لماذا تدعم ملاعب إسبانيا القضية الفلسطينية؟
لحظة، نحن الآن أمام موقف يبدو مفاجئًا؛ وزيرة أوروبية تتهِم إسرائيل مباشرة ودون تلميحات بارتكاب جرائم حربٍ، بل وتطالب جموع الشعب بالنزول إلى الشوارع لمطالبة الحكومة بأن تنأى بنفسها عن الانصياع خلف مطالبات الولايات المتحدة الأمريكية بمساندة إسرائيل، بل والوقوف لمساندة سكّان غزة في وقفات احتجاجية.
لم يكن ذلك تصرفًا فرديًا؛ «بيدرو سانشيز»، القائم بأعمال رئيس الوزراء، طالب كذلك الشعب الإسباني بالتظاهر لمساندة فلسطين، والاحتجاج على الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة.
استجابت الجماهير، واكتظت الشوارع الإسبانية بالتظاهرات المؤيدة لفلسطين والمُنددة بهجمات دولة الاحتلال. من مدريد إلى كاتالونيا إلى بامبلونا إلى الباسك، الجميع يؤيد فلسطين.
امتدت العدوى لملاعب كرة القدم؛ فرفعت جماهير ريال سوسيداد الأعلام الفلسطينية في المباراة التي جمعت فريقها بمايوركا، وسبقتها جماهير أوساسونا بنفس التصرُّف حين واجهت فريق غرناطة، الذي تضم قائمته لاعبًا إسرائيليًا، في افتتاحية الجولة العاشرة من منافسات الدوري الإسباني.
هل نحن أمام حادث فريد من نوعه؟
كل البيض في سلة واحدة؟
في الواقع، لدينا أكثر من مفاجأة. أولًا، هذا ليس حدثًا غريبًا على الكرة الإسبانية، ففي نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2022، أي قبل عملية «طوفان الأقصى» بأكثر من عام، كانت جماهير باسكية أخرى -أتلتيك بلباو- تصطف خلف مرماها، وتهتف «فلسطين حُرة»، لكن لسبب ما لم يُخبرنا أحد.
المفاجأة الثانية، هي أنّ مساندة جماهير كرة القدم لا علاقة لها بموقف الحكومة الإسبانية الواضح من النزاع؛ لأن التضامن في الحقيقة ليس حكرًا على إسبانيا، بل من المُمكن أن يأتي من جماهير داخل بلاد تتبنّى موقفًا مغايرًا تمامًا وتعلن بكل وضوح دعمها للكيان المُحتل.
هذه المواقف الحكومية، مثل حظر فرنسا، عبر بيان على لسان وزير داخليتها «جيرالد دارمانين»، لأي تظاهرات مؤيدة لفلسطين، لم تمنع مجموعة أولتراس باريس سان جيرمان اليسارية من شراء تذاكر مباريات الفريق للتعبير عن دعمها للقضية الفلسطينية في الملعب، كما لم تمنع جماهير لاتسيو اليمينية من الهتاف لصالح حرية فلسطين.
في الواقع، توجد عشرات الحالات التي توضِّح التباين الرهيب ما بين رؤى الحكومات ووجهات نظر شعوبها حول القضية الفلسطينية تحديدًا، والذي قد لا تتمكَّن الجماهير من التعبير عنه سوى في مكان مثل ملعب كرة القدم، حيث يكون ميزان القوة أقرب للتوازن، عكس الخروج والاحتجاج في الشوارع.
من تُساند؟ جماهير سيلتيك تُجيب
على الرغم من ابتعادهم عن محل الصراع بآلاف الأميال، تظل جماهير «سيلتيك» الأسكتلندي هي أكثر جماهير أوروبا تضامنًا مع القضيّة الفلسطينية، التي لا تفوِّت فرصة للتعبير عن المساندة غير المشروطة للمقاومة الفلسطينية وحقّها في استعادة أراضيها من الكيان المُحتل.
يعتقد المحاضر ومشجع سيلتيك «شون هدلستون» أنّ مناصري النادي الأسكتلندي أكثر ميلًا للجانب الفلسطيني لأسباب تتعلَّق بالهوية التاريخية للنادي، التي ترتبط بالتعاطف مع الجيش الجمهوري الأيرلندي، وقتاله ضد البريطانيين الذين احتلوا أيرلندا الشمالية، الذي يشبه بالنسبة لهم نضال الفلسطينيين ضد إسرائيل إلى حد كبير.
هذه الفئة -جماهير سيلتيك- ممن نفي ذويهم من أيرلندا إلى أسكتلندا، يُمكنهم التعاطف بشكل أكبر من غيرهم مع الشعوب المُهمشة. لذا تجد أعلام فلسطين وإقليم الباسك حاضرة في ملعب سيلتيك بانتظام.
وبالقياس، يمكن أن نفترض أنّ الجماهير الباسكية مُمثلة في جماهير «أتلتيك بلباو» و«ريال سوسيداد» وجماهير «برشلونة» و«أوساسونا» تشعُر بنفس الأُلفة تجاه الفلسطينيين؛ لأنهم أيضًا يمتلكون تاريخًا طويلًا من الاضطهاد داخل إسبانيا أثناء فترة حكم الجنرال «فرانكو» الديكتاتوري.
ومع ذلك، نجد حين نبدأ في مراجعة تاريخ إسبانيا مع القضية الفلسطينية، ومواقفها المختلفة من دولة الاحتلال، نجد أنّنا أمام حالة فريدة فعلًا، ليست مرهونة بمدى وحشية الاعتداءات التي بدأت بعد الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
قيود مفروضة
في مايو/أيار 2023، نشر موقع «Yougov» نتائج استبيان حول موقف عينة ضخمة من مواطني الولايات المتحدة وغرب أوروبا من الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي. وكان أحد أسئلة الاستبيان حول الجانب الذي تميل للتعاطف معه بهذا الصراع. كانت النتيجة، كما توقعت، أن الإسبان هم الأكثر ميلًا للتعاطف مع الفلسطينيين، بينما كان الأمريكان الأكثر تعاطف مع الجانب الإسرائيلي. في الحقيقة، يمكن للتاريخ أن يفسر هذه القصة.
حتى عام 1986، كانت إسبانيا الدولة الوحيدة في أوروبا الغربية التي لم تعترف رسميًا بإسرائيل، لعدة أسباب مثل: سياسات فترة حكم فرانكو المؤيدة للنازية والعلاقات الوثيقة ما بين إسبانيا والعالم العربي، التي جعلت الحكومة تُعلن في نفس اليوم الذي اعترفت فيه بإسرائيل كدولة، تأييدها للفلسطينيين في معارضة احتلال المناطق التي تم الاستيلاء عليها بعد عام 1967.
أما حاليًا، فالحكومة الإسبانية تنتمي للحزب العمالي الاشتراكي، ويرأسها «بيدرو سانشيز» يساري التوجُّه، الذي يبدو منطقيًا جدًا أن تتعارض وجهة نظره مع وجهات نظر الولايات المتحدة الأمريكية الداعمة لإسرائيل على طول الخط، وذلك حتى إذا ما قررنا أن نغض الطرف تمامًا عن تاريخ طويل من مساندة إسبانيا لفلسطين على مدار العقود الثلاثة الأخيرة.
السؤال المهم الآن: ما علاقة كل ذلك بكرة القدم؟ والإجابة هي أننا للأسف نتخيَّل فقط أن شعوباً كاملة يمكنها أن تتبنّى موقفًا واحدًا تجاه قضية بعينها، لكن الحقيقة، التي لا نعلم إذا كانت جيدة أم مؤسفة، هي أنّ هؤلاء الإسبان الذين لوّحوا بالأعلام داخل ملاعب سوسيداد وأوساسونا وبيلباو بكثافة، ربما كانوا فقط فئة سُمِح لها بالتعبير عن آرائها، التي توافقت بالصدفة مع وجهات نظر حكومتهم، وهو الأمر الذي قد لا يلقى إعجاب الكثير من حكومات الغرب في وقتنا الحالي.