أينشتاين أصاب مجددًا: لماذا نحتفي بصور الثقوب السوداء؟
ثلاث سنوات عقب إطلاق أول صورة لثقب أسود في إبريل/نيسان 2019، وهو الثقب الأسود M87 القابع بمجرة مسييه 87. انفرد فريق عمل تليسكوبات «أفق الحدث» باللقطة مجددًا حين أعلنوا، في 12 مايو/أيار 2022، عن التقطاهم لأول صورة للثقب الأسود الموجود في قلب مجرتنا، درب التبانة، والمُلقّب بـ (Sagittarius A – القوس أ).
لماذا الصورة بكل تلك الأهمية؟
حتى لحظة ما قبل إطلاق الصورة، كانت الشكوك لا تزال تساور الجميع عن ماهية ذلك الجسم الكثيف المتواجد في قلب المجرة، للحد الذي جعل إعلان جائزة نوبل في الفيزياء عام 2020 يأتي مرفقًا بتصريح:
ولم يرد ذكر لكلمة «ثقب أسود» في إعلان الجائزة تحريًّا للدقة العلمية. صحيحٌ أنّ جميع الدلائل أشارت إلى تواجد ثقب أسود وفقًا للأحداث الغريبة التي سُجّلت قرب مركز المجرة، أحداثٍ مثل حركات النجوم في شكل مقلاع/ نبلة حول شيء لا مرئي، بسرعة تقترب من سرعة الضوء، لكننا كنّا بانتظار الدليل المرئي القاطع ليحسم جدالاتنا العلمية.
كيف يبدو الثقب الأسود «القوس أ»/«ساغيتارياس إيه»؟
يقع الثقب الأسود «القوس أ» في مركز مجرة درب التبانة، على بُعد 27 ألف سنة ضوئية، أي 9.5 تريليون كيلومتر من كوكب الأرض، ضخمٌ بما يكفي لاستيعاب كتلة 4 ملايين شمس، ممتد لمسافة 60 مليون كيلومترًا.
وقد جاءت تلك الصورة الفريدة إثر جهود ما يعدو عن 300 باحث في 80 دولة مختلفة على مدار خمس سنوات بأكملها، نتيجة تجميع الكثير والكثير من الصور، فعلى عكس الصورة الملتقطة للثقب الأسود M87، جاءت صورة «القوس أ» أكثر صعوبة، وضاعفت التحديات التي واجهت فريق العمل.
لِمَ يُعدّ تصوير الثقب الأسود «القوس أ» إنجازًا فريدًا من نوعه؟
قد يتساءل البعض حيال المميز في هذا الموضوع؛ ألم نلتقط صورة لثقب أسود منذ ثلاث سنوات؟ والآن نلتقط صورة أخرى لثقب آخر بنفس التقنية المستخدمة التي تربط ثمانية مراصد موزعة بأماكن مختلفة على كوكب الأرض (تضاهي نظريًا تليسكوبًا بحجم الكرة الأرضية)؟
حقيقةً، تتجلى صعوبة الأمر في الآتي:
- نحن أمام نوعين مختلفين من المجرات، تحوي كلٌ منهما ثقبًا أسود مختلفًا تمامًا عن الأخرى، وقد رصد العلماء تشابهًا بين الثقبين في الحواف الخارجية فقط نتيجة خضوعهما لنفس قوانين النسبية العامة في الزمكان. بيد أنهما مختلفان تمام الاختلاف في المواد المكوّنة لهما.
- يعد الثقب الأسود «القوس أ» أقرب إلينا كثيرًا من M87، وتلك نقطة من شأنها أن تُسهّل عملية الرصد لكنها لم تُجدِ نفعًا، فالثقب الأسود «القوس أ» أصغر بنحو ألف مرة من الثقب الأسود الآخر، ولأنّ المواد والغازات التي تدور حول الثقوب السوداء تمتلك السرعة ذاتها، لذا فإن دورانها حول جرمٍ أصغر يُصعّب الأمر.
- الثقب الأسود M87 أكبر حجمًا لذا تستغرق المواد التي تدور حوله من أيام إلى أسابيع حتى تقطع كل تلك المسافة الهائلة، بينما نفس المواد تدور بنفس السرعة -التي تقترب من سرعة الضوء- تستغرق وقتًا أقل لتتحرك مسافة أقل حول الثقب الأسود «القوس أ» فتتم دورتها في عدة دقائق ليس إلا.
- إن سرعة ظهور الغازات أمام الثقب الأسود «القوس أ» كل عدة دقائق تُصعِّب عملية الرصد، إذ تُؤثّر على مدى سطوع الثقب وعلى جودة الصور الملتقطة، الأمر أشبه بالتقاط صورة لرصاصة مسرعة.
- اضطر العلماء إلى تطوير أدوات جديدة ما كانوا ليحتاجوها وقت تصوير M87، فقد كان هدفًا أكثر ثباتًا ظهر بنفس الهيئة في معظم الصور، على العكس من «القوس أ» الذي احتاجوا إلى العمل لـ 5 أعوام من أجل دمج وتحليل أطنان البيانات للخروج أخيرًا بصورة تُكلّل تلك المجهودات.
كيف نرى الثقب الأسود إذا كان يمتص كل الضوء؟
أثارت صورة الثقب الأسود دهشة الناس، إذ شبهّه البعض بـ «الكعكة المحلاة» لكن للصدفة الغريبة فإن حجم ذاك الثقب الأسود مقارنةً بحجم السماء حوله يوازي نفس نسبة حجم كعكة موضوعة على القمر بالنسبة لحجم القمر.
جاءت صورة الثقب الأسود في هيئة حلقة سوداء -تُعرَف بالظل- تُؤطّرها ثلاثُ عقدٍ لامعة من الغاز الساخن لدرجة تريليون. فما تفسير تلك الصورة؟
يأسر الثقب الأسود كل ما يقع بداخله بما في ذلك الضوء، لذلك فهو في أفضل حالاته، لا مرئي. لكنه مع ذلك يحني الزمكان -مصطلح يشير إلى الفضاء ثلاثي الأبعاد والزمن كبعدٍ رابع- حوله، يُمكّن انحناء الزمكان حول الثقب الموادَ من أن تضيء الثقب إذ تبرز تدفقات متوهجة للمواد الممزقة الواقعة داخله، ملقيةً ظلًا أسود اللون هو المنطقة المركزية في الصورة.
يفوق حجم هذا الظل حجم أفق الحدث بنحو ضعفين ونصف، وإذا كنت لا تعرف ما هو أفق الحدث فإنّه الحاجز الذي يحدد امتداد جاذبية الثقب الأسود، فأيًا كان ما يتخطاه فإن الثقب الأسود يبتلعه بلا رجعة.
ما فائدة هذا كله؟
ربما يتحمس البعض حين يقرؤون عن الثقوب السوداء، لكن للأسف تقوم شريحة لا بأس بها بالانتقاص من هكذا إنجاز، متسائلةً عن المنافع التي تعود على البشرية من مجرّد صورة.
في الواقع تُقدّم صور الثقوب السوداء دليلًا لا شكّ فيه على وجود الثقب الأسود، الأمر الذي بدوره يقدّم تطورات لا تُقدّر بثمن في الفيزياء:
1. النسبية العامة
جاءت صورة الثقب الأسود تأكيدًا للتوقعات التي أجراها «ألبرت أينشتاين» قبل 100 عام حيث اتضح أن حلقة الثقب الأسود المميزة كانت كما وصفها بالضبط. كما يوفّر الثقب الأسود مصدرًا للجاذبية المتطرفة، حيث يمكن اختبار صحة توقعات أينشتاين عن سلوك المادة في الظروف المتطرفة، بل والاحتفاظ بصورتها كذلك.
2. معبر لكون موازٍ
تكثر النظريات حيال ما يمكن أن يحدث للإنسان فور عبوره أفق الحدث، كأن يتمزق أو يصير كالإسبجتي، لكن هناك أملٌ لنجاته، أمل وحيد هو عبوره لكون موازٍ آخر. يفترض العلماء أنّ جاذبية الثقب الأسود قوية بما يكفي لتحني نسيج الزمكان للدرجة التي تجعله يلتف حول نفسه. تخيل مصارعي السومو والسجادة تلتف حول أجسادهم، هذا ما يفعله الثقب الأسود بالزمكان.
تفعل كل الأجرام السماوية الشيء ذاته بالزمكان لكن بدرجة أقل كأن تسبّب انخفاض قطعة صغيرة من تلك السجادة الكونية، الثقوب السوداء أكثر الأجرام جاذبية وفي نقطة التفرد -أكثر النقاط جاذبية في الثقب الأسود- تصبح الجاذبية لا نهائية للحد الذي لا يجعل السجادة ملتفة بل يُكوّرها في نقطة واحدة ذات حواف حادة تظل تسقط فيها وتسقط وتسقط… ثم؟
لا أحد يعلم بعد، لكن العلماء لا يستثنون أن تكون بوابتك لعالمٍ آخر.
3. كل الطرق تؤدي إلى الثقوب السوداء
في عام 1974 نشر الفيزيائي الراحل «ستيفن هوكينغ» ورقة بحثية بعنوان «انفجار الثقوب السوداء» شرح خلالها هوكينغ مصطلحه الشهير «إشعاع هوكينغ»، فكان هو أول من افترض أن الثقوب السوداء تبث الإشعاع أيضًا، وليست تمتصه فقط.
ينص إشعاع هوكينغ أنّ الثقوب السوداء تفقد كتلتها على شكل إشعاع، وأن شكل الفقد هذا يعتمد على درجة حرارتها. الثقوب الكبيرة كفاية ستتبخر ببطءٍ عبر تريليونات السنين، بينما الثقوب السوداء الأقل حجمًا ستبث الإشعاع فيما يشبه انفجارًا. كل هذا يدعم فرضية تتبع الجاذبية الكمية، وتذكر أن لا وجود لما يسمى انهيار المادة على نفسها، وإنما تظل المادة تتكثف لحجم معين، فأقل حجم يصل إليه ثقب أسود مثلًا هو حجم الذرة، وحين تصل المادة لأقل تكثف ممكن تبدأ مجددًا في التمدد، الأمر الذي يسير في اتجاه تأكيد أنّ كوننا ربما يكون قد نشأ عن كون قديم سابق مُنهار، ويعتبر كذلك داعمًا قويًا لنظرية الانفجار العظيم.
للأسف، في الوقت الراهن حتى نتأكد من فرضية انكماش الثقوب السوداء، يتعيّن علينا الولوج داخل إحداها وهو أمر مستحيل، لكن حتى لو اخترنا مراقبتها من الخارج فالأمر أكثر استحالة فالزمن داخل الثقوب السوداء يمر أسرع من خارجها بتريليونات المرات، فما يحدث في ثوانٍ معدودة داخل الثقب الأسود ربما حتى لن تلحظه أجيال أجيالنا عندما تراقب الثقب من مكانهم على الأرض.
ما الخطوة التالية؟
مهما حاولنا سرد فوائد التقدّم الذي أحرزه فريق «أفق الحدث» بالتقاطه لتلك الصورة لن يمكننا أن نجد سببًا يعلو فوق الفضول الإنساني، فكل المعارف التطبيقية نشأت في الأساس من بحوث أساسية، وستكون نظرةً جدُّ قاصرة إذا سألنا أنفسنا في كل مرة نتقدم خطوة: كيف سيعود هذا بالنفع على البشرية؟
كان أولى بنا الاستسلام لهذا السؤال ونتوقف عن البحث وقتما اكتشفنا ميكانيكا الكم، فكيف سيفيدنا اكتشاف خواص الجسيمات دون الذرية؟
لكن جيد أننا لم نفعل… فميكانيكا الكم ساهمت في خلق التصوير بالرنين المغناطيسي في المجالات الطبية الذي أنقذ ملايين البشر منذ اكتشافه. صدقني لو حاولنا تثبيط الفضول الإنساني بحجة ماذا سنستفيد لما كنا هنا الآن.
ناهيك أن أحدًا يستطيع ذلك، ربما علينا أن نتواضع قليلًا ونتخيل أينشتاين يبتسم الآن بعد صورة الثقب الأسود التي تنبأ بها قبل 100 عام، ويقول عبارته الشهيرة: