لماذا يكرهون تاريخ مصر العثمانية؟
لم يكن انطواء القاهرة تحت الحكم العثماني/ التركي بالحالة الفريدة العجيبة في تاريخ مصر الإسلامية، فقد سبقهم المماليك الأتراك والشراكسة والمغول، والأيوبيون الأكراد، والفاطميون المغاربة، والإخشيديون الأتراك، والطولونيون الأتراك، والولاة العرب. فلماذا يكره بعضنا تاريخ مصر العثمانية؟!
السبب الأول: العاطفة
والمقصود هنا هو تحكيم الهوى، فالتاريخ لا نتعامل معه وفق أهوائنا، وهو لا يعترف بمصطلحات الحب والكراهية، ومن أول وأهم شروط البحث العلمي الموضوعية، أي البعد عن التحيز وإصدار أحكام مسبقة، أو إصدار أحكام دون الاستناد إلى أدلة علمية.
الهوى يميل بالإنسان إلى حيث يشاء، يدفع صاحبه إلى التغاضي عن خطايا وكوراث ومصائب، بل يبحث لها عن تخريجات وتأويلات عجيبة، ولو جاءت واهية أو ساذجة. والكراهية تقود صاحبها إلى «تسويد» الوقائع وتضخيم الأخطاء والهفوات إلى خطايا، والزلات إلى كوارث، لهذا ينصحنا القرآن الكريم بعدم تحكيم الهوى:
وجعل من أمارات النبوة عدم نطق الرسول بالهوى، فقال تعالي واصفاً ومادحاً رسولنا محمد (صلى الله عليه وسلم):
السبب الثاني: صورة غير مكتملة
توافرت في أحداث المعارك الفاصلة بين العثمانيين والمماليك كل متطلبات العمل الدرامي التاريخي. اشتباك وقتال على أرض (مرج دابق) شمال حلب، خيانة من الأمير المملوكي «خاير بك» في لحظة حاسمة تقلب الهزيمة الأولى للعثمانيين إلى انتصار، صدمة الخيانة تصيب السلطان المملوكي «قنصوه الغوري» بالشلل، فيقع عن فرسه مقهوراً مشلولاً، أو يقتل نفسه منتحراً، ولا يُعثر له على قبر.
في القاهرة، طومان باي، آخر سلاطين المماليك، يرفض عرضاً من سليم بأن يكون نائباً له على حكم مصر على أن يدفع الجزية إلى إسطنبول.
يحشد جيشاً مُفكك الأوصال في معركة فاصلة بصحراء العباسية، فينتصر عليه العثمانيون، ويطوي السلطان الخاسر العلم السلطاني ويولي هارباً، لكنه لا يستسلم للهزيمة، ويشن غارة ليلية على معسكر العثمانيين في «بولاق»، وتدور معارك في شوارع القاهرة، يُحقق فيها طومان باي انتصارات مؤقتة، ثم تحيق به الهزيمة، لكنه لا يستسلم.
يفر السلطان الأخير إلى الصعيد ويحشد قواته لمعركة أخرى مع سليم، ويخسرها أيضاً، يختبئ لدى صديقه «حسن بن مرعي»، لكن صديقه يخونه ويشي بمكانه للقوات العثمانية.
مقابلة بين السلطانيين المملوكي والعثماني، يبدي فيها سليم إعجابه بشجاعة طومان باي، ويكاد يطلق سراحه، بيد أن خاير بك يخشى على نفسه، فيوغر صدر سليم حتى يأمر بإعدام آخر سلاطين المماليك شنقاً على باب زويلة، فيتدلى جسد السلطان المملوكي في 13 أبريل/نيسان 1517، ويُسدَل الستار على دولة فرسان المماليك، بعد أن حكمت مصر منذ عام 1250، وتصدت للتحديين الصليبي والمغولي.
هذه الأحداث الدرامية ألهمت عديدًا من الكُتَّاب لكي يكتبوا عن سيرة آخر سلاطين المماليك ونهاية دولة فرسان المماليك. كتب محمد سعيد العريان «على باب زويلة». كتب عبد المنعم ماجد «طومان باي». كتب حسين فوزي «سندباد مصري». كتب جمال الغيطاني «الزيني بركات». كتب صلاح عيسى «رجال مرج دابق». كتب جمال بدوي «شهداء وضحايا من تاريخ الإسلام»، وغيرهم.
هذه الكتابات عرضت لجانب واحد من الصورة، لا الصورة الكاملة.
السبب الثالث: تحول مصر إلى ولاية
مع دخول العثمانيين القاهرة يقولون إن مصر «فقدت استقلالها»، وتحوَّلت إلى إيالة عثمانية (أي ولاية) بعد أن كانت مركزاً لإمبراطورية المماليك التي حكمت مصر والشام والحجاز.
هذا السبب يغلب عليه الجانب القومي التعصبي، فالكتابات القومية تفرح حينما تمتد السلطة التي تحكم القاهرة إلى الشام والحجاز وأحياناً اليمن، وتحزن حينما تمتد سلطة العواصم الأخرى إلى مصر/ القاهرة.
وهكذا يجري تقديم العصر العثماني باعتباره «جملة اعتراضية طويلة» بين عصرين، كانت فيهما مصر قوة إقليمية كبرى، يسبقها دولة المماليك (1250-1517) التي مدت حدود مصر إلى الشام والحجاز، ويتبعها دولة محمد علي (1805-1849) التي خلقت دولة حديثة على النمط الغربي، وأعادت مصر قوة إقليمية كبرى تبسط سلطانها على السودان والشام وشبه الجزيرة العربية وجزيرة كريت بالبحر المتوسط.
إذاً حزن أهالي القاهرة لأن حاكمهم تعينه إسطنبول، فهل يحق لأهالي غزة وبيت المقدس ودمشق وحلب وحماة وطرابلس ومكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة أن يحزنوا لأن السلطان المملوكي في قلعة الجبل بالقاهرة هو من كان يُعيِّن حكامهم؟!
هذا الرؤية القومية لم تتوقف عند الوجود العثماني بالقاهرة، بل تمتد أحياناً لتشمل الوجود العربي/ المسلم، وترى في الفتح الإسلامي احتلالاً، وفي الوجود العربي ضياعاً للشخصية المصرية، وفي الولاة الذين تُرسلهم المدينة المنورة أو دمشق أو بغداد ممثلين للاحتلال العربي، إلى أن تستعيد مصر شخصيتها القومية في عصر الدول المستقلة، أي في عهود الدول الطولونية والإخشيدية والفاطمية والأيوبية والمملوكية، حينما تتحول القاهرة لتكون هي مركز الحاكم/ السلطان/ الخليفة الذي يمد سلطانه وصولجانه إلى العواصم القريبة.
المفارقة أن حكام تلك الدول السلطانية لم يكونوا مصريين بالمعنى الضيق للكلمة، فـ «أحمد بن طولون» تركي ابن تركي، و«الإخشيد» تركي ابن تركي، والفاطميون عرب مغاربة، والأيوبيون أكراد، والمماليك من أجناس شتى، من الترك والشركس والمغول، فالسلطان المظفر قطز تركي، والظاهر بيبرس تركي. لكن الكتابات القومية تكره العثمانيين لأنهم أتراك غلاظ جفاة، وتُحابي الطولونيين والمماليك رغم أنهم أتراك.
السبب الرابع: طريق الشرق أم الغرب؟
كراهية الوجود العثماني في مصر والشرق الإسلامي تتعدى تحول مصر إلى ولاية، ولو كانت ولاية متميزة في الدولة العثمانية، وتكون القاهرة هي المدينة الثانية في الإمبراطورية بعد إسطنبول. الأمر له علاقة بالسبيل الذي تتبعه البلاد للتقدم والرقي.
منذ منتصف القرن التاسع عشر تقريباً انقسم العقل المسلم – وأقصد المسلم عقيدةً وغير المسلم ثقافةً – إلى فريقين: إسلاميين وعلمانيين، وقد اختلفا حول سبل النهضة. من بين ساحات الخلاف الفكري بينهما؛ رأي فريق من العلمانيين أن الحملة العسكرية الفرنسية (1798–1801) هي بداية دخول مصر في عصور التنوير والحداثة، ولكي يتم تقديم حملة احتلال عسكري باعتبارها يد التمدن الأوروبي التي امتدت إلى مصر لانتشالها من ظلمات الاستبداد المملوكي والعثماني، جرى تشويه ما يسبق الحملة، وما يسبق الحملة لم يكن إلا العصر العثماني.
السبب الخامس: الخلافة
مع إلغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة العثمانية عام 1924 – ولم تكن سوى رمزاً روحياً لوحدة المسلمين – تطلع مسلمون إلى إحياء الخلافة.
هذا التطلع ما زال قائماً إلى اليوم، إذ يتمسك بحلم الخلافة إسلاميون، فيما يرفضها علمانيون، ولتحطيم «فكرة» الخلافة يجري تجسيدها في «الخلافة العثمانية»، فإذا كان من الصعب مواجهة الفكرة فإن من السهل تجسيدها ثم تحطيمها، وهذه هي «استراتيجية التجسيد والتحطيم».
السبب السادس: قومية الانسلاخ
تأثرت النظرة للدولة العثمانية بما حدث لها وعلى أيديها، أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، من مظالم في الشام، وما قيل عن استبداد السلطان عبد الحميد الثاني (حكم من 1876 إلى 1909)، ونشوء النزعة القومية العربية في بلاد الشام.
كان للقومية العربية بالشام وجهان، وجه علماني تغريبي يدعو إلى الانسلاخ عن الرابطة الإسلامية، خالطاً عن عمد بين الرابطة الإسلامية والرابطة العثمانية. ووجه قومي حميد يدعو إلى تكوين رابطة قومية لا تتعارض مع الرابطة الإسلامية، فالاستبداد والظلم والفساد لا تكون معالجته بالدعوة إلى الانفصال السياسي عن الدائرة الكبرى والركون والتبعية للغازي الأجنبي، ومواجهة التحدي تتطلب أن تتقوى الدائرة الصغرى بالدائرة الكبرى، بديلاً عن الانقسام إلى دوائر صغيرة متناثرة كقطع الفسيفساء. [1]
ومقابل القومية العربية الضيقة، غالت الدعوة الطورانية في الدعوة إلى التتريك، حتى نادى أحد أنصارها «عبد الله أفندي» إلى إزالة أسماء الخلفاء الراشدين من الجوامع، ووضع أسماء السلاطين العثمانيين الأوائل، ونادى بعضهم إلى تخليص التراث التركي من المؤثرات العربية والفارسية، وتأكيد سيادة العنصر التركي على العناصر التي تعيش في الإمبراطورية العثمانية [2]، فكان لدعوة بهذه العنصرية أن تصطدم بالقومية العربية – بوجهيها الضار والنافع – صداماً دموياً.
فتح «جمال باشا الاتحادي» حاكم الشام أبواب الجحيم على القوميين العرب، فسجن وعذب وشنق. جاءت فظائع جمال باشا بنتائج غير التي يريدها، إذ قوَّت روح الانفصال لدي القوميين العرب للفكاك من هذا الحاكم الظالم المجنون، ليعلن «الشريف حسين» في الحجاز – بتحريض من الإنجليز – التمرد على الحكم التركي في الشام وشبه الجزيرة العربية، فانتصر الإنجليز وخسر العرب والأتراك.
هذه الذكريات الحزينة المؤلمة غلبت على كتابات المؤرخين وكتب التاريخ المدرسية، وقد عممت مظالم الاتحاد والترقي على سائر تاريخ العثمانيين.
وفي البلقان، انعكست النظرة القومية على مؤرخي تلك البلدان، حتى تركيا الحديثة، والتي قامت على هدم الدولة العثمانية، وجهت نقداً شديداً إلى التاريخ العثماني.
السبب السابع: التاريخ الأكاديمي
لسنوات طويلة، لاقى العهد العثماني عزوفاً من الباحثين والمؤرخين، فقد وقع في «منطقة حدود غير متنازع عليها» بين مؤرخي العصور الوسطى، والتي وضعوا لها حداً فاصلاً هو عام 1517 مع دخول العثمانيين للقاهرة، وتاريخ العصر الحديث وقد وضع له المؤرخون نقطة بداية مع الحملة الفرنسية عام 1798.
اعتبر مؤرخو العصور الوسطى سقوط إمبراطورية المماليك في 1517 خط الحدود الأكاديمي الفاصل بين العصور الوسطى والعصر الحديث، واعتبر مؤرخو العصر الحديث الحملة الفرنسية بداية العصر الحديث لمصر، متأثرين بمفهوم الحداثة على النمط الأوروبي.
صحيح أن فريق من مؤرخي العصر الحديث يرون زحزحة خط الحدود الأكاديمي إلى عام 1517، لكنهم يستمرون في ارتكاب خطايا باقي رفقائهم ممن يبدءون تأريخهم بالحملة الفرنسية، إذ يعتبرون – تحت تأثير المفاهيم الاستشراقية – القرون الثلاثة لمصر العثمانية قرون «ركود» و«اضمحلال»، لتبدأ عجلة الحداثة والتنوير في الدوران مع قدوم الحملة الفرنسية. [3]
التقسيم السابق لتاريخنا ما بين عصور قديمة ووسطى وحديثة يأتي متأثراً بالأحداث الأوروبية، ذلك أن مؤرخي أوروبا يربطون كل مرحلة بحادث أوروبي خطير، فالعصور القديمة تبدأ بأقدم الأزمان وتنتهي بسقوط روما أمام جحافل القبائل البربرية عام 476 ميلادياً، والعصور الوسطى تمتد من تاريخ سقوط روما إلى اكتشاف البحَّار الإيطالي «كريستوفر كولمبوس» للعالم الجديد عام 1492، لتبدأ العصور الحديثة في أوروبا منذ هذا التاريخ.
في الشرق، ينظر بعض مؤرخينا إلى أحداث التاريخ الأوروبي الكبرى ويبحثون عن أشباهها في تاريخنا، فالعصور القديمة تبدأ بعصور ما قبل التاريخ وتمتد إلى التاريخ اليوناني والروماني، والعصور الوسطى تبدأ بظهور الإسلام والفتوحات الإسلامية، فيما تبدأ العصور الحديثة – على خلاف – مع دخول العثمانيين للشام ومصر أو مع قدوم الحملة الفرنسية عام 1798.
أميل إلى عدم اعتبار دخول العثمانيين بداية العصور الحديثة في تاريخنا، إذ لم يعنِ دخولهم حدوث انقلاب خطير في حياة الأهالي، فلم يكن تحول مصر من مركز لإمبراطورية المماليك، إلى ولاية في إمبراطورية العثمانيين، يشكل انقلاباً خطيراً في حياة مصر والأهالي، بل سنرى أن الدولة العثمانية سوف تعمل على مداواة خطايا سلطنة المماليك من احتكار الدولة للتجارة، وفرض ضرائب باهظة على الأهالي، والعجز عن مواجهة التحدي البرتغالي في مياه المحيط الهندي وبحر العرب.
تاريخنا يمكن تقسيمه إلى عصور قديمة، وعصور حديثة، ولا وجود لشيء اسمه عصور وسطى. العصور القديمة تبدأ منذ فجر التاريخ وتمر عبر تاريخ الفراعنة إلى اليونان والرومان. تاريخنا الحديث يبدأ مع ظهور الإسلام، وقد صبغ حياتنا ونظرتنا للحياة والممات والكون، وشكَّل للأمة عقيدة للمسلمين، وثقافة لغير المسلمين من أبناء الأمة. هذا التاريخ الإسلامي ما زال مستمراً إلى اليوم ودون انقطاع، وسيبقي مستمراً إلى قيام الساعة.
وأميل إلى تقسيم تاريخنا الإسلامي إلى مرحلتين: دول سلطانية ودولة مركزية حديثة، ومعيار التقسيم هنا يهتم بتتبع وظيفة الدولة ودور الأمة في صناعة الحضارة الإسلامية. الدول السلطانية بحكم فلسفتها في الاجتماع السياسي تركت الباب على مصراعيه أمام الأمة وأبنائها لكي يبدعوا في سائر مجالات العمران البشري. أما الدول المركزية الحديثة فقد وفدت إلينا في ركاب الغزو الفكري الغربي في مشارف القرن التاسع عشر، وهي بحكم فلسفتها ونزعتها المركزية تسعي إلى السيطرة التامة على المجتمع، ولكي تبسط سيطرتها فإنها تعمل على إقصاء الأمة والتنظيمات الشعبية.
السبب الثامن: صورة ذهنية نمطية
بعض قرَّاء التاريخ ترسَّخت لديهم صورة نمطية عن التاريخ العثماني، بأنه قرون ركود وتخلف واضمحلال، وأستار من الجهل قد فرضها العثمانيون على العالم العربي.
الصورة النمطية عن العصر العثماني بدأت في التغير لدى بعض باحثي التاريخ المصري منذ أوائل السبعينيات، وقد عقدت الجمعية التاريخية ندوة عام 1974 عن «عبد الرحمن الجبرتي»، فكانت الندوة مُقدمة للأعمال التي اهتمت بالعصر العثماني، حتى صار هناك جيل من الباحثين الذين يتخصصون في دراسة التاريخ العثماني لمصر. [4]
من يُرِد قراءة موضوعية عن العصر العثماني فعليه بكتابات أساتذتنا: رءوف عباس، نللى حنا، مجدي جرجس، عبد الرحيم عبد الرحيم، حسام عبد المعطي، محمد عفيفي، محمد أنيس، عبد الرازق إبراهيم عيسى، المستشرق الفرنسي أندريه ريمون، المستشرق الأمريكي بيتر جران، وغيرهم الكثير من الباحثين الموضوعيين.
لا يصح أن يستمر بعض مفكرينا وأدبائنا في ترديد «كليشيهات مُعلَّبة» عن تاريخنا العثماني، دون الاطلاع على جهود أولئك الباحثين، ممن جعلوا هدفهم إظهار حقائق هذا العصر، لا التباكي على أطلال الدولة العثمانية، أو تسويد صفحات تاريخها.
السبب التاسع: الدراسات الاستشراقية
أقصد هنا التأثر بالنظرة الاستشراقية للإمبراطورية العثمانية. فآل عثمان هم من اقتحموا مدن الأناضول وفتحوا القسطنطينية عام 857 هجرياً/ 1453 ميلادياً، بعد محاولات دءوبة من جيوش المسلمين بدأت منذ القرن الأول الهجري.
بدخول العثمانيين القسطنطينية اختفت من الوجود الإمبراطورية البيزنطية بعد أن عمرت أكثر من ألف عام، مثَّلت خلالها قيادة العالم المسيحي الأرثوذكسي، فكان لسقوطها دوي هائل في الغرب، وقد ارتعد العالم الكاثوليكي حينما سمع القسم الذي ردده السلطان محمد الفاتح بأنه سوف يطعم حصانه على عرش القديس بطرس في روما.
ظلَّ الأوروبيون قروناً يعتبرون الدولة العثمانية «العدو الأكبر للمسيحية»، القوة الشيطانية التي تعمل على هدم المسيحية تحت ستار من الدين يقوم على الرياء، أو هي سوط الله الذي يُعاقِب به شعبه على كفره وخطيئته [5]. عكس المؤرخون والمستشرقون الأوروبيون هذه النظرة المتحيزة على التاريخ العثماني، مع قليل من الاستثناءات خرجت على الأحكام العامة التي أطلقت على تاريخ آل عثمان. [6]
ذكريات الصراع بين الدولة العثمانية وأوروبا كانت أعصى على النسيان، فلم تنمحِ من الذاكرة إلى اليوم. لم ينسَ النمساويون أن الجيوش العثمانية وقفت ذات يوم على أبوابها يطرقونها بعنف، وهو ما يقف عائقاً أمام طلب تركيا الحديثة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكي يبقي اتحاداً مسيحياً.
هذه النظرة الاستشراقية السلبية عن الإمبراطورية العثمانية تسربت إلى الدراسات التاريخية العربية من خلال الكتابات التي اعتمدت على كتابات الرحَّالة والقناصل الأجانب والمستشرقين، وهي كتابات تنعت المجتمعات العربية والإسلامية عامةً بالجمود والركود والتخلف، دون أن تراعي التباين بين أجزاء الإمبراطورية العثمانية، فما يصدق على الأناضول قد لا يسري على الولايات العربية، فضلاً عن أن معظم المعلومات التي استند إليها المستشرقون ترجع إلى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، فتغاضوا بذلك عن اختلاف الأحوال من قرن إلى آخر، وسحبوا استنتاجاتهم الخاصة بأواخر القرن الثامن عشر على العصر العثماني كله. [7]
- حول ميزان النظر للقومية العربية في الشام، انظر: طارق البشري، ماهية المعاصرة، الطبعة الثالثة، (القاهرة: دار الشروق، 2007)، ص 35: 40.
- للمزيد عن القومية الطورانية وصدامها مع القومية العربية، انظر: محمد أنيس، الدولة العثمانية والشرق العربي 1514 – 1914، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1993)، الفصل الثامن “الحركات القومية في الشرق الأدنى”.
- رؤوف عباس، من مقدمة كتاب نيللي حنا، تجار القاهرة، ص 12. كمال مغيث، مصر في العصر العثماني، 17.
- نللى حنا، الدراسات التاريخية الخاصة بمصر في العصر العثماني، بحث منشور ضمن كتاب: المدرسة التاريخية المصرية 1970 – 1995، إشراف محمد عفيفي، الطبعة الأولي، (القاهرة: دار الشروق، 1418هـ/1997م)، ص 161-172.
- توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام: بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية، ترجمة: حسن إبراهيم حسن، عبد المجيد عابدين، إسماعيل النحراوي، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1970)، ص 199.
- أحمد عبد الرحيم مصطفي، في أصول التاريخ العثماني، الطبعة الثانية، (القاهرة: دار الشروق، 1406هـ/ 1986م)، ص 7. هاملتون جب، المجتمع الإسلامي والغرب، ص 15.
- رءوف عباس، مقدمة كتاب: تجار القاهرة في العصر العثماني: سيرة أبي طاقية شاهبندر التجار، (القاهرة: مكتبة الأسرة، 2007)، ص 13. رءوف عباس، مقدمة كتاب: مصر في العصر العثماني 1517 – 1798: المجتمع والتعليم، تأليف كمال حامد مغيث، الطبعة الأولي، (القاهرة: مركز الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الإنسان، 1997).