لماذا نفشل في التعاطف مع الآخرين في أغلب الأحيان؟
في كتاب «الحضارة التعاطفية» The Empathetic Civilization، يقدم الكاتب «جيريمي ريفكين»، مبرراته وحججه المتعلقة بوجود حضارة مترسخة في الوعي الإنساني تتسم بالتعاطف وفهم الآخر، وهو بذلك يرفض الافتراض القائم والسائد بأن المصلحة الذاتية والجشع القوى المهيمنة بين البشر، ويصف ريفكين الدوافع القوية التي تدفعنا باتجاه تعاطف أكبر تجاه الآخرين، مثل تأثير مجتمع المعرفة والتحضر الإنساني الذي اتسم به العصر الحديث، وضرورة التعاون لحكم عالم معقد، خاصة في ظل وجود تهديد واقعي لعدة قضايا في الوقت الحاضر، تعمل على تهديد المصير المشترك للجنس البشري، مثل ظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ والأوبئة.
ولكن في نفس الوقت يبدو أن هذه الاتجاهات المتفائلة، تتسم بتأثيرها الضئيل على نزاعات رئيسية ومستمرة على الساحة، مثل النزاع الممتد بين الإرهابيين الراديكاليين والغرب، وحتى النزاع القائم بين الديمقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة الأمريكية. فما الذي يحدد مقدار التعاطف الذي نشعر به للآخرين من حولنا؟
الشفقة مقابل التعاطف
فيما يتعلق بالتعاطف تجاه الآخر، ينبغي توضيح الفرق بين مفهومين، قد يتداخلان في التفسير والفهم في إطار العلاقات الاجتماعية والنفسية، وهما مفهوم الشفقة Sympathy ، ومفهوم التعاطف أو التقمص العاطفي Empathy. حيث يعكس الشعور بالشفقة فهم موقف شخص آخر، ولكن يتم النظر إليه من خلال العدسة الخاصة بنا. أي أنها تستند إلى تقديرك لظروف الشخص من وجهة نظرك بشكل سطحي.
بينما في المقابل، فإن التعاطف هو ما تشعر به فقط عندما يمكنك الخروج من نفسك ودخول العالم الداخلي للشخص الآخر، وذلك دون التخلي عن وجهة نظرك أو فقدانها، عن طريق الإلمام بظروف وموقف الشخص الآخر بالإضافة لتجربة عواطف أو صراعات أو تطلعات الطرف الآخر من وجهة نظر عالم وظروف ذلك الشخص.
التعاطف مع المواقف والظروف المتشابهة لنا
يتبادر لذهن الكثير منا غالبًا أن الظروف والمشكلات، بل وحتى المواقف التي عايشها غيرنا، ستسهم بشكل كبير في جعلهم يتفهمون أكثر المواقف والظروف التي نمر بها، ببساطة لأنهم عايشوا ظروفًا مماثلة يومًا، ولكن في الوقت الحاضر، ظهرت للساحة عدة أبحاث في علم النفس تُشكِّك في صحة تلك المسلمات، وكان أهمها ما قامت به «الجمعية الأمريكية لعلم النفس»، وهي أكبر جمعية علمية ومهنية للعاملين في مجال علم النفس في الولايات المتحدة وهي كذلك الأكبر على مستوى العالم.
حيث نشرت الجمعية ورقة بحثية عام 2015، تشرح –من خلال التجارب العملية- أن الأشخاص الذين عانوا من تجربة صعبة في السابق ونجحوا في التغلب عليها، من المرجح أن يعاقِبوا بشكل خاص أولئك الأشخاص الذين يكافحون من أجل التعامل مع محنة مماثلة أو على الأقل لا يتعاطفون معهم.
وتضمنت إحدى تلك التجارب اختبار درجة التعاطف تجاه المراهق الذي تعرض للتنمر أو البلطجة، وفي التجربة قيل للمشاركين إمّا أن المراهق المُعتدى عليه كان يتعامل بنجاح مع سلوك البلطجة أو التنمر، أو فشل في التعامل. وكانت النتائج كالتالي: أن المشاركين الذين لم تكن لديهم خبرة مع التنمر في الماضي هم الأكثر تعاطفًا تجاه المراهق الذي كان يتعامل بشكل مناسب مع التجربة. أمّا المشاركون الذين تعرضوا للتنمر في الماضي كانوا الأقل تعاطفًا مع المراهقين الذين فشلوا في التعامل مع التنمر بنجاح.
ولكن لماذا يحدث هذا؟
إن هذه الظاهرة مُتجذرة في حقيقتين نفسيتين:
- الأولى: أن الأشخاص بشكل عام يواجهون صعوبة في التذكر بدقة مدى صعوبة تجربة الماضي المنفردة. على الرغم من أننا قد نتذكر أن تجربة الماضي كانت مؤلمة أو مرهقة، فإننا نميل إلى التقليل من مدى الألم الذي سبّبته لنا هذه التجربة في الوقت الحالي، وتُسمى هذه الظاهرة «فجوة التعاطف».
- الثانية: أن الأشخاص الذين تغلبوا سابقًا على تجربة صعبة بطريقة ما، كانوا قادرين على التغلب عليها بنجاح، تجعلهم يشعرون بالثقة بشكل خاص حول فهمهم لمدى صعوبة الوضع، بالإضافة إلى أن عبارات مثل «لا أستطيع أن أتذكر مدى صعوبة ذلك الموقف» و«أعلم أنني اجتازت الموقف بنفسي» تصور أن الحدث يمكن التغلب عليه بسهولة، مما يُقلِّل من التعاطف مع الآخرين الذين يعانون من الحدث المشابه.
هل يمكن تغيير ما نشعر به تجاه الآخرين؟
إن طبائعنا المختلفة تتسم بدوافع وصفات واتجاهات متباينة، وذلك وفقًا لاعتبارات تتراوح ما بين الوراثة والبيئة المحيطة والظروف والمواقف التي مررنا بها والتي أسهمت بشكل أو بآخر في تشكيل تلك الصفات، ولكن هل يمكن أن تتغير تلك السمات إلى النقيض تمامًا، خاصة تغيير الصفات السيئة وغير المرغوبة اجتماعيًا إلى صفات جيدة، مثل أن يصبح الشخص صالحًا مجتمعيًا ويتمتع بالتعاطف تجاه الآخرين، بعد أن كان شخصًا لا مباليًا وغير متعاطف مع من حوله، أو حتى يتبع سلوكًا يتسم بالعنف.
في هذا السياق يعرض فيلم برتقالة آلية A Clockwork Orange، قصة شاب سفاح يتم إخضاعه لتجربة اجتماعية، فبعد أن يُلقي القبض عليه ويُعهد به إلى عالم النفس (برودسكي)، والذي يقوم بعملية ربط بين رؤية مشاهد عنف والإصابة بمرض جسمي، حيث كان يقوم بإعطائه عقارًا يسبب الاستفراغ، بينما كان يشاهد مناظر عنف على الشاشة، وتمت ملاحظة أن الشاب لم يكره فقط أعمال العنف، بل أيضًا موسيقى بيتهوفن التي كان يتم تشغيلها أثناء التجربة. والخلاصة، أن ما يجعل الإنسان إنسانًا هو القدرة على الاختيار بين الصواب والخطأ، وإذا ما سُلبَت منا تلك الميزة فإننا نفقد إنسانيتنا، وأن مناط ومصدر الصفات الحميدة والشعور بالمسئولية والتعاطف تجاه الآخر إنما يعود إلى الشخص نفسه ومحاولته التحسين والتطوير من نفسه ومجتمعه.