فإن كان الأول فنقول له: إن الله، تعالى، منزه عن البواعث والأغراض، فلا يصح أن نسأل عن هدف لله تعالى، وإن كانت كل أفعاله، سبحانه، لحكمة عظيمة، ولكنه «لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ»، [سورة الأنبياء: آية 23]، لذلك لا يصح ولا يجوز سؤاله عن أفعاله لماذا فعلها، فإن حكمته تجل عن إدراك المدركين وفهم الفاهمين، ولن يحيط بحكمة الله، تعالى، أحد من الخلق أبدًا، فهذا مقام فوق مقامهم، ورتبة تفوق رتبتهم، ولكنهم قد يفهمون بعض الحكمة بما يفتح عليهم من أبواب الفهم، بكتابه، أو بسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، أو بتأملات قلوبهم المسترشدة المستعينة المستفتحة بالله تعالى مغاليق الأمور، ولكن ذلك لا يكون أبدًا بتبجح المتبجحين ولا بعناد المعاندين.
نعود إلى سؤال: لماذا خلقنا الله؟ فنقول: إذا كان المراد بالسؤال معرفة الدور المطلوب منا لنؤديه فإن الله تعالى قد أخبرنا في كتابه الكريم بإجابة هذا السؤال، فقال عز من قائل: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ». [سورة الذاريات، 56 : 58]. فالمهمة الأساسية المطلوبة من الإنسان في هذه الحياة هي أن يعبد الله تعالى حق العبادة، بقدر طاقة العبد واستطاعته، مع اليقين التام بأن الله تعالى لم يخلقنا ليستأنس بنا من وحشة ولا ليستكثر بنا من قلة ولا ليستعين بنا على أمر عجز عنه – حاشا وكلا – ولكن خلقنا لنعبده كثيرًا، ونذكره كثيرًا، ونسبحه بكرة وأصيلًا.
وقد أخبرنا ربنا، سبحانه، بهذا في الحديث القدسي فقال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليلِ والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إِنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجرِ قلب واحد منكم ما نقص من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عِبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه»[1].
فالمنتفع بالعبادة والطاعة هم العباد، إذ رب العباد غني، قال سبحانه عن ذبائح الهدي التي يقدمها الحجيج: «لَن يَنَالَ اللَّـهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ». [سورة الحج، أية:37].
وما يقال في الحج والهدي يقال في الصلاة والصوم وغيرها من العبادات والطاعات، إنما شرعها الله تعالى ليبتلي العباد ويختبرهم أيهم أحسن عملًا، لا تزيد الطاعة في ملكه سبحانه، ولا تنقص المعصية من قدره عز قدره وجل ثناؤه ولا إله غيره، فسؤال لماذا خلقنا الله؟ جوابه: خلقنا لنعبده. وسؤال: لماذا نعبده وهو الغني عن عبادتنا؟ جوابه: لأننا فقراء محتاجون إليه، خلقنا من العدم، وأمرنا فنطيع ونمتثل ونعمل ونلتزم، وقد وعدنا إن فعلنا ذلك أن يدخلنا الجنة بمحض فضله وكرمه وجوده سبحانه.
وعليه فالهدف الأصلي من أي عبادة هو ابتغاء رضا الله تعالى بالاستجابة لأمره والانتهاء عما نهى عنه، وبذلك يكون جوابنا عن سؤال: لماذا تصومون؟ هو أننا نصوم فقط لأن الله أمرنا بالصيام، إنه أمر تعبدي محض، لا أكثر ولا أقل.
إننا لا نصوم لأن الصيام مفيد للصحة (من باب قولهم: «صوموا تصحوا»، وهو حديث ضعيف بالمناسبة).
ولا نصوم لكي نشعر بالفقراء وإلا فلماذا يصوم الفقراء لو كان هذا الأمر هو سبب الصيام؟!
وكذلك لا نصوم لنعود أنفسنا على اتباع حمية صحية، ولا تخلصًا من السمنة وطلبًا للرشاقة، لا نصوم لشيء من ذلك ولا لغيره من أغراض الدنيا، وإنما فقط لأن خالقنا أمر بذلك فوجبت علينا الطاعة فنطيعه ونمتثل أمره، أما هذه الأمور الأخرى فقد تكون من الحِكَمِ المقصودة في الصيام، لكنها ليست عللًا يتوقف الحكم عليها بحيث تتعطل الأحكام إذا لم توجد عللها، وهذا فارق مهم بين «العلة» و«الحكمة» حسب ما يقول أهل أصول الفقه.
وأما أجل حكمة لتشريع الصيام فقد ذكرها ربنا، سبحانه وتعالى، في الآية التي أمر فيها بالصيام فقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». [سورة البقرة: 183]
إذن فالتقوى هي المقصد الأكبر من الصيام، أن تستجيب لأمر الله تعالى بعبادة سر لا يطلع عليها أحد، فيختلي العبد بطعامه أو بشرابه ثم لا يقربه امتثالًا لأمر ربه فهذه هي التقوى التي هي ثمرة الصيام وغايته، فمن بلغها بلغ كل خير، ومن فقدها فقد كل خير.
* مرة أخرى، لماذا نصوم؟
– لأن الله أمر فنحن نطيع.
* وهل للصوم حكم ومنافع في الدنيا؟
– نعم.
* هل يجوز لي أن أقصد بصيامي تحقيق منافع الدنيا بالإضافة إلى منافع الآخرة؟
– نعم، لا بأس في ذلك، وقد شرحنا الأمر في المقالة السابقة «لماذا تفعل ما تفعل؟».
* ما هذه الحكم الدنيوية التي يحققها الصيام؟
– هي كثيرة، وتتفاوت العقول والقلوب في إدراكها، غير أنا نجتهد بقدر وسعنا في التأمل والفهم ثم الشرح والتوضيح، وقد وضحنا بعضها في المقالات الثلاث الأولى من هذه السلسلة، ونواصل محاولاتنا في المقالة المقبلة بإذن الله تعالى وعنوانها: «لماذا يعيش اليابانيون طويلًا؟»، ونسأل الله تعالى الفتح والعون والتيسير.
[1]: حديث صحيح، رواه الإمام مسلم في صحيحه.